د. ع. الصمد بلكبير
أولا: ما السلفية ؟
هذه كلمة مفارقة، بل ومضادة، بالتالي مضللة، دلالتها المعجمية لا تطابق الاصطلاحية، وهذا شأن اللغة، يميل معجمها عموما نحو الثبات، وإلا فلا تواصل، في حين تتجدد المعاني وتموت وتتراكم الدلالات، فتتجدد معها اللغة وتنمو بالانزياح والمجاز...إلخ.
مصطلح ومفهوم "السلفية" ليس عودة إلى الماضي، أو إلى السلف إلا كاستعارة، وإلا فهي حركة إصلاحية حداثية وتقدمية في شروطها التاريخية. إن التاريخ، ومنه تاريخ الأفكار، هو دائما تاريخ الاستعارات (هيجل). وإلا فهل ثمة من يستطيع استحضار الماضي كله حتى يؤرخ له (؟!) هنالك دائما انتقاء، إبراز، تهميش وإهمال، تقديم وتأخير وتأويل... للوقائع وللأحداث بالنسبة لأي مؤرخ
أو موظِف للتراث وللماضي التاريخي...
ليست السلفية الجديدة أو الحديثة، وحدها كذلك، بل إن مرجعها السلفي الوسيطي نفسه، كان كذلك أيضا، خاصة منه مؤسسها ابن تيمية، كلتاهما كانتا:
1-رد فعل مقاوم، ضدا على احتلال أو تهديد به.
2-اضطرتا إلى تجديد العقيدة والشريعة والسلوك، وإصلاح اللغة والتربية والتعليم... والإدارة... لخدمة ذلك.
3-وظفتا الدين ومؤسساته، سلاحا سياسيا للمنعة وللتعبئة وللاستئناف.
4-واجهتا خصما داخليا مستبدا، وعدوا خارجيا محتلا في نفس الوقت، حاربتا الوثنيات والإسرائيليات والشعوذة والسحر... في الدين والتدين، والظلم والعسف في السياسة، كما حاربتا اغتصاب الأرض والثروة والاستقلال والسيادة، من قبل الأجنبي... الغاصب...
غير أنهما معا، اعتبرتا الصراع ضدا على المحتل، أسبق وأولى من التدافع مع الاستبداد. ما عدا إذا أضحى هذا الأخير حليفا وعميلا للأول. وهذا نقيض ما هو عليه حال السلفية المعاصرة، والتي أمست لذلك رجعية بل وإرهابية-استعمارية في بعض حالاتها.
ثمة مع ذلك فرق بين اللحظتين أو المرحلتين في السلفية.
فإذا كانت الحديثة منها تقليدية تماما للغرب، نظير الطبقة الوسطى التي تمثلها. وذلك على المستوى الثقافي- الايديولوجي..
فإن سلفية ابن تيمية خاصة، كانت نقدية اجتهادية، ورائدة عالميا في شروطها التاريخية. وذلك خاصة في الأمور التالية:
1-تجاوزها ونقدها للإرث الثقافي العبودي-الإقطاعي السابق عليها: الفلسفة اليونانية والمنطق الصوري الأرسطي...
2-رفضها لاستراتيجية علم الكلام الاجترارية (=الطوطولوجيا). والذي لم يكن سوى سياسة قديمة لمجتمع قديم، كنسي ثم إسلامي، وظفت الدين لخدمة السياسة الرسمية للدولة القائمة، وأحيانا لمعارضاتها كذلك... ومحاولتها إنتاج علم للواقع، بديل عنه.
3-رفض التصوف ومناهضة الطرق، وذلك باعتبارهما تمسيحا ارتداديا للإسلام، وإبعادا ممنهجا للمسلمين عن الاشتغال بالشأن العام (=السياسة).
4-ضد "علوم" التفسير والحديث... وذلك باعتبارها تأويلات ايديولوجية لاحقة ومغرضة للدين، وليسا الدين. وذلك رغما عن مظهرها الخارجي الخادع.
5-ضد الفروق والصراعات المصطنعة بين الفرق والمذاهب (سنة، شيعة..) والتي لم تكن دينية بحال، بل سياسية أساسا، استغلت الدين ضدا على هدفه التوحيدي للأمة... والحال أن الشروط السياسية السابقة للاختلافات المذهبية تلك... في عصره (وأحرى عصرنا) لم تعد قائمة، بل استحالت إلى نقيضها، وذلك خاصة، بفعل التدخل الأجنبي.
6-ضد التشريع المجرد والنظري-الصوري والاستنباطي... والمذهبي للأحكام الفقهية والواقعية، والذي لا يراعي شروط الأحوال القائمة، وأسس بالفتاوى، في النوازل الطارئة ومختلفة، اختلاف شروطها وشروط الزمن والأمكنة..
7-ضد التفريق بين المتساكنين، على أساس الملة والدين بل المواطنة، وهكذا اعتبر المسيحيين واليهود العرب إخوة للمسلمين العرب، وأقرب من مسلمين غير مواطنين، وأحرى إذا كانوا معتدين.
8-وبذلك أيضا ساهم في تأسيس علم السياسة الحديث (نظير ابن خلدون وميكيافيل) وذلك بتمييزه بين التصنيفين الديني والسياسي من جهة. ومن تم تمييزه بين التناقضات الداخلية التي تصبح ثانوية، عندما يحل مكانها تناقض رئيس أجنبي خارجي، ولو كان مشتركا في الدين (التتار).
[هذا الدرس التيمي، هو ما لم يستوعبه "ثوار" ما سمي أمريكيا بـ"الربيع العربي" فتحول لذلك إلى فوضى وفتنة وخراب وردة.. إن الذي يقدم الاستبداد على الاستعمار كعدو، يجد نفسه موضوعيا ينفذ استراتيجية هذا الأخير... الاستعمارية].
* * *
إن اللحظة الوهابية، في مسيرة السلفية،لم تكن أقل اجتهادا أو مردودية عند انطلاقها وتأسيسها، نقيض مآلها، ذلك لأنها:
1-استمرت في العمل على تخفيف العقيدة والشريعة... من موروثاتها الايديولوجية المتراكمة... ومحاولة العودة بهما وبالسلوك، إلى الأصول التأسيسية البسيطة وشبه الفطرية.
2-حرب الإسرائيليات والشعوذات، وخاصة الوثنيات، التي علقت أو اخترقت الشعائر الدينية (عبادة الأحياء والأموات خاصة).
3-حرب التسيب والفوضى والفتنة القبلية والمذهبية-الطائفية.. وتوحيد الجهات والعشائر.. في كيان إدارة دولة واحدة وموحدة مستقلة وذات سيادة (أكثر من مليوني كلم2) وهو أخطر حدث تاريخي في حينه.
* * *
الأصول الوسيطية للسلفية الحديثة، هي نفسها إذن، كانت: عقلانية-نقدية-إصلاحية... ومجتهدة... غير أنها اقتصرت منها على البعد الديني في الإصلاح، أما السلفي-الاجتماعي والسياسي... فلقد أخذته جملة من الحداثة الأوربية: تراث النهضة والتنوير والعلم... ثم الثورة البورجوازية في الغرب (أوربا وأمريكا) والشرق (روسيا واليابان..) واقتصرت لذلك، أو بالأحرى اضطرت، لتمريره من خلال السلف "الصالح" تسويغا وتوظيفا... فدافعت عن العقل والعقلانية وعن العلم والتقنية... وعن العمل... وذلك باعتبارها جميعا "روح الإسلام".. ومررت وضعية كونت من خلال ابن خلدون وقيم ومبادئ فولتير والثورة الفرنسية من خلال على وخطبه في "نهج البلاغة"، وعن نظرية التطور الطبيعي من خلال الرازي فخر الدين وابن مسكويه "وإخوان الصفا"... إلخ. وأغلب ذلك تم بمبرر وتحت لافتة وشعار: إن هذا كان عندنا وأضعناه واستعاره الغرب وتقدم به ونحن لذلك أولى به منهم، أو أنه الإسلام الذي يخالفه المسلمون...إلخ.
كل ذلك وغيره لا ضير منه أو فيه، مادام يسوغ إيديولوجيا، ويضفي المشروعية على أهداف سياسية واقعية، سديدة ومطلوبة... بل إن بعضه صحيح تاريخيا... ثم إن أوربا النهضة نفسها توسلت بمثله، الم تعمد إلى فرض "العهد القديم" مرجعا لفهم وتفسير الإنجيل الذي أضحى "عهدا جديدا" وذلك بالنظر إلى بعده المادي (=الوثني) والبشري، وعادت إلى التراثين اليوناني-الروماني... لأجل تأسيس وتبرير ماديتها وعقلانيتها المبتدعة. وعلومها التجريبية المبتكرة ومنطقها الحديث... هي أيضا "تسلفت" نحو تاريخ مؤول ومستعار، وذلك بهدف تحقيق قفزة ثورية نحو المستقبل المنشود، والفرق، أنهم كانوا في ذلك أحرارا غير محاصرين ولا مهددين ولا بالأحرى محتلين. في حين كانت سلفيتنا مقيدة غير حرة ومحافظة، ذلك لأنها كانت دفاعية ومقاومة... المحافظة ليست رجعية دائما... غير أنها اليوم أضحت كذلك فعلا للأسف.
[ أحيانا كثيرة، كان التأويل متعسفا، ولكنه غير مضر في حينه، من ذلك مثلا دعوتهم (السلفيين) إلى الحرية وذلك اعتبارا لمأثور عمر t "كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" هذا مع أن مفهوم عمر للحرية، لم يكن يتجاوز مفهوم زمنه لها، أي ما يناقض العبودية، أما المفهوم الحديث لها فأمور أخرى، لا علاقة لذلك التاريخ ولذلك التراث بها، بل هي منتوج العصر الحديث حصرا؟؟]
السلفية الجديدة (=الحديثة) إذن، كانت إصلاحية، حداثية:
1-راهنت على الإصلاح الثقافي-اللغوي والتربوي التعليمي.. (الديني في صلبه) شرطا لبقية الإصلاحات الاجتماعية والسياسية.
2-جردت الدين والتدين، من شوائبهما الإقطاعية والقبلية الموروثة: القدرية والطرقية والفوضوية والوثنية وعبادة الموتى والأحياء والإسرائيليات... واحتقار المرأة وتهميش الأطفال والشباب...
3-وبذلك أهلت الدين ومؤسساته... لوظيفته الرئيسة في المجتمع: مقاومة الاستعمار، والاستبداد والفساد المتفرعين عنه.
4-دافعت عن العقل والعقلانية وعن العلم والتعليم والمساواة والحرية والتحرر والاستقلال والوحدة والديمقراطية... وتوسلت لجميع ذلك بوسائط مدنية أساسا لا دينية: الصحافة والنقابة والحزب والجمعيات الخيرية والكشفية والثقافية والفنية والرياضية... وأشركت المرأة والشباب في جميع ذلك، واهتمت بالطفولة أيضا.
لقد كان هدفها الاستراتيجي سياسيا: وطنيا تحريريا وديمقراطيا، اضطرت إلى التمهيد له بعمل اجتماعي-ثقافي... كان ضروريا وانتقاليا لتوعية الأذهان وتنمية الأفهام وتوحيد الإرادة الشعبية وحشدها وتعبئتها وتنظيمها...
5-عملت على إحياء وإشاعة التراث العقلاني والعلمي والمتنور... في إسلام الصدر والعصر الوسيط: المعتزلة – الفلسفة – الأدب ونقده.. قبل انحطاطه نحو التقليد والشكلانية والابتذال والعبث...
6-الرد على الأطروحات التغليطية والتيئيسية... الاستعمارية-الاستشراقية والتبشيرية... والتي تفسر تأخر المسلمين بالإسلام لا بالاستعمار، وتطعن في تاريخ المسلمين... باعتباره تاريخ الاستبداد والغزو فقط (؟ !)
7-مناهضة التوظيف الاستعماري-الإقطاعي للدين ولمؤسساته،في السياسة.. والنضال من أجل تحريره من إدارة الدولة، وإرجاعه للمجتمع، محصنا له، ومربيا لأفراده وأسره، ومنظما لمنعته ومقاومته. وبعث وترسيخ ثقة المسلمين في مؤهلاتهم ومقوماتهم وتاريخهم... بالتالي في مستقبلهم...إلخ.
استخلاص:
السلفية إذن، هي وعي مدني، وحركة حداثية، تعكس ايديولوجيا طبقة وسطى فتية ومستضعفة، وذلك من قبل إقطاع محلي واستعمار أجنبي، يوظفان معا الدين ومؤسسـاتـه لأجــل تكريـس الشعـوذة والـدجـل مـن جهـة وتبريـر الاحتـــلال والاستبداد والتبعية من جهة ثانية.
ولأن الطبقة الوسطى إياها، توزعت في الموقف من الغرب واستعماره، بين مهادن له ومناهض. فكذلك نلاحظ توزع وعيها وحركتها السياسية بين:
1-حليف مسالم أو حتى مندمج، في الإدارة الاستعمارية، مراهنا على تحقيق الإصلاح من خلالها. ومن تم الاقتصار على الدعوة الشفوية في التعليم والمجالس والمحاضرات، أو المكتوية في الصحافة (نموذج محمد عبده مشرقا،
وأبو شعيب الدكالي مغربا).
2-حركية ومناضلة، ضدا على الاحتلال الاستعماري للأرض والثروة وإدارة الدولة... وهذا الجناح، اضطر أحيانا لمسالمة بعض الموروث الشعبـوي في الديـــن ومؤسساته القبلية أو الطرقية. هذه السلفيـة، أساسـا، هي من أسسـت، وقـادت الحركة الوطنية لاحقا، أمثلتها كثيرة ومعروفة (الأفغاني في المشرق والخطــابي
وابن بادس والفاسي في المغرب مثلا).
المشترك بين التوجهين في السلفية، كان، الموقف المناهض للتأويل الإقطاعي والقبلي الشعبوي للإسلام الموروث.
أما الموقف الاستعماري منهما، فلقد اختلف لذلك أيضا، بين تعاونه مع الأولى، ودعمها، ومحاربة الثانية واضطهادها.
ثانيا: السلفية الحديثة في المغرب:
لاشك أنها أولا، منتوج الأولى المشرقية، السابقـة عليهـا والرائــدة لها، فهي لذلك تعتبر امتدادا لها.
غير أنها مع ذلك تميزت بجملة خصائص، اشترطها التاريخ الخاص وشرطتها الجغرافيا كذلك: أهم ذلك كان، وبعضه ما يزال بعد مستمرا.
1-أن السلطـة الحكوميـة المغربيـة (المخــزن) لــم يكـن خصيـمـا أصيــلا للسلفية، بل على العكس تماما، فلقد كان في الغالب ميالا لها، داعيا إليها أحيانا. وذلك على الأقل منذ حكم المولى سليمان وتبنيه للوهابية وإصلاحاتها الدينية، بل وقبله محمد بن عبد الله... لذلك فلقد انطلقت مغربيا في مواجهة المجتمع أكثر من مواجهة إدارة الدولة، واهتمت لذلك بالتربية والتخليق... أكثر من السياسة وقضايا الحكــم.
2-وأيضا، فإن الزوايا والطرق الصوفية، لم تكن مغربيا، داعمة للشعوذة والدجل عموما، بل على العكس، فلقد تميـز بعضهـا بالبعـد الإصلاحـي للديــن والمقاوم للاستعمار. وذلك مثل السنوسية والدرقاوية والكتانية والناصرية...
3-وعلى مستوى التصوف، فلقد غلب عليه في المغرب البعد السني عقديا، والعملي-الإحساني اجتماعيا... ولذلك فلقد كانت السلفية الحديثة فيه عموما، مراعية له، غير محاربة له إلا في حدود، بل وأحيانا امتدادا له وتقاطعا أو توازيا وحتى تطابقا معه.
4-لم يقتصر تميزها مغربيا على هذا البعد الحركي والاجتماعي-الشعبي... مقارنة إلى أصولها المشرقية... بل امتد ذلك لواقع قصورها النظري وضعف عنايتها بالتوثيق الكتابي، مقارنة إلى طابعها الشفـوي والعملـي والتنظيمـي.. من خــلال المجالس والمحاضرات والعرائض والحملات... ضدا على الرموز والممارسات... الوثنية في الأضرحة والمواسم وغيرها.
5-بالرغم من أن شيخ الإسلام، يعتبر بحق، رائد المدرسة، ومؤسسها وراعي أطرها من الشباب، والموجه لتحولاتهم نحو العمل السياسي الوطني. إلا أنه مع ذلك كان مسبوقا برعيل أول،لم يمهد لبروزه مباشرة، غير أنه مهد المناخ العلمي للنخبة، خاصة في الإدارة، وجامعتي القرويين وابن يوسف والأعيان.. نقصد من ذلك خاصة أمثال: محمد كنون وأحمد بن خالد الناصري ومحمد بن ع. الكبير الكتاني وازنيبر وابن المواز ومحمد السايح وعبد الله السنوسي... فضلا عن أبي شعيب الدكالي والرافعي المجايلين تقريبا للشيخ ابن العربي.
ثالثا: الشيخ محمد بن العربي العلوي:
1 -الشيخ، من الاضطهاد... إلى الغبن:
لقد طال الغبن والتهميش جميع رموز الفكر والحركة السلفيتين في مغرب "الاستقلال" ولا يتصل الأمر في هذا الصدد، كما في غيره من نظائره، بإهمال عفوي، بل بتدبير مقصود، وذلك من قبل نفس الذين حاربوا الحركة ورموزها وهم أحياء، استمروا في محاربتهم، عن طريق إهمال ذكرهم والتذكير بهم، وهم شهــداء، لا يقتصـر الأمـر عـلى الإدارة وحدهـا، بل إن المجتمـع أيضـا (أحـــزاب، نقابات...)يشارك في الجريرة،المسؤولية في الحالتين تقع على هيمنة الفرنكوفونيين، ورثة الاستعمار القديم (؟!)
غير أن الشيخ ابن العربي بالذات، أهمل أكثر من غيره، وذلك خاصة مقارنة إلى أهميته وعطائه وأدواره الرائدة على شتى المستويات التي اشتغل فيها. فمباشرة بعد وفاته بعد عمر مديد، دبر أمر الإقصاء من جميع المجالات العامة والخاصة، بما في ذلك خاصة الجامعة والمقررات المدرسية... والكتاب السيري الوحيد والذي كتب على عجل في تأبينه للأستاذ عبد القادر الصحراوي (1964) لم تعد طباعته، تأثرا بالموقف السلبي من صاحبه (=الصحراوي). ثم جريدة "العلم" في حوار مطول حول الشيخ، مع أحد أهم تلامذته (ذ. إبراهيم الكتاني) أنجزه الصحفي نجيب خداري بتكليف من مديرها الأستاذ عبد الكريم غلال، ثم طبع مجموعا في كتيب بأمر من السيد محمد الدويري. غير أنه لم يحظ بتوزيع ملائم (؟!).
وأخيرا، وباللغة الفرنسية أصدر الأستاذ موحا كنوش كتابا عن "شيخ الإسلام: محمد بلعربي العلوي" (2003 دار القلم بالرباط في 408 صفحة).
ومع ذلك، فيمكن أيضا إرجاع أمر التشجيع على الإهمال، إلى أمور أخرى ذاتية أهمها:
1-أنه كان أميل إلى العمل الحركي والتنظيمي والإداري، وإلى الخطاب الشفوي، فلم يترك لذلك كتابات موثقة، تسمح وتسهل مأمورية الاطلاع، ومن تم دراسة أفكاره ومواقفه.
2-أنه لم يؤسس، ولم يساهم في تأسيس، حزب أو جمعية شبيهة.. تدعو له وتحفظ ذكره وتشيع أخباره.
3-لقد مالت مواقفه عموما في اتجاه حدي صارم وعنيد. ولم يقبل لذلك إغراء أو مساومة وحلولا وسطى، وهو سلوك يصنف خارج منطق "السياسة" السائدة، لقد كان منفردا متفردا بدون أصدقاء وبدون حلفاء، إلا القلة من الزعماء.
4-وبعـد الاستقـلال، رفـض الاستفــادة مـن امتيـازات "استراحـة المحـــارب"
أو بالأقل،الانسحاب إلى العلم أو التصوف أو التجارة... كما عمد إلى ذلك الكثيرون بعيدا عن الحرج (السوسي، كنون، غازي، بوعيدة، عبد القادر حسن...) لقد استمر هو متقدما ورافعا راية النضال من أجل استكمال الحرية والتحرير الوطني ومن أجل الدستور والديمقراطية... يل ومساندا حركة التقدم الاشتراكي متمثلة في حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والذي أشرف على رئاسة مؤتمره الوطني الثاني في العام (1962) ودعا معه إلى مقاطعة الدستور "الممنوح" في نفس السنة.
من خلال ذلك يمكننا الوقوف عند أهم محطات وملامح سيرة ومسيرة الشيخ محمد بن العربي العلوي.
2 -في السيرة والمسيرة:
كان الشيخ يحب أن يعرف باسمه ونسبه كالتالي:
أبو مصطفى محمد بن العربي المدغري الفلالي الحسني العلوي الهاشمي القريشي.
يمتد نسبه الموثق إلى محمد بن عبد الله المعرف بـ"النفس الزكية" (وهو أخو المولى إدريس الأول، أول ملك مسلم للمغرب) بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط t بن علي t بن أبي طالب من فاطمة الزهراء y.
ولد بالقصر الجديد بمدغرة مدينة الراشدية إقليم تافيلالت، في العام (1880) وتوفي بمدينة فاس في العام (1964) ودفن بمسقط رأسه من دون مراسيم تأبين، وفي قبر مهمل وبدون ضريح، وذلك حسب وصيته.
نشأ وحفظ القرآن (من قبل أمه) والمتون.. في قريته، ممارسا قبل سن العشرين، جميع هوايات المراهقة والشباب في البادية الصحراوية، والتي يمكن اختصارها جميعا في مصطلح الفروسية: سباق الخيـل والصيـد والنجـدة وحمايـــة القوافل...إلخ.
التحق متأخرا في السن، بجامعة القرويين بفاس، مرفوقا بأبيه، الذي هجر أسرته وترك أعماله، لمدة ثماني سنوات، ملازما ابنه خلالها، وذلك حتى يحول وجهة اهتمامه، من بطولة الفروسية، إلى بطولة العلـم، ومـن قيادة خيـل الصحـــراء إلى سياسة خيل الله.
نجح الأب العنيد، في ما ألزم به نفسه وابنه، وعاد إلى أسرته وعمله، بعد أن وقف على صناعة قائد نادر المثيل في مواجهة الاستعمار والإقطاع والرجعية الدينية والفساد المجتمعي... وأيضا في تأسيس وعي جديد ونخبة حديثة... هي من سيقرر في مصائر المغرب المعاصر.
ومن أجل توفير مصادر المعاش، تولى وهو بعد طالب: خطة العدالة أولا، ثم قضاء مدينة فاس الجديد.
والتحق بهيئة التدريس في نفس الجامعة (1912)، وذلك قبل أن يصبح لاحقا رئيسا لمجلسها الأعلى، ودرس في نفس الوقت بالثانوية الإدريسية العصرية بفاس. وكذلك بالمدرسة الناصرية، والتي وقف هو نفسه على تأسيسها، وتعتبر اللبنة الأولى في سلسلة المدارس الحرة بالمغرب. وأيضا مدرسة "ماء العينين" بنفس المدينة...
عين ضمن أعضاء المجلس، الذي جمعته "الإقامة العامة الفرنسية" لمبايعة الابن الأصغر (محمد 5) للملك يوسف بعد وفاته (1927) ظنا منها أنه سيكون طوع بنانها.
انتقل إلى الرباط في منصب رئيس مجلس الاستئناف الشرعي (في رتبة وزير) وذلك قبل أن يصبح لاحقا وزيرا فعليا للعدل (1936-1944). وكانت تلك فرصته الأهم في الانفتاح واتساع الآفاق، ذلك أن الرباط كانت في هذه الفترة تشهد نهضة علمية استثنائية في المحاضرات ومجالس العلم والمناظرة.. وذلك من قبل ثلة من العلماء نادرة الاجتماع، أهمهم كان: الدكالي – السايح – المدني بن الحسني – الرافعي – الحجمرى – الكتاني.. وهم وغيرهم، كانوا من الرواد والمؤسسين للوعي السلفي والفكر الإصلاحي...
آخر مناصبه، كانت مع أول حكومة للمغرب المستقل، وزيرا مستشارا في مجلس التاج.
غادر فاس ليلتحق مجاهدا بالقائد موحا وحمو الزياني، عند بداية الغزو الاستعماري، غير أن هذا الأخير غير فجأة من خطته العسكرية، متراجعا عن حرب المواقع، نحو حرب العصابات، الملائم أكثر للجبال وللنظام القبلي.
وكذلك حصل له مع الثورتين الريفية أولا، ثم الفلسطينية لاحقا (1948)، حيث راسل جيشها المقاوم في الأمر، رغم أنه كان في الثامنة والستين من عمره.
أول اصطدام معلن له مع الاستعمار، كان في العام (1930) بمناسبة الظهير البربري المشؤوم، والذي كان:
1-لحظة تحول نحو الحركة الوطنية، انطلاقا من الحركة السلفية.
2-انتقال الوعيين السلفي والوطني، من النخبة، إلى عموم الشعب، في المدن والقــرى.
3-ربط وارتباط القضية المغربية، بامتدادها العربي والإسلامي(دور شكيب أرســـلان).
نفي عدة مرات إلى: مدغرة مسقط رأسه/وإلى قرية القصابي (الأطلس المتوسط) ثم إلى تزنيت حيث فرض عليه تجويع ممنهج كاد يقضي منه.
وحكم عليه بالإقامة الإجبارية بمنزله في فاس (1951). وفي ذلك جميعه، كان يردد: السجن فرصة للتفكير، والنفي فسحة للسياحة والموت شهادة، وذلك اقتداء بمن اعتبره قدوة له: ابن تيمية.
استقال ثلاث مرات من منصبه السامي كوزير، (1944 و1959) ثم كوزير دولة (1962). وهو أمر منعدم المثيل في التقاليد المغربية، وعاد إلى حياة الزهد في منزله بفاس، يعيش بدون أجرة، من بيع حليب بقراته الأربع، وما تبيضه بعض دجاجات في خم منزله.
رفض مقترح اقتسام السلطة بين ملكين أحدهما إمام دينـي (ابن عرفـــة) والآخر مدني (محمد الخامس).
ثم رفض مبايعة سلطان الحماية "محمد بن عرفـة"، بل وأفتـى بشرعيـة قتلــه دينيا، كما أفتى، بقتال عموم الخونة وعملاء الاستعمار. ورفـض بحـزم، فكـرة تأسيس "مجلس المحافظة على العرش"، خلال مفاوضات الاستقلال ورجوع الملك من منفاه إلى الحكم (1955).
لم يقتصر الضغط عليه بالاضطهاد، بل بالمساومات والإغراء وعروض الامتياز كذلك.. وهي الأخطر، غير أنه قاومها جميعا، وصمد في مواجهتهـا وخـرج منتصـرا ومحتقرا للمستعمر.
اشتهر في حياته كلها بالبساطة والتواضع وإهمال المواصفات البروتوكولية، حتى وهو قاض ووزير، وإهمال الأناقة في الهندام مع التلقائية والشعبية في العلاقة مع عموم من يتصل بهم أو يتصلون به.
واظب على إلقاء الدروس الخاصة والعامـة، حيثمــا أقام أو نفـي، في مساجـد فاس والرباط وسلا والدارالبيضاء ومدغرة وتزنيت وإيموزار... والقصر الملكي خلال شهر رمضان خاصة، للملك ورجال الإدارة المخزنية...
اهتم أساسا بتدريس كتب الأصول، وأولها تفسير القرآن الكريم، والذي كان المخزن يتشاءم من تدريس (بدعوى أنه يعجل بموت الملك).
وفي الفقه درس كتبه الميسرة "القوانين الفقهية" لابن جزي، بديلا لتعقيد "مختصر خليل".
ونفس الأمر بالنسبة لكتـب اللغـة والأدب، والتـي عـاد إلى أصولهـا قبــل انحطاطها: الكامل للمبرد والعقد الفريد لابن عبد ربه والبيان والتبيين للجاحظ وأمالي القالي وحماسة أبي تمام (نصوص تحرض على الكرامة والعزة والسيادة..) فضلا عن الآداب العربية الحديثة والمعاصرة له.
ولقد كان ذلك، صنيع جميع السلفيين في المشرق والمغرب.
اشتهر في دروسه، ببيداغوجيا "التحميض" حيث يتخلل جدية الدرس، لحظات من السخرية والتهكم والترفيه بالنكات والبسط والمستملحات.. وذلك كان تقليدا تربويا عاما في المدارس والجامعات الإسلامية، وشيوخها الكبار...
اقترب وصادق، أعلام السلفية من معاصريه، وفي المقدمة منهم أبو شعيب الدكالي.
ولم تقتصر علاقته بالطلبة على الدرس النظامي، بل أحاطهم برعايته، بما في ذلك المادية (المختار السوسي) وصادقهم (محمد عبد الكريم الخطابي) وحماهم عند الحاجة (علال الفاسي)...
كان أول وآخر، من لقب في تاريخ المغرب بصفة "شيخ الإسلام" 1962.
خلال تلك المراحل جميعا، تزوج من زوجة واحدة (1906)، وذلك خارج تقاليد الأسر الشريفة بالمغرب، والتي كانت تقضي بزواج الشريف من شريفة، بينما تزوج هو من "العوام" وفوق ذلك فلقد كانت ثيبا؟ ولها من زوجها السابق بنتا، رباها مع أبنائه ولم يعرفوا خلال ذلك أنها غير شقيقة، إلا بعد أن كبروا (؟) وهو ما يؤشر على أنه تزوج عن حب، لا بطريقة تقليدية (؟) تعرض بسبب ذلك إلى اضطهاد أسري (اعتقال) قبل أن يتدخل (القصر) لتحريره، وبقي ملازما لها، رافضا أن يدخل عليها ضرة، إلى أن توفي بين أحضانها.
3 -سلفية الفكر، والسلفية المناضلة:
السلفية في الممارسة والتاريخ، نمطان:
أ-اجتهادي-تنويري دعوي، يقتصر على الدرس النظامي أو الشعبي، وعلى المجالس والمناظرات والخطابة والكتابة... وهذه هي الأكثر شهرة والأكثر أهمية واهتماما من قبل المؤرخين والمدرسين...
ب-غير أن تمة نمطا آخر أكثر عملية وميدانية وارتباطا بالكفاح اليومي مع الشعب، وفي محاربة عاداته وطقوسه ومقدساته الوثنية ومعتقداته الإسرائيلية والسحرية والأسطورية... وذلك سواء في تنظيماته الطرقية ومواسمه الدينية واعتقاده في الدجل والدجالين وتمسحاته بالأضرحة والأشجار.. إلخ.
ميزة الشيخ، أنه، على خلاف جميع مجايليه ولواحقهم، كان يناضل على الواجهتين جميعا وفي نفس الوقت.
1-على الصعيد الأول، اشتهر باجتهاداته ومواقفه التالية:
1/1-الموقف من المرأة، وهذا مقياس دقيق وفارق ومرجعي... وذلك حتى يومه، تميز في هذا الصدد بالكثير: رفض الزواج العائلي – الشريفي، وتكسير التقاليد في هذا الصدد بالزواج بمن كن يعتبرن وأسرهن من العوام / رفض التعدد مطلقا، وتضييق مجال الترخيص به في الضرورات القصوى جدا، وغير القابلة عمليا للحدوث، إلا في أضيق الحدود، والتزم بذلك شخصيا في أسرته وحياته الخاصة / رفض "التسري" مطلقا/السماح لبنته الصغرى بالسفور، وذلك في وقت كانت الرجعية الدينية فيه، تعتبر أن لبس الجلباب بديلا عن "الحايك" كفرا ومروقا من الدين (الزيتوني – عبد الحي الكتاني) ولعله في ذلك كان رائد ومحرض الملك (محمد5)، الذي اقتدى به لاحقا، بالنسبة لبناته، وأضحى بذلك قدوة لجميع المغاربة في المدن / الدعوة إلى تحرير المرأة وتعليمها والتحريض على إدخالها المدارس الحرة التي أسستها الحركة السلفية ثم الوطنية...
كما كان ضد ممارسات الطلاق، إلا في حدود ضيقة، وضد طلاق الثلاث بكلمة واحدة.
1/2-رفض تمييز نسل الرسول r بلقب إضافي مميز لهم في المجتمع، وذلك بلفظ "مولاي" للذكور و"للا" للإناث، ولم يكن يقبل أن يطلق عليه أو على أبنائه وبناته../ رفض تمييز الفقهاء، كمدرسيـن أو عـدول أو قضـاة... بسمت خــاص، يميزهم عن عامة الشعب، ويبعدهم من تم عنهم، مثل الرهبان في الحالة المسيحية (والأحبار قبلهم)..
1/3-اعتماد مبدأ التلفيق بين المذاهب، سواء من ذلك عند إصدار الأحكام القضائية، أو في الفتاوى، وكذلك في دروسه، حيث كان يمزجها، بما هو غير متداول في التقليد الجامعي المغربي، ومن ذلك مثلا تدريسه كتاب "نيل الأوطار" للشوكاني، وهو غير مالكي(؟!)
1/4-إصلاح مناهج التدريس بجامعة القروييـن، وذلك باعتبـاره رئيسهــا الفعلي، أهم ذلك: اعتماد كتب الأصول، وأولها القرآن الكريم والحديث الشريف، إقرار مادة التفسير، والتي كان يتشاءم منها سياسيا(؟) / تدريس مادة الأدب واللغة من خلال متونها التأسيسية الأرقى والأسلم (الحماسة/ العقد الفريد...)/ فتح الباب لتدريس نصوص الأدب العربي الحديث... والمعاصر لزمنه.
1/5-وباعتباره قاضيا متمرسا، اشتهر بإحياء وتكريس التقاليد النيرة والنزيهة للقضاء الإسلامي: الاجتهاد في الأحكـام، والحسـم فيهـا، والسرعــة في إصدارها والوقوف على تنفيذها.. حتى اشتهر في المغرب القـول: مـن قبـل القضـاة والحكام... ".. هذا ما توصلت إليـه من حكـم، وليـس في استطاعتـي أن أحضـر القاضي ابن العربي للحكم في قضيتك" ومن ذلك مثلا أنه حكم لصالح يهودي، وذلك في نزاع مدني له مع وزير.
1/6-الدعوة والمساهمة في تأسيس التعليم العربي-الإسلامي العصري، والذي كان يوصف بـ"الحر" والذي استجاب لمتطلبات الحداثة، وذلك في غير انفصال طبعا، عن التقاليد النيرة والموروث الإسلامي القديم... وكان هو نفسه من المتطوعين في التدريس فيه (كان هو أول من أسس مدرسة حرة بفاس).
1/7-دعوته طلبة القرويين والمدارس الحرة، إلى تعلم اللغات الأجنبية.. وخاصة منها الفرنسية، وذلك منذ العام 1926.
1/8-تبسيط طرق التدريس، ومحاربة تدريس المتون المغلقة الفهم، ومن ذلك، أنه كان يدرس مختصر خليل كاملا خلال عام دارسي واحد، وفي وقت كان يستغرق تدريسه في القرويين، ستة وعشرين عاما (؟!). ولذلك كان يحضر دروسه فضلا عن الطلبة، الكثير من الصناع والتجار والحرفيين... في المدن والجوامع التي درس بها أو حاضر فيها.
1/9-حاور وناظـر وصـادق.. الرهبـان النصـارى والمستشرقيـن، خاصــة في "توميلين" ومع الأب عبد الله.
كما أنه درس علوم التاريخ وتراجم الرجال... وهو باب للتذكير بالأمجاد واستنهاض الهمم.
1/10-الأخــذ بالرخــص في فتاويــه، وذلـك لرفـع الحـرج عـن المواطنيـن، وتخفيفه الالتزامات على الشبـاب، وتشجيعهـم علـى الالتــزام الدينـي، ومــن ثــم الاجتماعي والسياسي... الوطني.
1/11-أسس درس اللغة العربية والأدب، ومنه الأدب الحديث، فضلا عن التدريس باللغة العربية الفصحى المبسطة والطليقة، وهو الأمر الذي كان من قبيل ثورة التجديد في الدرس المدرسي والجامعي، وفي الخطابـة الدعويـة الإصلاحيــة والسياسية الوطنية، بعيدا عن الدارجة المبتذلة، ولكن أيضا عن التفصح والشقشقة البلاغية الصورية والفارغة من أي مضمون أو وظيفة إقناعية-تأثيرية..
2-أما عن البعد الثاني العملي والميداني في الممارسة السلفية، والذي كان يحتاج أكثر من الأول إلى الحس النضالي والعمل الشعبي واليومي المباشر، لا النخبوي التعليمي وحسب، والذي هيأ الميدان وأكثر من سابقه، لتحول الدعوة السلفية من الفكر إلى السياسة، ومن إصلاح الاعتقادات والعبادات، إلى إصلاح البنيات والعلاقات. فلقد كان للشيخ شأوا فيه وفير، وتميزا واضحا عن أقرانه في هذا الخصوص، والذين كانوا في أغلبهم يفضلون مهادنة السلطات من جهة، وضحاياها من المواطنين... المنحرفين عن جهل، والممارسين للشعوذة والسحر... ظنا منهم أنها العقيدة والشريعة..
2/1-أول ذلك، كان نمط حياته نفسه، وسلوكه اليومي وسكنه وهندامه وتدبيره شؤون أسرته وتربيته لأبنائه... لقد كان في كل ذلك شعبيا، قريبا ومرتبطا بالسكان حيثما استقرت به الأحوال، غير منعزل عنهم، ولا متميز ولا منحاز إلى النخبة المجتمعية أو المخزنية... كما كان عليه حال أغلب من كانوا مثله شأنا ومقاما، أو حتى الأقل منه وضعا اجتماعيا وعلميا وإداريا، كان تأثيره الشعبي واليومي إذن بالقدوة أولا وإعطاء المثال والنموذج، بالذات وبالسلوك وبالأسرة، بساطة في العيش، وتواضعا في العلاقات، وزهدا في الملذات، وارتباطا يوميا
وعمليا بالنـــاس.
2/2-التصادم مع الممارسات الوثنية والسحرية والشعوذات... التي كـــان يمارسها المواطنون ضحايا الجهل، ظنا منهم أنها الدين.. ومن ذلك خاصة:
أ-اجتثاثه، مع بعض تلاميذه، لإحدى الأشجـار التــي كانـت موقـع اعتبـــار وتقديس من قبل السكان بمدينة فاس، وهي المسماة "سدرة سيدي بوغالب".
ب-وقوفه معارضا تنظيم مسيرة الطائفة العيساوية المنحرفة بمدينة فاس، ومنعها من متابعة تظاهرها نحو الموسم السنوي لها في مدينة مكناس، حيث ضريح وليها الصالح. وقد كانوا خلال ذلك يأتون بمنكرات "جاهلية" متوحشة. ومن ذلك افتراسهم الخرفان وهي بعد حية نيئة، دون ذبح أو سلخ أو طبخ (؟!)
2/3-دعوته العلماء إلى تشكيـل نقابـة مهنيـة خاصـة بـه، مستقلـة عــن السلطة، وغير مكتفية بالبعد العلمي أو الثقافي فحسب، بل تضغط وتدافع على مصالحهم ومصالح مؤسساتهم العلمية والدينية، وتربطهم أكثر إلى مصالح شعبهم. وهو أمر مقتبس من النمط الشيعي غالبا، فضلا عن بعض اليهــودي والمسيحــي كذلك... هذا المطلب لم يتحقق بعد حتى يومه... ما يؤكــد مقولـة أبي شعيــب الدكالي عنه، إنه "سبق زمنه".
2/4-وبالرغم من أن الشيخ، لم يكن يميل إلى السفر بعيدا عن الوطن، بما في ذلك طلب العلم أو أداء فريضة الحج، وبالرغم من أنه لم يكن يعتمد الكتابة الأكاديمية أو الصحفية أداة للدعوة والتواصل والتأثير، مقارنة إلى النمط الشفوي في الدرس والمحاضرة والخطابة والمجالس والأحاديث الإذاعية... فلقد وصل صداه وتأثير نموذجه وأفكاره.. خارج القطر نحو الجزائر مثلا، ومن مؤشرات ذلك، مبادرة "جمعية العلماء المسلمين" بها، إلى تتويجه رئيسا شرفيا لها. وهي (=الجمعية) المثال الذي كان يطابق نمطه العملي في الدعوة الميدانية-الشعبية، وفي التنظيم المستقل للعلماء.
2/5-كان يحارب أخـلاق السفـه في الصــرف، والتبذيــر المبالـغ فيــه، في الحفلات والأعراس، وقام لذلك، وبالتعاون مع المجلس البلدي للمدينة (فاس) وبتشجيع وإشراف مـن قبـل السلطــان (يوســف) بحملـة دعويـة وإعلاميــة خاصــة بالموضوع، ضدا على أخلاق هي إقطاعية في الأصل، وكان يظن أنها إسلامية (الكرم) وما هي كذلك.
4 -من السلفية إلى الوطنية:
4/1-لعله من الصعب جدا التمييز في مسيرة شيخ الإسلام، بين المنحيين الإصلاحي الديني السلفي: الفكري-الاجتمـاعي والثقـافي، والإصـلاح السياســي الوطني، من أجل الاستقــلال، والتحريـض على المقاومـة، والدفــاع عـن الشرعيـة الوطنية.. بلوغا إلى المطالبة بالديمقراطية والسلطة الشعبية التأسيسيــة للدستـور وللحكم، فهو لم ينتقل من الأولى إلى الثانية، بحكم الممارسة والوعــي العملــي والميداني، كما حصل للأغلبية من أمثاله في المغرب والمشرق... بل لعله عكس الآية، أو زاوج بينهما في نفس الوقت، ذلك لأنه، وهو العضو في الأسرة التي لها أكثر من وشيجة مع الأسرة الحاكمة، وجد نفسه منذ المنطلق في نزاعات القصر حول الموقف الأسلم من التدخلات الاستعمارية الأوربية المباشرة وغير المباشرة في شؤون السيادة والاستقلال الوطنيين، وبالرغم من أنه لم يكن عضوا بارزا ضمن أطراف الخلاف، إلا أن قرائن الأحوال المحايثة واللاحقة، تثبت أنه كان ومنذ بداياته الواعية، وفي الممارسة العملية، مع الجناح "الثوري" في حينه، أي مع الانتفاضة الحفيظية، ضدا على ما اعتبر استسلاما من قبل السلطان القائم عبد العزيز، يؤشر على ذلك أمران على الأقل:
1-تدخل عبد الحفيظ لأجل إطلاق سراحه، عندما اعتقله نقيب (مزوار) الشرفاء، بسبب تزوجه من "العوام"، وخارج الأعراف والتقاليد البالية والتي كانت تمنع ذلك.
2-التحاقه بالمولى عبد الحفيظ بطنجة (1912) عندما نفي إليها بداية، بعد إرغامه على التنحي والتنازل عن الملك ومن تم، تكليفه بتدريس إخوته وأبنائه.
4/2-رفضه الاستنكاف عن تحمل المسؤوليات السياسية في إدارة الدولة، بل لعله أيضا رغب في ذلك، حماية له من جهة ثانية، ومضاعفة لمردودية دعوته من جهة ثانية، وتقربا من السلطة ورموزها، وخاصة منها العليا، تأثيرا فيها وتقريبا لها من الموقف الإصلاحي والشعبي السلفي ثم الوطني... ولقد تحقق له ذلك فعلا. سواء في إصلاحاته لجامعة القرويين، وتقريبها من إنجازات شقيقتيها في كل من مصر (الأزهر) وتونس (الزيتونة) فضلا عن ابن يوسف بمراكش. فهذه في المحصلة، هي التي كانت تنتج أطر المجتمع، فضلا عن إدارة الدين والدولة بالطبع.
ثم إن موقعه ذلك، مكنه من معرفة خبايا السلطة السياسية لإدارتي الدولة المخزنية والاستعمارية، ولكن أيضا، التموقع في المكان الذي سيسمح له بالتأثير على رجالات المخزن عموما (الأمراء والوزراء وعموم القياد والموظفين السامين) والأهم الملك نفسه... وهذا ما حصل فعلا، وذلك سواء من خلال دروسه المباشرة لهم في المناسبات الدينية، والتي خلف فيها شيخه أبي شعيب الدكالي (1937) أو من خلال المجالس الخاصة في منازل الأعيان من تجار وقواد وقضاة... ومن ذلك خاصة، منزله هو نفسه، أو منزل السيد إدريس بن بوشتى البخاري.. والذي كان قبلة، لمثل تلك المجالس-النوادي التي تلتقي فيها النخبة المخزنية والمجتمعية، على الموائد، ولكن أيضا على مطارحة الأفكار وجديد الأخبار... وكان للشيخ فيها الصدارة في الخطابة والدعوة، وفي التحليل وفي المواقف...
4/3-لقد أشرف بنفسه، ومن خلال تدريسه في المدرسة الناصرية بفاس، حيث مثلت مدرسة لتكوين أطر قيادات الحركة الوطنية الاستقلالية... على الانتقال من أبوته للوعي والحركة السلفية، إلى أبوته الفكرية والتأطيرية، وربما التنظيمية أيضا، للحركة الوطنية نفسها، وكانت مناسبة الظهير البربري (1930) والانتفاضة الشاملة الوطنية ضدا عليه. الفرصة المعلنة والقوية لانتقال الشيخ من محض داعية إصلاحي سلفي، إلى قائـد للوعي وللفكـر الوطنــي من أجـل الوحـــدة والاستقلال والسيادة...
وعندما عمد الاستعمار، إلى تهديد، ثم تنفيـذ خلـع الملك عن الحكــم، واستبداله بإمعة تابع له مطلقا (1953). كانت مواقف الشيخ تحولا آخر، وإنذارا بانتقال الكفاح التحرري من العمل السلمي إلى الكفاح المسلح. لقد أباح دم السلطان غير الشرعي، وذلك دينيا ووطنيا، وكفر قائد الانقلاب على الشرعية، الباشا التهامي الكلاوي، وجميع الموقعين على عريضة عزل الملك الشرعي، ولم يكونوا يقلون عن ثلاثمئة عالم دين، وهي الفتوى التي أيدتها مشيخة الأزهر الشريف بالقاهرة، وهذا هو فعلا ما نفذته، أو حاولته، حركة المقاومة في المدن، (والتي قامت في انطلاقها، من قبل تلامذة وطلاب التعليم الديني بالذات (معهــد
ابن يوسف خاصة) واستمر استهداف أولئك "العلمـاء" الخونــة حتـى بعــد إعـلان الاستقلال، كما في حالة وزير عدل حكومة ابن عرفة بمراكش (بوركبة).
ومن دروسه العامة في مساجد البيضاء، تلقى المؤسسون الشباب لحركة المقاومة في المدن، دروسهم الأولى التعبوية والتحريضية. والذين كان من بينهم المؤسس والشهيد محمد الزرقطوني نفسه، وذلك حسب رواية المقاوم "حسن الصغير".
ولم يكن جميع ذلك بدعا أو طارئا في تاريخ الشيخ، لقد سبق لنا الوقوف على تأييده لحركة المقاومة المسلحة للقائدين البطلين موحا وحمو ومحمد بن عبد الكريم الخطابي... فضلا عن تأييده للثورة التحريرية المسلحة في فلسطين (1948).
4/4-وفي جميع المناصب التي تقلدها، أو المهام التي تكلف بها. سواء كأستاذ أو عدل أو قاض أو رئيس للجامعة أو وزير.. فلقد كان دائما مثالا للنزاهة والجدية والمروءة، وإعطاء القدوة في الاستقامة والبذل والتضحية، فضلا عن المردودية والثقة في النفس وتوفير الحجة على كفاءة المغاربة في إدارة شؤونهم بأنفسهــم.
4/5-وكان قربه من الملك الشاب، بل والغرير في بداياته (محمد5)، عاملا مهما في الحوار معه والمساهمة في تكوينه وتوعيته وربطه التدريجي مع رموز ومطالب وتنظيمات الحركة الوطنية، من أجل الوحدة والاستقلال والديمقراطية، سواء تم ذلك بطريق مباشر ورسمي، أو غير مباشر.. لقد كان خير ناصح له، داعم لمواقفه، ومساند لصموده، أمام ضغوطات الإقامة العامة وابتزازها وأيضا ضغوطات المحيط المخزني، الذي كان هو يعمل على "إبعاد الدجالين والدساسين" (حسب تعبيره) من تأثيرهم عليه.. وذلك قبل أن ينتهي مطاف الصراع بين الطرفين، إلى عزل الملك ونفيه (1953).
في المقابل، وفي جميع المراحل، فإن الشيخ لم يتخل عن الملك المقاوم، صمد معه وامتحن، بما يتجاوز متحانه: عزلا وإقامة جبرية ونفيا وتجويعا.. إلخ.
4/6-وفي الموقف من الحرب العالمية (الغربية) الثانية، مؤشر على نباهته السياسية وحصافته الفكرية. فهو لم يساير الموقف الشعبوي أو الانتهازي البئيس (عدو عدوي صديقي) ولكنه في نفس الوقت، ومن خلال أحاديثه الإذاعية في تأييد فرنسا والحلفاء، لم ينطلق من مصلحتها، أو الولاء لإدارتها الاستعمارية، أو التأييد المطلق لمواقفها، بل تصرف عموما، كما تصرفت الحركة الوطنية المغربية نفسها، بقيادة الزعيم محمد اليزيدي خاصة، وذلك بالتأييد المتميز للحلفاء، في حربهم الدفاعية والعادلة ضدا على النازية..، ولكن من قبل "مغاربة" لهم تطلعاتهم الخاصة، ولهم مطالبهم ولهم استقلالهم وخصوصياتهم التي تميزهم في التحالف. وبالطبع فلقد ساهم هذا الموقف السديد والشجاع، من قبل النخبة والشعب المغربي، فضلا عن المؤسسة الملكية،في اختصار زمن معركة الاستقلال الوطني، وفي تقليل خسائرها، وفي ترشيدها واجتــذاب التأييــد لها غربيــا، خــلاف الأخطــاء الاستراتيجيــة، التــي سقطت فيها مثيلاتها في الجزائر (مصالي الحاج) والمشرق (مصر مصطفى كامل)، وخاصة فلسطين للأسف (=الحسيني).
4/7-وبمناسبة إعلان موقفه الرائد، العروبي والإسلامي من قضية التحرير الوطني للشعب الفلسطيني عند إعلان ثورته في العام 1948 وبعث، وهو الستيني العمر، رسالة التأييد لقيادتها، واستعداده التطوع للجهاد في صفوفها. نستنتج من ذلك أمرين رئيسين ودالين على شفوفية الشيخ وبعد نظره:
أ-توجيه البوصلة النضالية، حالا واستقبالا، نحو الساحة المركزية لمستقبل النضال العربي والجهاد الإسلامي... بل والتضامن الإنساني الأممي: فلسطين خاصة، وأرض الشام عامة... وهو ما يتأكد اليوم أكثر من أمس.
ب-أن سبيل الحرية والتحرر والتحرير، من الاستعمار الصهيوني-الأطلسي، لن يتم ويحقق أهدافه، بغير الكفاح المسلح والمقاومة الشعبية الشاملة، وهو أيضا الأمر الذي يتأكد يوما عن يوم.
4/8-ومع بداية الاستقلال الأول للمغرب، اتخذ مواقف مبدئية دائما، وتبدو للناظر المتعجل وكأنها متناقضة، من ذلك مثلا:
أ-دفاعه عن الإدارة المركزية للدولة المغربية في شروط تأسيسها الحديث، وذلك ضدا على النزعات الانفصالية الجهوية (القبلية) أو الفوضوية.. ومن ذلك مثلا مجهوده التفاوضي، مع صديقه السابق، والعامل لحينه على إقليم ورزازات، عدي أوبيهي، والذي كان قد أعلن التمرد على الرباط.
ب-في المقابل، وحيـن ادعـت إدارة الأمـن المركزيـة "اكتشافهـا" مؤامــرة لاغتيال ولي العهد (الحسن) وذلك من قبل قادة المقاومة (الفقيه البصري- ع. الرحمن اليوسفي...) في العام 1959، بادر الشيخ إلى تقديم استقالته من وزارة بدون مهام، وذلك في احتجاج مزدوج، على "المؤامرة" ضدا على المقاومين، وأيضا على وضعية صورية في وزارة شكلية (مستشار لا يستشار).
4/9-غير أن ذروة جدارته السياسية، ومبدئية مواقفه النضالية، وشجاعته الأدبية، وربطه العضوي والجدلي بين الإسلامية السلفية والوطنية والديمقراطية... كان بمناسبة طرح الدستور "الممنوح" في العام 1962 للاستفتاء مباشرة، ودون المرور على هيئة تأسيسية، ولا حتى استشارة معتبرة في شمولها، لقد وقفت الحركة الوطنية التقدمية، ممثلة خاصة في حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" فضلا عن المنظمتين النقابيتين العتيدتين: العمالية (أ.م.ش) والطلابية (أوطم)، موقف الرفض المبدئي والمناهضة الشعبية لـ"المنحة الدستورية" مطالبين بانتخاب مجلس تأسيسي، هو الوحيد المؤهل والشرعي لوضع دستور يستفتى عليه الشعب.
لم يتردد الشيخ في اقتحام المعركة والانخـراط فيهـا، بـل والمساهمــة في قيادتها، وذلك من منطلقه كشيخ للإسلام، ومن تم باسم الإسلام... وكان في ذلك أهم رمز إسلامي لاءم، بل طابق، بين العقيدة الإسلامية وشريعتها، وشريعة الحداثة ومتطلباتها وشرائطها الديمقراطية، وفي الصلب منها حق الشعب في الولاية عن نفسه، وذلك بوضعه للقانون الأسمى لنظام دولته ومجتمعه، ولأهدافهما في الحال
والمآل، وذلك عن طريق ممثليه المنتخبين في مجلس مؤسس لذات الغرض، ويكفي لتوضيح ذلك الموقف وتلك الشجاعة وذلك التأويل الحداثي-الديمقراطي للإسلام السلفي-الوطني. إدراج العناوين التي وضعتها صحافة الحزب جريدة "التحرير" لإحدى خطبه الدعوية والتحريضية.. في موضوع وبمناسبة الحملة حول الاستفتاء عن الدستور:
-الحاكم في الشريعة الإسلامية، مجرد منفـذ، وليـس لـه حـق التشريــع (=الدستور).
-الحاكم في الإسلام، يجب أن تتوفر فيه شروط الصلاحية، وليس من الممكن الحكم بتوفر هذه الشروط، قبل التعرف عليه (=كان الملك الحسن، حديث عهد بالحكم).
-إعطاء الحاكم لنفسه (=الاستبداد) حق التشريع، يعتبر أساسا، مخالفا لروح الإسلام، وهو منكر، يجب علينا تغييره باليد أو اللسان أو القلب، وذلك أضعف الإيمان.
المعركة إذن بالنسبة للشيخ، إسلامية أيضا، وذلك فضلا عن بعدها السياسي الديمقراطي.
[تروي ابنته السيدة عائشة، أن السبب المباشر والمحرض للشيخ على تكلف السفر من فاس نحو مؤتمـر حـزب "الاتحـاد الوطنـي للقـوات الشعبيـة" ودعمـــه للاشتراكيين المغاربة، مع أنه لم يكن اشتراكيـا، هـو وصـف الزعيـم عـلال الفاسي، لقادة الحركة الوليدة بأنهم كفار. فبادر بذلك إلى حمايتهم دينيا، ورفع التهمة عنهم، ودرأ الفتنة الدينية في الصراع السياسي- الإيديولوجي الوطني]
رابعا: خلاصات تركيبية:
التاريخ تصنعه الجماعات والدول خلال تناقضاتها وصراعاتها، لا الأفراد (=الأبطال) مهما كان شأنهم وموقعهم، غير أن لهم أدوارا في المسيـرة والقيـــادة والمصائر، يقللون الخسائر ويضاعفون المردودية ويختصرون الأزمنة... أو بالعكس.
وهؤلاء، بعلمهم أو بحكمتهم أو بهيبتهم... قد يكونون بسطاء في تركيبتهم، عاديين في مسيرتهم، ومع ذلك يجدون أنفسهم في الموقع، أو المواقع، التي تسمح لهم أن يصيروا رموزا وقادة وأبطالا، ويحتفظ لهم التاريخ لذلك بمكانة في ذاكرته.
غير أن ثمة آخرين، لا تستقيم لهم الحوادث، ولا تساعدهم الوقائع... بل تصارعهم وتناوؤهم، وتجدهـم مع ذلـك، أو لذلـك، في مواقـع القيــادة وفي أدوار الريادة... يصارعون ويصمدون، يكبون ثم يقفون ويمشون ثم يتصدرون... ولا تلين لهم عريكة ولا يستسلمون ولا يساومون... والغالب عليهم أن شخصياتهم تكون لذلك مركبة لا بسيطة، إشكالية، متعددة... وحتى متناقضة، في مظهرها على الأقل، ويصعب لذلك تصنيفها أو تنميطها أو حصرها في قالب أو خانة خاصة ومحددة، يتجاوزون كل الحدود المرسومة للأدوار، ويفيضون بأنشطتهم على كل المجالات...
أعتقد أن الشيخ محمد بن العربي العلوي، كان من هذا الصنف من القيادات بالذات، أعطى الكثير في الكثير من المجالات والميادين، ولذلك صعب تصنيفه، وربما أيضا أهمل لذلك، الوقوف النقدي والتاريخي عند شخصه، مقارنة لغيره، وإلا فجميعهم أهمل، لا عفوا، بل قصـدا في الغالـب، ذلك لأن القضايــا التــي أوقفــوا فكرهم وحياتهم في الدفاع عنها، تكاد تكون هي نفسها التي ما تزال بعد مستمرة الحضور والتحدي... بل والسيطرة، أقصد مطالـب: الاستقــلال الوطنــي والوحدة والسيادة الشعبية والخصوصية (=الهوية) الثقافية. وأعداؤها، ما زالوا هم أنفسهم مستمرون في مواقعهم وفي مواقفهم العدائية لكل ذلك (؟!)
وفي سبيل استخلاص خلاصة مركبة لهذا العرض، نقف عند أهم عناصر ذلك التركيب المعقد، في حياة وشخصية ومواقف ومعارك... الشيخ الخليل.
1 -من الهامش نحو المركز
لا شك أن بين الهوامش والمراكز، جدل علاقة أو علاقات، لا يجد حله في التاريخ ودائما، عن طريق تحول المواقع بينهما، ولكن أيضا في أن تتحول مكونات من احدهما نحو الآخر أو العكس، وهذا ما يحصل كثيرا على مستوى الأشخاص، وبواسطة الحركية المجتمعية، وبالأخص منها ذات الطبيعة المعرفية والعلمية، وهذا ما حدث بالنسبة للشيخ بالذات، والذي انتقل، وبالسرعة الفائقة، من أكثر مناطق المغرب تهميشا وفقرا وشظفا في المعيش... إلى أن تسنم أعلى مناصب المسؤولية المتاحة لمواطن في الدولة القائمة عهدئذ..
غير أن هذه القفزة الكبرى، والنادرة المثيل سمحت بها أمور:
أ-فهو أولا من أسـرة "شريفــة" (=أرستقراطيـة)، ومن منطقـة لا تقــل عنهــا اعتدادا بتاريخها وخصوصياتها، فهو لذلك ورغم الفقر المادي للأصول العائلية، إلا أنه كان يحس بغنى معنوي للوسطين: الأسري والقبلي... تجلى ذلك خاصة بالنسبة
له في:
ب– احتضن من قبل أم، كانت هي أول من تلقى عنها المعرفة العالمة، فلقد وقفت بنفسها على تلقينه الأولي للقرآن الكريم، وما أشبهه في هذا مع شيخه اللاحق ابن تيمية في علاقته أيضا مع أمه والتي كانت أول معلميه (؟!). ونفس علاقة التعلق الشديد والتمثل بالأم، نلاحظها لدى الشخصين معا (؟!)
ت-التربية على مؤهلات وأخلاق الفروسية، بل وممارستها اليومية خــلال فترتي مراهقته وشبابه، من ركوب الخيل وممارسة الرياضة عليها والسباحة...، وحماية السبيل وتأمين القوافل التجارية وغيرها، والتي تمر في حمى القبيلة... وغير ذلك مما هو معروف في تقاليد الفروسية.
ث-ولقد قيض للشيخ أب، لا يقل عنه عنادا وصبرا وإصرارا على تحقيق ما يقرره. لقد وعى الأب أنه لا سبيل لاسترجاع المجد العائلي والسؤدد الأسري والمكانة الاجتماعية... بغير المعرفة والعلم، ولذلك وقف بنفسه على تربية ابنه، وراهن عليه ثمان سنوات بفاس وبعيدا عن أسرته، حتى تأكد من تجذر الغرس، وعندئذ فقط اطمأن عليه وعلى مستقبل أسرته... ولقد نجح فعلا بما تجاوز رجاءه...
ج-وأيضا، فإن للتعلم في الكبر، مزايا مقارنة إلى غيره، ومن ذلك خاصة، مضاعفة الجهد والتركيز في التحصيـل، والاجتهـاد المكثـف لاستـدراك الزمــن الضائع... وهذه جميعا كانت من خصائـص التحصيل العلمـي المتأخـر للشيـخ في القرويين بفاس...
ح-وما بين قرية "مدغرة" بتافيلالت، وعاصمة الدولة في الرباط، والاستوزار بها... والالتقاء بنخبتها العلمية والإدارية والسياسية المتميزة والرائدة... كانت مرحلة التحصيل ثم التعليم في جامعة القرويين... وهي من هي، على مستوى تخزين ونشر... المعرفة الدينية والثقافة التقليدية الموروثة... ليس على المستوى الوطني وحسب، بل والعربي والإسلامي عموما زمنئذ.
2 -من التصوف إلى التسلف:
وهذه مفارقة تركيبية أخرى صارخة في المسار الأدلوجي للشيخ.
أن يكون متصوفا في إطار طريقة بالذات (التيجانية) فهذه كانت حالة أغلبية جيله عهدئذ، أما أن يتحول إلى النقيض من ذلك، ويصبح أكثر الدعاة السلفيين مناهضة للتصوف الطرقي... فهنا المفارقة، والتي تذكرنا بشبه لها من الرواد المؤسسين، هو الشيخ محمد عبده والذي مر من نفس التجربة (حسب مذكرات الشيخ ع. الحي الكتاني، والتي لم تنشر بعد، فإن بلعربي كان كتانيا أولا، قبل أن يتحول إلى الطريقة التيجانية؟ رواية عن السيد حمزة الكتاني).
المثير في الأمر أيضا، أن يتم ذلك بالنسبة للشيخ، ليس عن طريق شيخ آخر اقتدى به، بل فقط عن طريق "الصدفة"، التي قادته إلى قراءة كتاب مؤسس السلفية الأصلية الشيخ ابن تيمية (-1328) المعنون ب "الفرقان: بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لقد كان اطلاعه عليه، وربما تمحيصه له وتعمقه فيه، بمثابة قطيعة شاملة، وانفصال بين حياتين وعقيدتين وموقفين... لقد اعتبر نفسه كما عبر، قد دخل الإسلام لأول مرة، مقارنة إلى الانحراف الذي كان عليه (؟!) [عندما سأله أحد أشياخه عنه (كتاب ابن تيمية) وهو طالب بعد، أجابه قائلا: لو قرأت هذا الكتاب لأسلمت؟!].
3 -سلفية مركبة:
منذ انطلاقتها الحديثة، تميزت السلفية في ممارسات مؤسسيها وروادها، بازدواجية مائزة، ذلك بين:
1)-بعدها الدعوى–الإصلاحي–التنويري... والـذي كـان موجهــا للنخبـــة بالأساس ويتوسل وسائلها التعليمية والتثقيفية... الخطابية والصحفية، وهذه عموما لم تكن في تصادم مباشر، سواء مع المحتل الاستعماري أو مع ضحاياه في المجتمع، ممن كانوا فريسة الشعــوذات والخرافــات والقدريـات والسحـر... (=الاسرائليــات) ورمزها الأبرز كان بالطبع محمد عبده مشرقا والدكالي مغربا.
2)-وفي مقابلها، السلفيــة الميدانيــة أو العمليــة المناضلــة، ســواء في مقاومــة المستعمر، أو في حرب ما عليه الجماهير المسلمة من الخرافات في العقيدة وفي العبادات والمعاملات... ونموذجها الأبرز كان الأفغاني...
أما الشيخ بلعربي، فلقد جمع بين النمطيين وزاوج بين الأسلوبين، وفي آن معا، وهو نمط نادر في حينه، ولم يسد نسبيا، إلا خلال المرحلة الانتقالية اللاحقة، والتي شهدت التحول من السلفية الخالصة إلى الوطنية الحزبية والسياسية والنقابية...
لقد كان الشيخ يمارس الدعوة مدرسا وخطيبــا وفي المجالــس الخاصــة والعامة، كما كان عليه حال أمثاله في زمنه الدكالي وغيره...
غير أنه أيضا، كان يقود الجموع وفي تظاهــرات... لمحاربــة المنكــر الدينـي والاجتماعي، ضدا على الممارسات الوثنية (عبادة الأشجار مثلا) والطرقية الهمجية، خاصة في المواسم "الدينية" ولدى بعض الطوائف الهرطوقية (العيساوية مثلا).
4 -من الوطنية إلى الوعي الديمقراطي:
يعتبر الشيخ بلعربي، حالة خاصة، وتكاد تكون بدون مثيل في تاريخ ورموز مؤسسي التجديد الديني السلفي... والذين سرعان ما انتقلوا به في مسار الأحداث وتطوراتها، نحو مقصده الأسمى، متمثلا في الوعي والحركة الوطنيين من أجل الاستقلال عن الاستعمار... ولم يقصر شأوه في أي من الفكرين، وفي أي من الممارستين، بل إنه بلغ أقصى مراحل ووسائل الدعوتين الوطنية والقومية، وذلك بتشريعه الديني للحق في ممارسة العنف والدعوة إلى الجهاد ضدا على المحتل وعلى أتباعه الخونة.
لم يقتصر على ذلك، بل إنه تابع ذات المسار والمسيرة، وذلك بطرحه المضمون المطلوب للاستقلال، ألا وهو الديمقراطية، وذلك حالما لاحظ كيف أن الاستقلال، اختطف كغنيمة من قبل أقلية وعلى حساب الأغلبية الشعبية والنخبة من قادتها التقدميين خاصة، فتضامن معهم في محنهم واستقال من الوزارة مرتين بسبب دعمه لمطالبهم. ورفض الحكم (=الفردي والمطلق) وطالب بحق الشعب في السيادة، وقرينة ذلك وشرطه، وضعه لدستور ينظم شؤون دولته وإداراتها. وذلك عن طريق ممثليه المنتخبين بنزاهة.
5 -قريب من المخزن... قريب من الشعب:
هذه خاصية أخرى ميزت الشيخ، لقد عمل دائما في إدارة الدولة المخزنية، إذن في علاقة مع الإدارة الاستعمارية حتما، وقريبا من الملك ومن القصر وبطانتــه... ولكنه في نفس الوقت لم يسمح بأن يكون ذلك على حساب علاقاته مع الشعب، سواء كتلاميذ وطلابا في المدارس والجامعة أو المواطنين في المساجد، أو كسكن ومعاش وحياة يومية –إنه نموذج "الفقيه العضوي" العريق في التراث العربي– الإسلامي... وازن بدقة وجدلية، بين الموقعين... وعندما يحصل اختلال ما، فهو أبدا مبدئي وشعبي في اختياراته وحسمه، ما كان يجمع بين الموقعين بالنسبة له، هو الإصلاح في الحالتين، للإدارة من داخلها، بما في ذلك الاقتراب من الملك وتحصينه، وللنخبة والشعب، من خلال وبهدف محاربة البدع والعودة بالدين وبالتدين إلى أصولهما الفطرية.
وأيضا، فلقد كانت مكانته لدى النخبة الوطنية ولدى الشعب، هي ما يمكنه من التأثير في الإدارة، والعكس صحيح أيضا، فوضع الحماية الذي كان يوفره له المخزن (وأحيانا فرنسا نفسها)، سمح له أكثر، بالجرأة في الدعوة والشجاعة في طرح أفكاره ومطالب شعبه...
وهذه التركيبة المزدوجة من جهتها، تعتبر خاصية في تجربة الشيخ الفكرية والسياسية لم تتح لغيره من أمثاله، ويمكن القول، إنه نجح عموما في المعالجة الإيجابية لمفارقاتها وتناقضاتها العديدة في الممارسـة، ودائمــا لمصلحـة الإصــلاح والتجديد ولمصلحـة الموقــع والموقـف الشعبــي الوطنــي، التحــرري والديمقراطــي...
لا الرسمي.
لا يجوز الانتهاء من سيرة ومسيرة الشيخ، دون الوقوف عند خصوصية أخرى قلما يقع الانتباه إليها وأحرى الوقوف عندها، تلكم هي مسألة علاقته بمؤسسة الأسرة ورعاية الزوجة والأبناء وعموم المحيط الأسري...
لم يكن الكبار في التاريخ دائما كذلك، على مستوى أسرهم الصغيرة، هنالك منهم من عدد الزوجات بل وتسرى وهم كثير، وثمة من أضرب عن مسؤولية الزواج أصلا، متفرغا لما يعتبره الأهم، وقلما وجدنا مزاوجة بين المسؤوليتين، بتوازن وعدل ومردودية في الحالتين.
كل القرائن تدل على أن الشيخ تزوج عن حب، وأسس أسرة تراحم وتضامن وحوار، وأنها كانت ناجحة، وساعدته من تم على المواجهات الخارجية القاسية والمتعددة، واستمر الحال على ذلك حتى لحظة وداعه لدنياه ودنيانا، وهو أمر قدم
فيه نموذجا آخر بديلا، بل وثوريا، مقارنة بما كان سائدا في المجتمع المغربي وما يزال. وهي حجة أخرى له، على انسجام سلوكه العام والخاص، وعميق قناعاته التجديدية والديمقراطية، وتفاؤليته وحبه للحياة، وانفتاحه على القريب والبعيد، وتسويته بين الذكور والإناث، وثقته في المرأة زوجة وبنتا...
لقد التزم مع أسرته، وحافظ عليها، وأشاع في علاقاتها روح الوئام والحوار والتضامن والمرح... لقد كانت علاقته بأبنائه علاقة صداقة وفرح، لا علاقة تجهم وتسلط وأوامر... كمــا كانــت التقاليــد الإقطاعيــة الموروثـة تقضــي به، في الأســر الأرستقراطية مثل وسطه العائلي الأصلي.
6 –التجديد في التفكير:
على سبيل تجميع ما تفرق من اجتهادات وآراء ومواقف الشيخ، والمتميزة من قبله على معاصريه ومقارنة إلى عصره. ولأن الشيخ لم يهتم بتكريسها مكتوبة، مقارنة إلى إشاعتها شفوية، منجمة وحسب المقامات (دروس، مجالس عامة/ مجالس خاصة... ومناجيات مع النجباء من تلامذته ومريديه). سنحاول أدناه طرح أبرزها، مرتبة حسب الأهمية.
1-الموقف من التراث الكلامي الإسلامي، لم يهتم بتدريسه، ولا حتى بالإشارة إلى قضاياه ورموزه في دروسه، بل هو بالنسبة إليه "لا جدوى منه" و"حملته، لا إيمان لهم بالوحدانية" وهي القضية المركزية في الدعوة الإسلامية، ومن تم السلفية بالنسبة إليه، بل إنه لا يتردد، حسب رواية المختار السوسي عنه، في وصف المولعين به ب"المنافقين".
الحس النقدي، والارتباط بالبعد الفطري للدين، واعتبار الوقائع في الميدان أساسا، وأهمها حياة الناس وقضاياهم العينية ومطالبهم اليومية والسياسية... واضحة في هذا الرأي والموقف... وذلك بالطبع فضلا عن تأثير ابن تيمية، الذي كان له صراحة أو ضمنا، نفس الرأي ونفس الموقف.
جرأة الشيخ، الصريحة أو الضمنية على هذا الصعيد، تميزه عن أقرانه مغربا ومشرقا بمن في ذلك أعلامهم الرواد كالشيخ محمد عبده نفسه الذي كتب في "علم الكلام" (؟!)
2-ونفس الموقف النقدي والجرأة في الفكر، نلاحظه لدى الشيخ في موقفه من نصوص السنة وأحاديثها، فهو لم يكتف بنقد الرواة والأسانيد التي وقف عندها المحدثون غالبا. بل تجاوز ذلك نحو نقد المتن نفسه. ومن ذلك مثلا ما كان يجهر به
من رفض لحديث "ملك الموت" في مواجهة موسى عليه السلام، فهو يطعن في تصحيحه عقلا ودينا. ومن تم فهو لا يقبل الكثير من أحاديث كتب الصحاح وهو في هذا مرة أخرى واضح التيمية. فنصوص الحديث ثانوية، مقارنة إلى النص الأساس، ولا يرجع إليها، إلا عند الحاجة والضرورة..
3-ولعل موقفه من مسألة الخلافة، والصراع في حينه حول البعد الديني لشرعيتها، أدل على جراءة الشيخ واستراتيجية تفكيره.
لقد أثير الموضوع بمناسبة تخلي الحكم الجمهوري التركي، مرغما، عن مؤسسة الخلافة (1924) وردود الفعل حول المسألة، وأهمها كتاب الشيخ علي ع. الرازق حول "الإسلام وأصول الحكم" والذي بلغ الخلاف والصراع حوله درجات التبديع والتكفير، كان موقف الشيخ مساندا لرأي الشيخ الأزهري، وهي حالة خاصة جدا واستثنائية في تاريخ السلفية المغربية.
4-ونفس الشجاعة الاجتهادية، عبر عنها بمناسبة الصراع الذي لم يكن أقل أهمية أو خطورة في تاريخ الفكر الليبرالي العربي المعاصر، وذلك بمناسبة صدور كتاب محمد أحمد خلف الله حول "الفن القصصي في القرآن" والذي سبب لصاحبه نفس ما سببه الكتاب السابق لمؤلفه، لقد أيد الشيخ أطروحة الكتاب في أن القصص القرآني فن أدبي، في سياق الوعظ والاعتبار... لا تأريخا لأحداث تاريخية، فالقرآن كتاب دين لا كتاب تاريخ.
5-وعلى مستوى المذهب، ونظير شيخه ابن تيمية وغيره من أمثاله، أخذ في دروسه وفتاويه وأحكامه... بمبدأ "التلفيق" بين المذاهب الفقهية المعتبرة. وذلك سعيا منه لتحقيق أهداف التيسير والملاءمة والاستجابة لمطالب العصر ومصالح المسلمين المعاصرين وحاجياتهم الوقتية.
6-ولعل من قرائن خصوصية الشيخ ونباهته وعمق ثقافته... عنايته بالتاريخ: علمه وقضاياه وأعلامه.. ومن ذلك تصديه، نظير الشيخ محمد عبده، إلى تدريس "مقدمة" ابن خلدون في القرويين، ودلالات ذلك ونتائجه لا تحتاج منا إلى توقف: تاريخانية وعقلانية ومنهجية... الخلدونية...
لم يقتصر الأمر عند حدود التدريس لذلك النص التنظيري الأشهر، بل إن للشيخ جملة آراء وتحليلات ومواقف.. اختص بها في هذا الصدد، ومن ذلك كأمثلة متفرقة وحسب الأستاذ السوسي.
أ-ترجيحه من حيث الأهمية، قائد الدعوة المرابطية ومؤسسها وناشرها
ع. الله بن ياسين، على مؤسس الدولة المرابطية "أمير المسلمين" والقائد العسكري العظيم يوسف بن تاشفين وهو من هو في تاريخ الغرب الإسلامي بل وفي التاريخ العسكري العالمي(؟!)
ب-تشكيكه في الدوافع الحقيقية والأدوار الأجنبية (المسيحية) في قيام الدعوة الموحدية، ومنظرها وداعيتها المهدي بن تومرت. وهو لذلك لا يعتبرها حركة دينية بحال. رغم أدوارها التوحيدية البارزة (القضاء على نحلة بورغواطة مثلا)، بل يرجح حولها، الدوافع السياسية وتحالفاتها المشبوهة في نظره(؟!)
ت-موقفه الإيجابي من حركة وشخص ابن محلي، وتقديره لعلمه ولدوافعه.. ويعتبر لذلك، أن هزيمته وأمثاله، هي المسؤولة عن تشويه سمعته وتحريف حقيقة دوافعه وأهدافه، وهو لذلك، ينتقد صنيع المؤرخين الذين يحكمون على أشخاص وحركات التاريخ بناء على انتصارها أو انهزامها، لا انطلاقا من دوافعها وأهدافها...
ث-وحول عواقب ومآلات الصراع بين التوجهين والتنزيلين للدين الإسلامي في علاقته بالمجتمع وإدارة الدولة، والذي ساد بعد معركة صفين بين التأويل والتطبيق الأموي (=السني) من جهة، والنزوع "الثوري" العلوي، والذي أضحى "شيعة" بعد ذلك، لقد اعتبر الشيخ، أن الذي انتصر تاريخيا وفي النهاية، هو الإمام علي وشيعته... وليس تجار قريش... ودولهم وفقهائهم.. (؟!)
7-وعلى مستوى منهجية التدريس وطريقته وعلاقته بالطلاب... فلقد كان متميزا أيضا بخصوصيته وتفتحه وموسوعيته واعتماده غالبا أسلوب الحوار والجدل والمناظرة... يركز أكثر على تربية العقل وتمرينه على النقد والتحليل... قبل الحكم... محتقرا أسلوب عرض المعلومات وحشو الذاكرة بها، عوض شحذ التفكير وتأهيله وتشغيله عوض تعطيله. كما كان الأمر قائما في الغالب في التعليم الإسلامي التقليدي.
8-رفضه التقليد التربوي-الطبقي الموروث منذ الزمن اليوناني-الروماني، والذي كان يفرق بين الخاصة والعامة في التعلم والتعليم، ذلك باعتبار التفريق بين مؤهلاتهم من جهة وحاجياتهم من جهة ثانية. فكان ما يقال للخواص، لا يجوز تعميمه على غيرهم من العامة، في ما يوجه إليها من خطاب ديني أو ثقافي-أدبي
أو سياسي...إلخ.
الشيخ كسر هذه القاعدة المعتبرة تقليديا في تاريخ المجالس العلمية في الجامعات والمساجد الإسلامية... بل وبالغ في الأمر و"تطرف" فيه، ربما كرد فعل من قبله. ومحاولة منه لتجاوز الحصار العلمي الذي فرض على دروسه سواء في القرويين أولا، أو في الرباط بعد إجلائه عن القرويين في سجن ذهبي (وزارة العدل، قصد منها حرمانه من سلاحه الأمضى ومهنته الأرسخ: التعليمين النظامي والشعبي فضلا عن مجالس النخبة (=الأعيان).
يخبرنا المختار السوسي، كيف كانت زياراته "السياحية" أو الرسمية إلى مدينة مراكش وتلامذته بها، مناسبة، مدبرة غالبا، لتكسير ذلك الحصار من جهة، والاتصال بالشعب مباشرة، في مجالس ما بين العصرين في مسجدي الكتبيين وباب دكالة...، واختياره لموضوعات ونصوص تعتبر من ثقافة الخاصة والنخبة، الأمر الذي كان يسمح، بل ويفرض، على النخبة المراكشية حضورها، ومن ذلك سلسلة دروسه في شرح وتحليل... قصيدة أبي تمام الشهيرة "السيف أصدق أنباء من الكتب".. ودلالات ذلك المتنوعة والمتعددة.. لا تحتاج منا إلى توقف أو توضيح (؟!).
9-أخيرا، فلقد كان الشيخ الفقيه، مثله في ذلك مثل محمد عبده، حداثيا في شروطه التاريخية، داعيا للحداثة والتحديث، خاصة من خلال أهم أدواتهما الفكرية والثقافية، أقصد الأدب، ولذلك فلقد كان يتبنى جميع نصوصها المعاصرة له، العربية منها والمترجمة، وهي في جملتها تتراوح بين الرومانسية والواقعية وكان يدرسها وينشرها ويدعو إلى تمثلها والاقتداء بها.
وأيضا، ونظير شيخه محمد عبده، فلقد عمد هو أيضا إلى تدريس أدب "المقامات" القصصية العربية، وهي بدون شك، نمط مختلف، ممهد ورائد في التجربة الإبداعية العربية، مقارنة إلى الأنماط التي كانت سائدة قبله، والمرتبطة غالبا بإدارة الدولة، نقيض المقامات التي عبرت عن بذور الطبقة الوسطى التجارية.
وفي نفس المنحى، تبنى الدعوة إلى العناية بالآداب الشعبية وتدريسها... والتي تبنتها في المشرق الأستاذة سهير قلماوي، تحت عناية ورعاية طه حسين، وخاصة من ذلك قصص "ألف ليلة وليلة" والتي لم يكن الشيخ يتردد في التنويه بها والجهر بجماليتها والدعوة إلى دراستها.... نظير جميع المؤسسين للحداثة في الآداب العالمية وذلك في أوربا أولا وقبل التحاق غيرها بها.
7 -الجدية المرحة:
هذا القائد الذي حمل هموم شعب ودولة، والذي احتمل من المواقف والمنافي والتهجمات.. ما يتجاوز قدرة شخص بمفرده.. لم يكن مع ذلك في حياته الخاصة والعامة، عبوسا متجهما وأحرى حزينا ومكتئبا، بل على العكس من ذلك تماما، لقد كان غاية في التفاؤل والمرح وإشاعة النكتة والطرفة وجو الحبور، وذلك حيثما اشتغل أو درس أو حاضر أو حادث... بل إن جملة أفكاره الطليعية ومواقفه الرائدة... صيغت غالبا في صيغ طريفة ونكث مضحكة وأقوال ومواقف مأثورة.. ويجب لذلك بالمناسبة العمل على جمعها وتوثيقها وتصنيفها لدراستها... فهي، فضلا عن بعض أشعاره المكتوبة وتعليقاته وتهميشه على مقروءاته، وأحاديثه الإذاعية وخطبه المنشورة.. تعتبر أهم مصدر، يمكن، بل ويجب، الرجوع إليه لتوثيق آرائه وأفكاره ومواقفه الرائدة.
7-تواطأ أكثر الدارسين المعاصرين للحركات الإسلامية، على ظاهرة ملازمة لها، وذلك في شرطيها الحديث والمعاصر، تلكم هي العلاقة العكسية لها مع الزمن، حيث يلاحظ تراجعها المستمر، مع تقدمه، عكسا لا طردا، إلى أن بلغت ما بلغته اليوم من تدهور على جميع المستويات، وخاصة منها الفكرية والسياسية، وذلك في تقهقرها نحو التطرف والعنف وحتى الإرهاب من جهة، وفي تقاطعاتها وحتى تطابقها أحيانا مع الاستعمار المتجدد من جهة ثانية...
إن الجذور الاجتماعية للظاهرة، سبق الوقوف عندها نسبيا، أقصد المسار التبعي الحتمي لجميع رأسماليات الهامش لمراكزها الاستعمارية، ولأن هذه الأخيرة تزداد رجعية وفسادا مع التقدم التاريخي.. فكذلك توابعها، بما في ذلك الوطنية منها والنازعة أكثر للاستقلال..
الشيخ بلعربي شذود مطلق عن تلك "القاعدة"، هو على النقيض من ذلك، يزداد وطنية وتتعمق مواقفه الديمقراطية، كلما تقدم هو سنا وتقدم الزمن تاريخيا، ذلك ربما، لأنه ينزع إلى وسط اجتماعي نبيل (=ارستقراطي) من جهة، وشعبي من جهة ثانية. ولم تكن للشيخ أبدا مطامح (=مطامع) شخصية نحــو الاستغنــاء
أو النفـوذ والجــاه أو التسلط... وذلك سره المميز والمتميز به عن أقرانه في زمنه، وبعد زمنه وحتى اليوم.
خامسا:
هذه شخصية إشكالية بامتياز، يكاد الشيخ، يكون منبعثا من ملاحم العصرين القديم والوسيط، إنه الفارس أبدا، والمتخلق بأخلاق الفروسية: النبل مع التواضع، رجل الدولة والزاهد المتصوف، العصامي والشاب أبدا، الشجاع والمحارب و(الذي يوثر على نفسه...) من أجل أهداف يعتبرها سامية، ومثل عليا توجه سلوكه وتحكم مواقفه.. جماع تناقضات، وذلك بالمعنى الإيجابي للمصطلـح، ذلــك لأنــه ارتبــط أبــدا بالواقـــع ومجرياته، فاعلا فيه ومنفعلا به، ولأن هذا الأخير تحكمه أساسا تناقضاته، فلذلك كان هو يعكسها في وعيه وفي ممارساته: يشتغل في الإدارة بهدف إصلاحها، ويتحالف معها ضدا على أدواء المجتمع، ثم يقود هذا الأخير، ضدا على فساد الإدارة وعلى تحالفها مع الإدارة الاستعمارية (؟!)
هو سلفي في مواجهة مجتمعه، وطني ضدا على الاستعمار، ثم ديمقراطي ضدا على الاستبداد وعلى الاستعمار الجديد(؟!) عاش في حالة مقاومة دائمة، لجميع الإغراءات ولجميع التهجمات والحروب الدنيئة التي طوقته وحاولت تشويه سمعته، مترفعا عن شخصنة المواجهة، ومصرا على الطابع الاجتماعي-السياسي للصراع. لم يستسلم ولم يساوم ولم يهن ولم يأخذ حقه في "استراحة المحارب"... وبذلك ترك آثاره ماثلة حيثما ناضل، سواء في إدارة الدولة، أو في شخص رئيسها (الملك)، أو في المجتمع ونخبه بجميع أنواعهم ومستوياتهم ومواقعهم...
الوزير الوحيد في تاريخ إدارة الدولة المغربية، الذي قدم استقالته ثلاث مرات ولأسباب وطنية أو حقوقية ديمقراطية (لا شخصية)... لم يترك تآليف مكتوبة، ولكنه ترك الأهم، تلاميذ قادوا النضالين الوطني والديمقراطـي، بجميــع مراحلــه ومستويـــاته وأهواله..
وكان العالم الوحيد الذي رفض تزكية توقيعات بقية "العلماء" على تنصيب ابن عرفة ملكا، وبذلك أفقدها الشرعية، التي تشترط الإجماع (اندريه جوليان)
لم تكن المسألة الديمقراطية بالنسبة له، تخص قضايا اقتسام السلطة والتوزيع العادل لمؤسسات الحكم فقط، بل أيضا وأساسا التوزيع العادل للثروة.
أبلغ مدحة كان الرسول الكريم يعوض بها للأنصار عن اقتسام الغنائم على حسابهم، قوله لهم "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع" وهذه الميزة، هي بالضبط ما يختصر أخلاق وسيرة الشيخ بلعربي، أخلاق الفلاحة والرعي، في مقابل أخلاق المدن التجارية (قريش)، والتي انتصرت وما زالت للأسف.
لقد تعرض، ويتعرض تاريخ المغـرب ورمـوزه، لمؤامـرة التهميـش والتشويـــه والتخريب (زوروا ضريح القائد والمؤسس العظيم يوسف بن تاشفين حتى تتأكدوا؟!) وتاريخ الشيخ وأقواله وخطبه ومواقفه.. تتعرض لنفس الحرب العدوانية المدبرة والمنظمة.. إنها "الحرب الناعمة" (=الثقافية-الإعلامية) ضد الخصوصيات، وضد الشخصية الوطنية، وضد الذاكرة الثقافية وضد اللغة الموحَّدة والموحِّدة (=الفصحى) وضد الأسرة والطفولة والقيم وضد الكرامة والعزة... ولا يقتصر الأمر على تدبير ومخطط استعماري أجنبي، بل إن للداخل أيضا نصيب من الخيانة والعمالة والتوظيف... مقابل دريهمات و"امتيازات" تافهة... معركة الشيخ إذن ما تزال مستمرة، ومن مداميكها، إحياء ذكراه وإشاعة قيمه، خاصة في قضايا وموضوعات: تجديد الدين والتدين، والوطنية المتجددة والدولة المستقلة وذات السيادة والديمقراطية المركزية.
ويجب أن يكون مقياس "وطنية" و"استقلالية" جمعيــات ما يسمــى "المجتمـــع المدني" بما في ذلك الصحافة خصوصا، هو مدى عنايتها بهذا الإرث والتراث الحديث للإسلام السلفي والوطني والديمقراطي، وترميم ذاكرته، وإحيائه، وإشاعته، والدعوة إلى تبني قيمه بديلا عن تبعية ذليلة، وعولمة رأسمالية واستعمارية عمياء ومتوحشة.
* * *
انطلاقا من العام 1962 ومعركة الاستفتاء على الدستور الممنوح، والتي اضطر إلى دخولها اضطرارا، سيعتكف هذا الفارس في منزله في "استراحة محارب" لا متأخرة في تعبد وتزهد.. لا يستقبل إلا الأقربين من خلانه، أو من رجالات الدولة، وذلك قبل أن يلبي داعي مولاه، بين حضن زوجته، بمدينة فاس في الرابع من شهر يونيو 1964، ويدفن حسب وصيته، في مسقط رأسه، في حفل مهيب وحضور شعبي عظيم، ولكن دون مراسيم، ودون مظاهر مميزة للقبر (=ضريح)، وذلك حسب وصيته أيضا.
* * *
إن ما قد يسمح أكثر بتلخيص شخصية وإستراتيجية الشيخ، هو شخصية ووعي وممارسة شيخه وقدوته العظيم ابن تيمية (ت 1328) وتناقضات عصره التي تكاد تشبه شروط مغرب الاستعمار الحديث والمعاصر (=القديم والجديد).
1-تمة تحديان متزامنان: الاستبداد والظلم والفساد... من جهة، ومن الجهة الأخرى، وضع الاحتلال الأجنبي (الاستعمار في حالتنا) أو التهديد به، فلمن تعطى الأولوية؟ وما الذي تجب مواجهته أولا؟ ومع من يمكن التحالف معه؟ وضد من؟
بالنسبة للشيخين، مسألة الاستقلال والسيادة والهوية... ذات أسبقية مطلقة، بل وجودية، ولا معركة تسبقها، أو تعلو عليها، هذا هو التناقض الرئيس، وغيره ثان أو ثالث، لا يجوز إهماله أو تجميده... وإنما توظيفه في خدمة حشد الطاقات الوطنية والجماعية لحل التناقض الأول والرئيس، والذي بتجاوزه وحله، يمكن الارتداد على التواني والثوالث... وتصبح لذلك، وبعد ذلك، رئيسة، ولكن بعد توفير الطاقات والشروط الملائمة لصراع داخلي، لا يستغل من قبل العدو الخارجي.
العلاقة إذن مع السلطات القائمة، هو الحوار معها والعمل على إقناعها والدفع بها والضغط عليها... من أجل الالتحاق بمجتمعاتها (=شعوبها) لمواجهة التهديد
أو الاحتلال الأجنبي وذلك لمصلحتها هي نفسها، فإذا هي لم تستجب، وتجاوز غيها وانحرافها حدود الظلم والاستبداد إلى درجة الخيانة، بالتحالف مع الأجنبي ضدا على الوطن، والتبعية له ضدا على مجتمعها، فعندئذ فقط تصبح تناقضا رئيسا وعدوا قائما، ولكن فقط إلى حين تراجعها وتصحيح موقفها، وعندئذ يعود الوضع إلى حالته المطلوبة والملائمة، أي التحالف الوطني الشامل بجميع المكونات الوطنية، ضدا على الأجنبي، ومن أجل الاستقلال، وضمان السيادة على التراب وعلى الإدارة وعلى الاقتصاد...
معضلة الأمس تلك، هي نفسها التي ما تزال قائمة اليوم أيضا، وحيث تفرقت سبل النخبة العالمة في الماضيين الوسيط والحديث، في الموقفين الاستراتيجي والتاكتيكي من الطرفين في المواجهة: العدو الخارجي والخصم الداخلي، فكذلك هو الوضع اليوم أيضا، بين التحالف مع الاستعمار الغربي ضدا على الاستبداد والفساد الداخلي (؟!) أم اعتبار هذا الخير فرعا عن الأول، والعمل لذلك على الاستفادة من تناقضاتهما، لأجل تحشيد جميع الطاقات "الوطنية" لمواجهة العدو الرئيس: الاستعمار.
2-إن السلاح الأمضى لمواجهة جميع الأدواء، داخلية كانت أم خارجية، هو وحدة الإرادة الوطنية بين المجتمع والدولة، ولا يتم ذلك بغير وحدة الوعي والإستراتيجية، وهذا لا يتم بغير تخليصهما مما شابهما ولصق بهما خلال مسارهما التاريخي وضرائره التأويلية والتوظيفية سياسيا، وهذا ما تعنيه العودة إلى الأصول (=السلفية) إذن استمرارية مع القطيعة، استمرارية الاجتهاد والتجديد، وتجاوز إرث الماضي من مذاهب وتيارات وتأويلات... عقدية وفلسفية– كلامية وفقهية... وسياسية "أمة قد خلت..." وإعادة تجميع وإنتاج لوحدة جديدة، ملائمة ومستجيبة لتحديات جديدة، أهمها وأخطرها العدوانات أو التهديدات الأجنبية الغاشمة.
إذن، هي إيديولوجية "وطنية جديدة" تتذكر وتعيد إنتاج السلف، للاستعانة به من أجل الوحدة ومن أجل المواجهة والمقاومة، ومن أجل التحرر والتحرير.
كذلك كان شيخ الإسلام، وذلكم درسه وعبرته لأحفاده المعاصرين، ضحايا الاستعمار الجديد، وصنائعه من محرفي ومشوهي "السلفية" لخدمة احتلاله، باصطناع وتعميق التناقضات في صفوف الشعوب العربية والإسلامية. ما بينها، وما بين طبقاتها الوطنية، وما بين مجتمعاتها وإدارات دولها الوطنية...
ملحـق: أقوال ومواقف مأثورة...
لأن الشيخ كان صاحب مواقف ونوادر وأقوال مأثورة عنه... أكثر منه صاحب قلم وكتابة، فإن الكثير من جوانب تأثيره في المسارات الوطنية المختلفة، أتت من هذه الجهة أكثر من غيرها، ونحن، واعتمادا على أهم مصدر للرواية عنه ألا وهي السيدة عائشة بلعربي العلوي، وهي الوحيدة من أبنائه الأحد عشر التي ما زالت حية، أطال الله في عمرها. سنورد بعض ذلك مما لا يجوز إهماله وأحرى ضياعه. وهو في نفس الوقت يسمح باستكمال ملامح شخصيته وخصوصيات حياته، وطرافة أقواله وشجاعة مواقفه وذكاء تدبيره.
* عندما تجرأ الشيخ، وهو في مقتبل حياته الاجتماعية، على خطبة امرأة "عامية" وطالق فوق ذلك وأم لطفلة... عوض الخضوع للتقليد الشريفي-المخزني والذي كان يفرض زواج "الشرفاء" في ما بينهم، اعترض المزوار (=النقيب)، وأيده القصر، وأعطيت الأوامر بأن "يعزل ويؤتى به مهانا" كان الذي تدخل لمصلحته ودافع عنه وعمل على رفع الظلم عنه، هو المقيم العام الفرنسي الجنرال اليوطي(؟!) ولعل هذا الانتصار في أول معاركه ضدا على التقليدانية والأفكار البالية.. وبدعم من إدارة الاستعمار وعلى حساب الإدارة المخزنية.. هو بعض مما يفسر سلوكه الذي يبدو "متناقضا" في علاقاته معهما معا وفي نفس الوقت، فهو مع الحداثة شرط ألا تكون عنيفة واستعمارية، ومع الوطنية وإدارة دولتها... شرط ألا تكون رجعية-تقليدية ومخزنية.. ولهذا كان معهما معا، وضدا عليهما معا وفي نفس الوقت.
* وعندما "تجرأ" على القاضي بفاس، ودخل عليه وهو بعد عدل، دون مراعاة الهندام المفترض منه عرفا أن يتهندم به. زجره القاضي وتوعده فكان رد الشيخ كالتالي: طبّل ونفّر وغيّط. غير مكترث لاحتمالات التوقيف عن مصدر عيشه الوحيد حينئذ.
* وعندما استفسره أحد شيوخه وهو بعد طالب في القرويين عن كتاب كان يحمله بين يديه (كان لابن تيمية)، أجابه "مازحا" في جد: "هذا كتاب، لو قرأته لأسلمت" ما يؤشر إلى درجة تيميته (=سلفيته) ومن تم اعتباره جامعة القرويين وشيوخها منحرفة عن الدين القويم حسب أصوله الحقة...
* وعندما عزم وتهيأ للالتحاق بالمقاومة في الأطلس المتوسط بقيادة الزعيم موحا وحمو الزياني، ومع تحذيره من مغبة "المغامرة" عليه وأخطار المقاومة المسلحة، من قبل معارفه.. كان رده البليغ: أنا لست (ماشي) طماعا والله ليس غدارا" ما يعني أن المقاومة ليست تجارة، بل إنها جهاد، إذن فرض إلهي.
* مأثوراته ومواقفه وتصريحاته.. عن المرأة وحقوق مساواتها بشقيقها الرجل، لا حصر لعددها، وهو في هذا الصدد والمعنى "حداد" المغرب دون منازع. لقد كان يعتقد أن: "حجابها، العلم والعفة (=التربية) "ولذلك فلقد دفع بابنته البكر إلى السفور وإلى التعليم العصري رفقة الأميرة عائشة، ورافق الأخيرة (1932) في أول خطبة علنية لها من جهة، وهي سافرة من جهة ثانية. وذلك تزكية منه للتصرفين، بل لقد كان هو من دبج نص الخطبة، وجميع خطبها اللاحقة.
وعند بيعة الحسن الثاني التي وقف عليها وصاغ نصها، فرض حضور نساء القصر وبيعتهن (تذكيرا بسنة بيعة النساء للنبي r)
وفي إحدى زياراته لمدينة مراكش، وحيث كانت "تجارة" العهارة رسمية ويشرف عليها الباشا الكلاوي نفسه، وذلك في حيين مختصين من أحياء المدينة، طلب القيام بزيارة لهن (وهو وزير للعدل طبعا) وجالسهن وشرب الشاي معهن وواساهن ودعا لهن، وتطوع علنا للوقوف بنفسه على كتابه عقود زواج من تمكنت منهن من الزواج(؟!)
* وعندما تخرج الأستاذ والزعيم علال الفاسي عالما من القرويين، متحصلا على الرتبة الأولى بين أقرانه، أقام له الشيخ حفلا تشريفيا خاصا بالمناسبة، وقبل ذلك وعندما كان الزعيم في أزمة صراع مع المؤسسة الجامعية (القرويين) هو والشيخ المؤسس محمد غازي، وقف معهما، ودعم موقفهما في مواجهة الإدارة، تم ذلك في العام الدراسي (1930) وهو رئيس للجامعة بحكم صفته الوزارية.
* بحكم مواقعه وكذلك بحكم موازين القوى، فلقد اتخذت مواقفه الوطنية... طابع السلب والنقض والممانعة غالبا، من ذلك مثلا: رفضه التوقيع على عرائض الإدارة الاستعمارية: في العام 1927 / في إدانة المقاومة وجيش التحرير (الخمسينيات) / في خلع الملك محمد 5 (1953) وتنصيب السادس، وبذلك فقدتا (العريضة والبيعة) قيمتهما الشرعية، لافتقادهما شرط الإجماع.
* كان قربه، كوزير للعدل، من الملك الشاب محمد 5، عاملا مهما في توعيته وخاصة في تحريضه على مواقف الممانعة والمقاومة عند الحاجة.
ومن أهم أساليبه في إقناع الملك وتصليب موقفه في مواجهة الإقامة العامة:
تنبيهه في كل حين وتذكيره.. بتاريخ الكرسي (العرش) الذي يجلس عليه، وأهمية وقيمة رمزية السابقين في الجلوس عليه من الملوك العظام، انطلاقا من المولى إدريس 1 ويوسف بن تاشفين وع. المومن بن علي والمنصوران... إلى جده العظيم الحسن 1. محذرا إياه أن يتنازل عن إرثهم أو تهون عليه قيمتهم ومنجزاتهم أمام المقيم العام.
-وعندما كان المقيم العام، وعلى سبيل الاختبار والتدرج في استصغار واستضعاف الملك الشاب والغرير سياسيا في نظرهم (ولهذا اختاروه ملكا في الأصل) كان الشيخ يحذره من التنازل وقبول ذلك، ويحرضه على التشبث بالطقوس (البروتوكول) وذلك بالنظر لقيمتها الرمزية ودلالاتها السياسية. ويقول له، إذا قبلت اليوم أن يخاطبك نائب المقيم... فعليك غدا أن تنتظر أمرا يأتيك من مقدم حي (؟!)
وهذا بعض سر الاحترام الخاص الذي كان الملك يمحضه للشيخ، وكان يناديه ب"عمنا الكبير" وكان يوده ويضاحكه ويقبل الحديث معه وهو جالس والملك واقف (؟!)
وكان لذلك، من بين من سافر إلى باريس لاستقباله عند عودته من المنفى منتصرا.
مع ذلك، وعندما عمد جناح الثورة المضادة، إلى اعتقال بعض رموز المقاومة (البصري واليوسفي) بدعوى محاولة اغتيال ولي العهد (؟!) في العام (1957)، لم يتردد الشيخ في إعلان رفضه وتقديم استقالته ومخاطبة الملك قائلا له: "قد كنا في سكة واحدة، وأنا سأموت فيها" ما يعني أن الذي زاغ عنها ليس هو (؟!)
أما علاقته بالحسن 2، فلقد اتسمت بالتوتر دائما، وذلك إلى حين وفاته.
* لقد كان هو من زكى توليته للعهد، وأدى يمينها أمامه، واستمر ملتزما بذلك، رغم التخوف والتشكيك، ولذلك فعندما توفي محمد 5، استدعي الشيخ من إقامته بمدينة فاس، ووقف على البيعة والتنصيب للملك الجديد، وأمّ المصلين على جنازة الرجل (=الملك).. وذلك بالرغم من الاختلاف الذي كان قائما بين الفقيه والسلطان (؟!) ومن مأثور الأخير ، تلقيبه الشيخ ب"السبع".
* عندما استدعي من قبل حزب المعارضة "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" وذلك من أجل رئاسة المؤتمر الثاني للحزب شرفيا، وإلقاء الخطاب الافتتاحي فيه. لم يتردد الشيخ في الاستجابة لذلك رغم حساسيات الموقف من جميع جهاته، سواء باعتبار ايديولوجية الحزب وطبيعة معارضته الجذرية للحكم، أو من حيث موقف القصر... وبقية المؤسسات الاجتماعية والدينية المرتبطة به... من الاتحاد الوطني...
من مدينة فاس، حيث كان يقيم، استقدم ابنه مصطفى لمرافقته في إنجاز المهمة، ومن قبيل التحذير، حاول الأخير تنبيهه إلى دقة الموقف وخطورة المبادرة.. غير أن الشيخ أجاب ابنه قائلا: لا حاجة لي بعقلك، حاجتي لرجلك (=قيادة السيارة لبلوغ مدينة الدارالبيضاء حيث جلسة المؤتمر).
وعن اشتراكية الحزب الذي رأس مؤتمره، وهو غير ملتزم بها، كان يخاطبهم قائلا: .. الأهم هو ألا "تشركوا" بالله... وهي من نكثه الشهيرة.
بعد ذلك، أضحى ملتزما مع الحزب أكثر فأكثر... وكان يقول لابنه مصطفى، "إذا كبرت، ولو بقيت حجرا بين يديك، فصوبها نحو عدوهم" وعدوهم معروف، وموقفه لذلك أضحى معروفا أكثر قبل وفاته رحمه الله.
[هذه نفس الصورة التي عبر بها لاحقا محمد درويش ولنفس المعنى... وذلك في قصيدته الأشهر (مديح الظل العالي):
.... وسقطت قربك، فالتقطني
واضرب عدوك بي.. فأنت الآن حر].
* من أهم مجاهيل سيرته، سفره العلمي إلى تونس حيث التقى بنظير له هو الشيخ الفضل بن عاشور، وتشكلت بينهما صداقة، وحيث حاضر في الزيتونة عن العلامة المغربي الحسن اليوسي... لا نعرف شيئا عن الأمرين، ولا عن الزيارة عموما: تاريخها، أنشطتها، علاقاتها، كم استغرقت... ونفس الأمر بالنسبة لعلاقته بجمعية العلماء في الجزائر، وخاصة منهم الشيخ الإبراهيمي والظروف التي دفعت بهم إلى تنصيبه رئيسا شرفيا لجمعيتهم الرائدة.
* أيضا، فإن دراسة مكتبته الخاصة لم تتم حتى الآن، سواء من ذلك معرفة نوع الكتب والمجلات... التي كانت مصدر ثقافته، وخاصة الاطلاع من خلالها على تهميشاته وتعليقاته على صفحاتها، وقد كان هذا أمرا معمولا به وسائدا عهدئذ، وهي اليوم محفوظة ومفتوحة للقراء في (مكتبة السقاط) بالدارالبيضاء.
ولا شك، أن العثور والاطلاع على أحاديثه الإذاعية بمناسبة الحرب "العالمية" الثانية سيكون مفيدا أيضا في هذا الصدد...
* لعل من مفارقات شخصيته وعلاقاته الخاصة.. أن يكون، وفي نفس الوقت، صديقا ومقربا من الشيخ أبي شعيب الدكالي ومحمد الخطابي وموحا وحمو الزياني... إلى جانب العلاقة مع المخزن بل ومع الإدارة الاستعمارية(؟!) ما قد يبدو تنافرا أو تناقضا، ليس كذلك بالنسبة إلى شخصيته المركبة وفكره الجدلي المفتوح الوطني والتحديثي في نفس الوقت (؟!).
* ويعتبر الشيخ من أوائل الفقهاء الذين انتبهوا لوسائط التواصل الحديثة، واستعمالها في مخاطبة الشعب والتأثير عليه. ومن تم فيجب اعتباره من رواد الإعلام الصحفي-الإذاعي في المغرب المعاصر.
* أخيرا فلعل من جوامع الكلم العميقة والمعبرة بدقة عن وعي الشيخ واستراتيجيته وتدبيره... تعريفه لنفسه ولخطه الفكري والسياسي بالقول: "أنا إسلامي، فوق عروبتي، وعروبتي فوق مغربيتي، ومغربيتي فوق العرش، وأنا في خدمة العرش، ما دام العرش في خدمة الشعب".
ومن مأثور تصريحاته ومواقفه السياسية قوله، رواية عن روبر مونتاني "نزعات المغرب الشاب": "..إني أفضل المغرب صحراء مجذبة، مع الحرية والاستقلال، على أن أعاينه في طريق التمدن، ولكنه مقيد بسلاسل الاستعمار السائد حاليا، لقد قبل المغرب حضارة في شروط اسعباد، وغنى في شكل استعمار" (عن جورج أوفيد: اليسار الفرنسي والحركة الوطنية).
* * *
فيا أيها الحداثيون المغاربة، ويا أيها الوطنيون الجدد، والذين يدخلون الديمقراطية الاجتماعية والخصوصية (=الهوية) والاستقلال... ضمن مفهومهم الجديد للوطنية في زمن الامبرياليات وتحالفها الأطلسي وعملائها وحراسها من الصهاينة والرجعيات العربية... ها هو ذا كنز ثمين وذاكرة ثرة ومرجعية للمشروعية... في مشروعكم المنشود لإعادة النهوض من جميع التعثرات والكبوات والإخفاقات التي مرت بنا، إلى جانب الانتصارات أيضا وأيضا.
في سبيل ميثاق يجدد الوطنية المغربية ويربطها إلى أمتها، وفي سياق تحالف عريض يجمع جميع الديمقراطيين من شتى منطلقاتهم الايديولوجية، المتكاملة يصدر هذا الكتاب عن هذا الرمز الذي نجتمع فيه وحوله جميعا، ويعبر عنا جميعا.