في أشهر بيت رثاء في تاريخ الأدب العربي، يقول أحمد شوفي مؤبنا رفيقه في تأسيس الحداثة بالشعر وللشعر العربي الشاعر الأشهر عربيا في غرض الرثاء، حافظ ابراهيم.
قد كنت أوثر أن تقول رثائي ** يا منصف الموتى من الأحياء
العجز عن الإنصاف في حالتينا، هو وجه الشاهد هنا، ذلك لأن اللغة أصلا وضعت للتعبير عن الحياة لا عن الموت، فما بالك والفقيد كان يحمل كفنه تحت إبطه ولا يبالي، سيكولوجية الاستشهاد إذن، والتي هي أخطر وأمضى الأسلحة، في جميع الأزمنة، حالة الفلسطينيين اليوم، في غزة خاصة جاهز للموت في حياته النضالية، وحي في موته الاستشهادي.
مسؤوليتي في تأبين ع. الواحد مضاعفة، مقارنة إلى بقية أصدقائه ورفاقه، ذلك لأنه أخي الأسري والعائلي، ولا يوجد غيري يمكن أن ينوب عني أو يشاركني في تقديم هذه الشهادة لتاريخه الشخصي كما لتاريخ جيله ورعيله.
1- في بيت تقليدي كبير، بل وفي درب شبه أسري في تركيبته بعرصة اوزال بحي باب دكالة (مراكش). كان مسقط الرأس، وكانت النشأة المشتركة، والتي استمرت دونما انقطاع، إلى حدود العام 1968 حينما انتقلنا معا من مدينة مراكش، هو إلى الجزائر، وأنا نحو فاس وذلك في حالتي، بقرار من الحلقة (=النواة) السياسية السرية، (ذلك لأن خليتها المركزية (4 طلبة) كانوا في طور التخرج، ويحدث فراغ من تم (؟ !)) والتي ستتخذ لها لاحقا اسم 23 مارس. كان على رأس الأسرة "سي السيد"، غير أنه كان فضلا عن ذلك البعد التجاري المشترك لأبي مع بطل "الثلاثية"، فقيها مجالسا لعلماء جيله. درس في ابن يوسف وفي القرويين، صوفيا درقاويا، تمرس على الجوع ولبس المرقعات، وربما الجذب أيضا. غير أنه سرعان ما تحول نحو السلفية العملية أو النضالية. وهو وجه لم يتم الاهتمام به بعد، بحثا وتأريخا. هذا مع أنه كان الأقرب إلى أن يكون المقدمة الحقيقية والمباشرة للحركة الوطنية، أكثر من السلفية العلمية أو النظرية. لقد كان أبي والذي هو جد الفقيد، يحارب في الميدان، مختلف أشكال الشعوذات والمشعوذين (السحرة والشوافين) والتصوف الوثني والشاذ، وعبادة الأشجار والموتى... إلخ. يجمع لذلك العرائض الشعبية والفتاوى الفقهية، بل والتظاهرات الجماهيرية لإحراق سدرة أو نزع ما يعلق على نوافذ الأولياء تشفعا من أقفال أو عقد أثواب، ومطاردة آكلي اللحوم النيئة والماء المغلي في المواسم الدينية أو في الدروب والساحات العمومية.
هذا الفقيه- المتصوف والمجدد السلفي والمحافظ... هو من تولى ومباشرة، الإشراف على تربية وتوجيه أبنائه وأحفاده جميعا. ومن خلال خطابه وتوجيهه شبه اليومي مرر ما كان مدمنا على مطالعته: ابن خلدون وتفسير الطنطاوي جوهري وأدب المنفلوطي وتصوف ابن عطاء الله...
لقد كان أيضا شاعرا في أدب الملحون، وذلك بعد أن جرب وأخفق في الفصيح، وفي المنزل كان شعراءه وجمهوره، يجتمعون في جمع الملحون لترديد قصائد في الغزل الجسدي، وفي أسبوعية، الخمر... جنبا إلى جنب، مع أخريات في المديح النبوي... ولا تناقض؟ أو هو انسجام (وليس تطابق) جدل "وحدة التناقض".
لقد كان أيضا واحدا من هيأة "المخزن" أمينا لدى الباشا الكلاوي على كل ما يؤكل في المدينة، ومسؤولا دائما عن المؤسسة الخيرية للأطفال المعدمين أو المتخلى عنهم. ولذلك فلقد كان منزلنا مليئا بهن كخدم(؟ !). والأهم أنه كان قاضيا مدنيا (=حكم) للطائفة اليهودية في مدن الجهة جميعا- وهو ما يفسر حضور اليهود بقوة في حياتنا الأسرية، خاصة بالنسبة لنسائها، في الطبخ واللباس وما يتصل بهما.
2- كان حي باب دكالة من أحياء الطبقة الوسطى عموما، ولكن أيضا بعض الفرنسيين سكنا، وبعض اليهود تجارة. وأكثر ما كان يضايقنا من الفرنسيين كجيران أقربين هو نباح كلابهم المزعج، وما يخرجونه كل صباح من أزبال مقززة، مقارنة إلى أذواقنا التقليدية- الإسلامية.
3- في المسيد بالدرب، كان أول خروجنا من الشرط العائلي الضيق، كان الفقيه (م. المحجوب) غاية في الصرامة والعنف. وكان الأب يشجعه في البداية على ذلك. غير أنه سرعان ما عدل عن ذلك. وألحقنا مطلع العام 1953 بمدرسة أبناء الأعيان (مدرسة الباشا) والمقصود (الكلاوي). حيث الازدواج اللغوي والثقافي، وحيث درس أخي الأكبر وأب الفقيد سلفا، وذلك رفقة ع. الصادق الكلاوي المعروف، غير أن أخي سرعان ما انفصل عن الدراسة ليمتهن صنعة أبيه.(؟ !)
4- في نفس السن، التحق جميع أطفل الأسرة بالكشفية العبدلاوية بخيمة خاصة بنا اشتراها أبي لهذا الغرض، لم يكن السي السيد متحزبا لغير الملك و"الملكية" على النمط المخزني- ولكنه لم يكن خصيما لحزب الاستقلال خلاف الباشا، ولذلك كان الحل بان نلتحق بالكشفية التي كانت محسوبة على "حزب الشورى" المقبول من قبل الحماية ومن قبل مخزنها المحلي، وغير الوطني (الكلاوي وبطانته).
في الكشفية وعلى رأسها القائد- القدوة، السيد المدني، تلقينا التربية الثانية، ولعلها كانت الأهم مما تلقيناه في الأسرة. العمل اليدوي والاعتماد والثقة في النفس واليقظة والاستيقاظ باكرا، والتحمل والتقشف، وحسن التدبير وإتقانه، والعمل الجماعي والتضامني، والأناشيد الوطنية والرياضات وأهمها المشي لمسافات طويلة والارتباط بالقيم ذات الطبيعة الكونية والإنسانية... والكثير مما يفتقده للأسف أطفالنا ومراهقونا اليوم في عهد الاستعمار الجديد والذي هو أسوء من القديم (؟ !)
5- في العشرين من غشت، وإثر مخاض طويل، تكشف عن نهاية غاية في البعد التآمري، ذلكم هو خلع السلطان الشرعي (محمد 5) وباسم شرعية مخزنية- استعمارية مصطنعة، وذلك في صيغة عرائض من قبل "علماء" وقواد وشيوخ زوايا... الاستعمار... وباسم "شعب" مقهور على أمره، وتم نفيه، وتنصيب إمعة مكانه وببيعة مزورة (؟ !).
قضت الإدارة الوطنية (حزب الاستقلال) بإعلان الإضراب العام، الاحتجاجي والرافض، بما في ذلك قطاع في التربية والتعليم. وكان لذلك دلالات غاية في بؤس الوعي السياسي والاجتماعي – الثقافي لديها، لم تقدم عنه وحتى يومه نقدا ذاتيا (؟ !) أصدر السي السيد أمره المطاع، بالانقطاع عن المدرسة إياها، وذلك لمدة سنتين عوضهما بمدرسة منزلية وبمعلمين لم يستفد منهم سوى فتيات الأسرة الأكبر سنا منا نحن الذكور الأصغر، والذين عدنا إدراجنا نحو المسيد، ولكن دون طائل، فلقد ذقنا في المدرسة طعم العصرنة، وكان صعبا علينا العودة إلى ما قبل الحداثة، التي ولو أنها كانت بوسائل استعمارية.فهي أهون من تقليدانية العصور الوسطى الموروثة (؟ !).
6- عامان من عمر الأخذ، ضاعتا عبثا، لولا الإنقاذ الجزئي للنظام الكشفي وبعض ما كنا نستمتع به منزليا من أفلام شارلي شابلان، التي كان مناضلو حزب الاستقلال يعرضونها في المنازل الكبرى وجماعيا على العائلات والأسر والجيران، وكذلك الذهاب الجماعي – الأسري للتربية على أيدي محمد ع. الوهاب فريد والأطرش ويوسف وهبي وأم كلثوم... في القاعات السينمائية التجارية وأسفارنا الموسمية نحو الجديدة والدار البيضاء ...
7- في هذا الوقت، وباستثناء السي السيد والنساء، فلقد التحق الكبار في الأسرة جميعا بالحزب الوطني العتيد (=الاستقلال). وواحد منهم، هو أخي وأب الفقيد، بالمقاومة المسلحة ذاتها، والتي لم يستفد منها مطلقا بعد الاستقلال ولو ببطاقة اعتراف... وذلك عن قصد من قبله. وأضحى لذلك "صوت العرب" ينصت إليه جماعيا. ونفس الأمر بالنسبة لجريدة "العلم"، ولكن أيضا، وبالنسبة للفتيات، بعض منشورات الشرق الترفيهية والإخبارية عن الفن والفنانات...وأشهرها مجلة "الموعد". والأهم أن السياسة "الوطنية" بدأت تتدخل في الوعي والشأن الديني- كامتناع البعض عن صلاة الجمعة عندما يكون الإمام "خائنا" وعن الاحتفال بالأعياد الدينية- ومنها ذبيحة الأضحى... حزنا على المنفي .... لم تعد الطقوس الدينية "مقدسة" إذن، بل أضحت توظف أرضيا ولخدمة السياسة الوطنية، وضدا على التأويلات الرجعية والاستعمارية للدين وللتدين.. ومؤسساتهما وطقوسهما المصطنعة...
أما نحن الأطفال، فلقد انفتحنا على بقية أترابنا في الحي، وشكلنا عصابة "إرهابية" تحت زعامة « Mon ptit »أكبرنا سنا، ولكن أيضا شجاعة وإقداما. نكسر المصابيح، ونقطع أسلاك الهاتف، ونزيل الأغطية الحديدية عن بالوعات مجاري المياه، ونمد الحبال أمامها لسقوط أفراد اللفيف الأجنبي في الجيش الفرنسي عندما يطاردنا إلى منازلنا بين الأزقة والدروب، ونحرق بالفئران المغموسة والمشتعلة بالنفط، سقوف القصب والقش فوق سويقة الحي. بل وحرقنا دكاكين بيع السجائر، ودكان شركة "سنجر" ودكانا ليهودي يبيع أدوات الحدادة والنجارة (؟ !) ولم يفلت من تأديبنا، البعض النادر من المبتلين بالخمر أو التدخين أو استعمال الخميرة الصناعية في عجين خبزهم العائلي (؟ !)
كان سلوكنا عفويا، غير أن خلفه، كان ثمة توجيه حزبي "استقلالي" خفي وغير مباشر غالبا (؟ !).
8- مع بشائر الاستقلال المنشود ولكنه المنقوص. والعودة المظفرة للملك الشرعي، لأنه مناضل وطني، وليس لأنه وريث، انطلقت في حينا، بل ومن دربنا بالذات، أخطر حركة رافضة وعنيفة ضدا على استقلال يتصالح مع الخيانة ومع الخونة. لم يكن لها مثيل في المغرب إلا جزئيا في مدينة (القصر الكبير)، لقد عمدت خلية مقاومة، إلى اجتماع سري في بيت أحد أهم رموز وممولي حزب الاستقلال (سريا) السيد "العريبي" وهو في الأصل مهاجر من الصحراء المستعمرة اسبانيا. وفي منزله كان يقيم المختار السوسي عند حلوله بالمدينة، وتقام فيه لكبرة أعراس المناضلين في شبيبة الحزب (الصديق الغراس مثلا) في احتفالات يتداخل فيها العائلي بالجماهيري الحزبي في آن معا وجميعا (؟ !) (ساهم لاحقا مع بعض صحراويي الداخل، مثل المرحوم الوفا، في إقناع أعضاء مجلس شيوخ الصحراء بإعلان ولائهم للمغرب وبيعتهم لملكه).
عرفت لاحقا، أنه في رياض هذا البورجوازي الوطني "الاستقلالي"، تم لقاء لبعض شبيبة المقاومة والحزب، وذلك بقصد وضع لائحة بالخونة الذين يجب استهدافهم بالاغتيال ثم حرق جثثهم، إلا واحدا هو مقدم الحي "مغينية" الذي حكموا عليه بما كان يتحدى به الوطنيين، أن يحرقوه حيا إذا عاد محمد الخامس من منفاه (؟ !) وكان قد احتمى بالمسجد الجامع للحي، مع مصحف ونقود للتبضع من السوق، وذلك حتى لا يحرج عائلته في تموينه. وهيئوا لذلك أكواما من الجريد في الفضاءات خلف سور المدينة و"باب دكالة" المسمى به حينا.
هل كان وراء هذا القرار أمر ما من القيادة للحزبية أو للمقاومة (محليا أو وطنيا)؟ لم يجرؤ أحد حتى يومه، على تأكيده أو نفيه. غير أنه حصل، وجملة المستهدفين كانوا عموما في حينا ومحيطنا، وذلك عدا الكلاوي الذي أمنه السلطان عندما سامحه بعد تقبيله لقدميه في فرنسا. ولكن أيضا منعته أسوار قصره وحراسته المشددة والممتنعة.
كان يوما مشهودا، ونادر الحدوث في التاريخ البشري، وذلك من شدة عنفه ودمويته المرعبة. لقد عانياه في تفاصيله. ذلك لأنه كان محصورا في حينا حيث المحرقة، وانطلق من دربنا حيث الفقيه "بوركبة" وزير العدل في حكومة ابن عرفة.
لم يكن أبو عبد الواحد مشاركا في القرار، غير أنه التحق به بغاية توجيهه، فوجئنا به يحفر في حوض المنزل ويهيل التراب عن مسدس كان مدفونا به وينتقل بين الأسطح. وأوقف فصلا ما كان يرمى على منزل الوزير من أفرشة وخشب لإحراقه حيا، أو إرغامه على الاستسلام، وذلك لإقناعه بإخراج أبنائه أحياء، ومن تم استمر في "مقاومته" المسلحة، إلى أن أصيب برصاصة من بندقية صيد، فاقتحموا عليه المنزل، وسحلوه عاريا طيلة المسافة من دربنا إلى حيث المحرقة ليرمى فيها... وكذلك صنعوا مع الجميع، وهم كثير، وليسوا جميعا من رموز الخيانة بل أحيانا محض عسس وخدم. أما "مغينية" فلقد اقتحموا عليه المسجد، ورموا به حيا في المحرقة بمصحفه وبنقوده وهو يرجوهم أن يسلموها، على الأقل، لأبنائه (؟ !).
لقد عاينا بأم العين ونحن بعد صغارا، كيف تستحيل الجماهير بسبب الإهانة والقمع، إلى تقمص شخصيات "الأسياد" وإلى التمثيل بهم، نظير ما كانوا عرضة له من قبلهم، إنها حالة ما كان يسميه نيتشه بـ"أخلاق العبيد" أو منتوج القمع المضاعف، عندما يتوسل بوسائل إيديولوجية العودة إلى عصور ما قبل التاريخ، إلى زمن التوحش والهمجية. ولكن أيضا، رد فعل من أحس بما يعتبره أخطر من الإهانة، ألا وهو الغدر وحتى الخيانة، من قبل من أوكل إليهم أمر قيادة النضال من أجل حريته واستقلال الوطن. وفي جميع الحالات، فقد كان ثمة غموض سياسي شامل، لم يكن من المنتظر أن ينتج غير ذلك أو أكثر (؟ !).
"المؤرخون" الشباب المغاربة فضلا عن الشعب ومراكز البحث الجامعي أو المدني (الحزبي والنقابي والثقافي...) لم تهتم بعد وحتى الآن بالموضوع، توثيقا وتأريخا أولا، ثم تقييما وإصدار أحكام ثانيا. وحيث لم يحصل، فلا مانع من إمكان تكراره لاحقا. إذ لا يمنع من تكرار أخطاء التاريخ، سوى وعيها ونقدها نخبويا ثم تعميمها وإشاعتها شعبيا.
9- في الغد، ومنذ الصباح الباكر، فوجئنا بجنود فرنسيين (اللفيف الأجنبي) يقتحمون المنزل العائلي ويسيطرون عليه ونحن بعد نيام. وفهمنا لاحقا أن وضعية السيطرة تلك شملت دربنا كله (درب بلكبير) وذلك بحثا عن أخي الكبير، لتورطه، زعما، في مقتل بوركبة؟ ! مع أن هذا لم يحدث، بل إن عكسه هو ما حدث، وذلك بمبادرته لإنقاذ أبنائه (؟ !).
كان أبو عبد الواحد قد توقع الاقتحام في الغالب، وخرج هاربا قبل حدوثه في هندام نسائي نحو منزل عمي في حي الموقف. ولأن إسمه واسم أبي يكاد يكون واحدا (محمد وامحمد) فلقد تقدم أبي إلى الجنود باعتباره الوحيد في المنزل الذي يحمل ذلك الاسم. فاضطروا لاعتقاله وأخذه معهم نحو مخفر الشرطة ...
لم يمكث طويلا في الحجز، حتى أثار الخبر ردود فعل عامة مستغربة ومستنكرة، خاصة من قبل أعيان المدينة، بل والإدارة الفرنسية نفسها، فاضطروا إلى إطلاق سراحه سريعا. وبذلك تم إنقاذ أخي الذي بقي مختفيا لفترة طويلة قبل أن يعيد الظهور،بافتراض أنه كان على سفر. وبعد ذلك، فلقد طوي الملف كله جملة وتفصيلا وحتى اليوم. (؟ !) وبتواطؤ من قبل جميع الأطراف، لما فيها "العلمية" زعما.
10- عدنا إلى المدرسة النظامية، ولكن هذه المرة إلى ما كان يطلق عليه "التعليم الحر" والمقصود الخاص، الذي أسسته الحركة الوطنية، مستغلة "ليبرالية" الحماية الفرنسية. فتنافس الحزبان الكبيران (الاستقلال والشورى) على فتح تلك المدارس بالأحياء الشعبية، فتجد لكل حي مدرستان متنافستان، وكان من نصيبنا أن نتسجل في "المدرسة العبدلاويبة" المحسوبة على حزب الشورى. كيف لا والسي السيد هو أقرب إلى هؤلاء منه إلى حزب الاستقلال "الثوري" جدا في نظر عموم الأعيان والمخزن المحلي، ونخبتا جامعتا القرويين وابن يوسف، وأحد هؤلاء، هو من أوكل إليه أمر إدارة "العبدلاوية" وإمامة المسجد الجامع بالحي.
كان الأستاذ ع. الكبير الزمراني هو مديرنا وأستاذنا في مادة التاريخ، سلفيا وطنيا ومتنورا (خلدوني النظر) وشاعرا جيدا، ذا سمت مهيب، وهندام تقليدي أبيض دائما، وحركة سير غاية في الانضباط لرتابتها (=كانطية) صحوت، ولا يتجاوز قطر دائرة حركته المائة متر يوميا، من المنزل إلى المدرسة أو إلى المسجد بجانبها. ويستحيل أن تجده خارج ذلك المدار، بما في ذلك الحمام الذي يقيمه في منزله (؟ !).
وقع تسجيلنا في الفصل 3 (من 6 فصول دراسية في الابتدائي حينئذ) وذلك يعادل مستوى الملتحق من مسيد. كتاب المطالعة وعموم المقرر مشرقي وتراثي. من المعري حتى الرصافي، تؤكد جميعها على حب الوطن والعطف على البائسين والبائسات وسمو الأخلاق... ومن حين إلى أخرى، يأتي الفقيه المدير بجلال قدره، ليجلس على الطاولة (وليس الكرسي) ويعظنا بالتاريخ ومن خلاله (الاستقصا خاصة) وربما أيضا من خلال مختصره، الذي أنجزه ع. الله الجراري لتلك المدارس. وكان في شروطه حينئذ، جيدا.
بقية المعلمين كانوا عموما في أسناننا تقريبا، فهم حديثو "التخرج" من مستوى الشهادة الابتدائية. والحاجة فرضت تحمل مسؤولية التدريس من قبلهم، وذلك لتلامذة في نفس مستوياتهم تقريبا (؟ !) ومع ذلك، وربما أيضا بسبب ذلك، كان المردود مقنعا والحصائل وافرة. خصوصا مع كثرة الأنشطة الموازية كالموسيقى والرسم والرياضة وخاصة المسرح، الذي سرعان ما كنا نعيد إنتاجه على مستوى أسرنا والاحتفالات في دروبنا (عيد العرش خاصة). أذكر من ذلك خاصة السيد الغالي الصقلي، الذي ترك أثره المسرحي إيجابيا جدا، على مستوى المدينة بل وعموم التجربة المسرحية الوطنية، وذلك من خلال فرقة "كوميديا" الشهيرة، والتي كان مقرها في نفس حينا السكني. ويعود زمن تأسيسها من قبل الفرنسيين إلى المرحلة الاستعمارية (؟ !)
أسوء حصة دراسية كانت اللغة الفرنسية، ليس لأنها لغة المحتل المتعجرف والعنيف... بل أيضا، لأن المكلف بتدريسها كان هو في حاجة لمن يدرسه إياها، فكان يعوض عن "جهله" بذات العنف والعجرفة إياهما (؟ !) كانت حالة خاصة وشاذة.
ملحق1: عندما خرجت من سجن عام 1976، كان أول ما قمت به وعبأت لإنجاحه، وقد حصل، هو تجميع خريجي "العبدلاوية" وذلك بقصد تنظيم حفل باذخ تكريما لشيخنا ومديرنا وإمام مسجدنا الجامع الأستاذ ع. الكبير الزمراني، وأكاد أدعي أن ذلك كان المنطلق لسلاسل من هذا التقلد النبيل في الاعتراف بالفضل لأهله، وذلك على مستوى التراب الوطني جميعه. ثم انتهى إلى التمييع كأي تقليد جميل في شروط وسط قبيح.
2- العلاقة مع الشريف الغالي الصقلي استمرت متواصلة حتى يومه واستمرت عنايته بمسيرتي وتشجيعه لخطواتي دائمة، بما في ذلك حالات ترشحي للانتخابات (تشريعية أو جماعية) أو مناسبات الاحتفاء بشخصي...
3- خريجو العبدلاوية عموما، أضحت لهم على المدينة وعلى الوطن دالة ما، إدارية أو نضالية أو علمية، غير أن أبرزهم في تقديري، كان المناضل والقائد اليساري، الفقيد بالجزائر في شروط هروب مأساوي إليها (1972) انتهى بموته بها. أقصد بوعبيد حمامة، والذي يجب اعتباره، وبدون منازع أحد شخصين وضعا الحجر الأساس لما يسمى بـ "اليسار الجديد" وذلك انطلاقا من حدث الثورة الثقافية الصينية وكتابها الأحمر (1965) ثم خاصة الهزيمة العربية في 67. وما تمخضت عنه من أفكار وأطاريح وحركات تحرير وطنية وقومية يسارية جديدة. في المشرق عامة، وفي فلسطين والشام خاصة.
10- في العام 1959، التحقنا كتلاميذ بـ"الشبيبة العاملة المغربية" وذلك بواسطة أحد الزملاء التلاميذ الآفاقيين والأكبر منا سنا، والذي كان في الكثير من الأحيان يتناول الغذاء عندنا في المنزل، وذلك لبعد المسافة بين المدرسة ومسكنه في أحد الدواوير المحيطة بالمدينة.
كانت نقابة "الاتحاد المغربي للشغل" حالة خاصة واستثنائية على جميع المستويات. فهي:
1- منتوج التنافس وحتى الصراع بين أمريكا وفرنسا حول المغرب بل وعموم المستعمرات التقليدية لأوربا. وذلك بهدف تعويضهم (فرنسا) فيها بنمط جديد من الاستعمار (الأمريكي) كان قد جرب سلفا في حديقتها الخلفية (أمريكا الجنوبية) وبعض أقطار آسيا. وأعطى ثماره (الإيجابية) الأقل خسارة والأكثر مردودية بالنسبة للطرفين معا (للمستعمر والمستعمر)، فحيث تمكنت المخابرات الفرنسية من اغتيال "رجل أمريكا" في العمل النقابي التونسي الزعيم (فرحات حشاد) فلقد عوضوه بالمحجوب بن الصديق في المغرب، ووفروا له الحماية والدعاية والدعم.. بما في ذلك في مواجهة الدولة الوطنية المحتملة لاحقا (؟!)
2- وأيضا، فلقد اهتمت السيئة (C.I.A) وهي الموكول إليها مهام هيئات المجتمع المدني في الخارج. وذلك لضمان إبعاد نقابات المستعمرات ورموزها القيادية عن الارتباط أو التبعية للأمسيات الاشتراكية، بما في ذلك خاصة، فروعها النقابية المدعومة من قبل الاتحاد السوفياتي. وذلك كان مصدرا آخر لقوة ونفوذ واستقلالية (أ.م.ش) وقيادته الفتية، وقاعدته الشعبية الشاملة، وموارده المالية الفائضة...
3- فضلا عن ذلك، فلقد وجد فيه المخزن الوطني الجديد، معادلا مكافئا لحزب الاستقلال، ومخففا من ضغوطاته. ولذلك فلقد دعم "استقلاليته" ونفوذه؟
وكذلك كان الأمر بالنسبة لبقايا المقاومة من جهة، وليسار حزب الاستقلال على الأخص الذي سيعتبران النقابة متنفسه وظهير مساندته في مشاريع إصلاحه ثم انشقاقه عن الحزب الوطني العتيد (الاستقلال) الذي أضحى أكثر مخزنية، ويوما عن يوم.
هذا وغيره من أمثاله كثير، أهل "البيروقراطية" النقابية، لطموحات تتجاوز حدود "النقابة" للفعل في السياسة والثقافة... وهو ما استفدنا منه نحن الأطفال والمراهقين حينئذ، وعلى مستوى التثقيف والتنشيط والتكوين... وذلك في مقرها بنفس حينا السكني.
كان مقر نقابة (أ.م.ش.) على بعد أمتار من مسكننا العائلي، تماما كما كانت "العبدلاوية" ومقر المقاومة "دار الحاج إبدرا" وكذلك مقر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاشتراكي لاحقا) الذي كان في الأصل، مقر لمفتشية حزب الاستقلال لمراكش والجنوب .. كلها في دائرة لا يتجاوز قطرها مئة متر.
في فترة أواسط الخمسينيات، أي بدايات الاستقلال، تميزت مراكش عن غيرها بكثير، بل ومنطقة حينا السكني بالذات. لقد كانت حركة المقاومة فيها شابة، طلابية متعلمة وطموحة، كيف لا ومن جامعتها (ابن يوسف) تخرجت طلائعها المؤسسة ولعل أهمهم: عبد السلام الجبلي الذي أشرف بنفسه على كل شيء في المدينة خلال هذه الفترة. (سلطة فوق السلطة) وإلى جانب المقاومين، الذين استمروا مسلحين هنا بمراكش ، كانت الشبيبة النقابية القائدة وفي المقدمة منها المهدي الوزاني. وكانت بين الطرفين علاقات شخصية متعددة(؟ !)
وعلى مستوى الحزب نفسه، أي حزب الاستقلال، فلقد كانت قيادته أيضا شابة، مقاومة أيضا وتقدمية فوق ذلك، هي أيضا من خريجي ابن يوسف. وعلى رأسها كان الأديب محمد الحبيب الفرقاني والصديق الغراس والحبيب بن موح(اندمج في الإدارة وحمى رفاقه من خلال العمل فيها). عبد النبي بلعادل، بل إن قلب وعقل الشاعر عبد القادر حسن (مفتش حزب الاستقلال) كان معهم أيضا، غير أنه اضطر إلى الحياد، واستقال من العمل الحزبي مطلقا (؟ !) كما فعل غيره من أمثاله كثير (محمد غازي- ع. الله كنون، المختار السوسي...)
وعلى مستوى الحزب الشيوعي المغربي محليا، فلقد كانت شبيبته المدرسية ثم الجامعية (في فرنسا) أقرب إلى هذا المناخ والعمل فيه، مقارنة بأقرانهم الشيوعيين في مدن أخرى. وكان منهم من سافر للدراسة بالخارج (فرنسا خاصة) على حساب الصندوق المخصص من قبل المقاومين لهذه الوظيفة، وذلك مقابل أن يقوموا عند رجوعهم إلى أسرهم في العطل، بترجمة نصوص الفكر الاشتراكي بفرنسا (جان جوريس...) وعرضها على قواعد الحزب والمقاومة والنقابة على سبيل التكوين السياسي والإيديولوجي الجديد (=الاشتراكي).
أما الكشفية، الحسنية (الاستقلالية) منها، تحت قيادة القائد الكشفي الأشهر وطنيا وعربيا (وربما عالميا)، السيد عمر السعدي، أحد أهم المؤسسين لها وطنيا، (صديق ورفيق ادريس المحمدي بها) وأحد قوادها العامين إلى حين وفاته. أو العبدلاوية (الشورية) فلقد استمرتا في التنافس على تأطير وتكوين وتثقيف الأطفال والمراهقين، على قيم النظافة (مادية ومعنوية) والعمل التطوعي، والإبداع والخرجات نحو الغابات والأسفار (سافرنا راجلين أو على دواب وشاحنات متفرقة ومتعاقبة صيف أواسط الخمسينيات من مراكش إلى مدينة الجديدة) (1954 أو 1955).
في هذا المناخ وتلك الشروط، عمدت شبيبات المدينة المناضلة وذلك بقيادة المقاومين (الجبلي) وبالسلاح، إلى السيطرة على قصر الكلاوي وحولت مقر إدارته ومحكمته ... إلى مقر نقابي (حتى يومه) وإلى منزل خليفته (إيدر) وحولته إلى مقر مقاومة. ولاحقا (1959) إلى المقر الجهوي لحزب الاستقلال، وحولته إلى مقر للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ومعه تحول الحبيب الفرقاني من مفتش لحزب الاستقلال في عموم الجنوب (بما فيه الصحراء المحتلة اسبانيا) إلى كاتب إقليمي (وللجنوب أيضا) للحزب التقدمي الوليد.
في هذه الشروط، وجدنا أنفسنا أعضاء في الشبيبة العاملة المغربية، وذلك باقتراح ومتابعة من قبل الزميل في المدرسة، البدوي والأكبر سنا، مولاي السلمي (دوار المرابطين). ووجدنا أمامنا مباشرة، المؤسسين للتجربة المدنية الجمعوية لمغرب الاستقلال (ع. القادر أواب خاصة) والمسرحية منها خاصة لـ ع. الصمد الكنفاوي وع. الصمد دينيةوالطيب العلج (لاحقا). وعلى الصعيد المحلي حسن الجندي خريج نفس المدرسة النقابية (أ.م.ش) مسرحيا.
من رحم النقابة العمالية، تخلق المسرح المغربي لما بعد الاستقلال، وكنا لذلك من أوائل من تربوا على يديه وفي نفس الحقل والإطار الجمعوي- النقابي.
11- لا يجوز بحال أن ننسى في هذا الصدد أن ظل الزعيم ع. الله ابراهيم وأفكاره وقيمه وما كان يروج حول شخصه من سرديات... كان هو أيضا المناخ المهيمن على كهول وشبيبة وأطفال تلك المرحلة، في هذا الحي وتلك المدينة، خلال تلك المرحلة الحساسة من أوائل الاستقلال الوليد.
12- وفي نفس الشروط، وجدنا أنفسنا معبئين ومنظمين لحدث جسيم الدلالات، ألا وهو تشييد "غابة الشباب" خارج سور المدينة بباب الجديد، فليس غير الأطفال والمراهقين وبعض الشباب وكمؤطرين، من حملوا الفؤوس ومنذ الصباح الباكر، ليحفروا ويغرسوا أشجار الزيتون، ثم يهيلوا عليها التراب ويسقونها بالماء. وذلك مقابل وجبة تقتصر على حبات تمر معدودات وخبز وشربة ماء (؟ !).
13- تمة لحظة بالغة الدلالة والأثر في السيرة المشتركة لمرحلة التلمذة، ذلك هو شخص السيد محمد الحنصالي(أخو الحنصالي المقاوم والشهيد) كان شابا حببيا ومثقفا متفردا. استقدمته العبدلاوية المدرسة للقاء بتلامذتها بين الحين والأخرى، وذلك لإلقاء "محاضرات" مبسطة في شتى الفنون والعلوم، ولكن خاصة منها التربية الموسيقية، بما في ذلك خاصة سيمفونيات بيتهوفن الشهيرة. يفسرها ويحللها برفق وبتؤدة وتبسيط... يسمح لأعمارنا بتلمس أولي في فهمها، مقارنة إلى ما تعودت عليه أسماعنا من موسيقى إيقاعية- جسدية أو أغاني الطرب وكلامها الغزلي غالبا... ومن عروض تعرفنا على موسيقى التأمل والهارموني والسمفونيا... وبيتهوفن... إلخ.
14- قبيل أجواء امتحانات الشهادة الابتدائية (1959)، اتخذ المدير، جملة قرارات بالغة الدلالة على بعض شروط المرحلة:
- منعنا نحن ثلاثة أطفال من اجتيازها، ذلك لأننا كنا صغارا عنها في نظر السيد المدير (؟!) وهو ما يحتمل رسوبنا فيها. الأمر الذي لن يسمح، في إطار المنافسة، مع مدارس حزب الاستقلال، بتحقيق نسبة 100% نجاح كما كانوا يراهنون (؟!).
- سيقرر أخي وبالتشاور مع أبي قرارين: 1- تحويل عبد الواحد نحو مدرسة الحسنية، وذلك طبعا، تم تحت ضغط الحزب (الاستقلال) الذي كان ينتمي إليه حينها. 2- تسجيل ابنه الأكبر (محمد) في التعليم العمومي (المفرنس) وذلك تحت شرط خسارة ثلاث سنوات "إنقاذا" له من مصير خريجي التعليم المعرب (حر أو أصلي).
رغم ذلك، فلقد شاركنا معا (أنا وع. الواحد) في احتفالات آخر السنة المدرسية، وذلك بمسرحية مثلنا فيها دور أخوين، احدهما مجتهد ونجح في الحياة، والآخر مهمل وكسول ففشل وخسر.
15- في العام 1960 سنجتاز بنجاح شهادة التعليم الابتدائي، ولم يكن أمامنا غير منفذ واحد لمتابعة التعليمين الإعدادي والثانوي، غير التعليم الأصلي (الأصيل لاحقا) وذلك في جامعة ابن يوسف، التي انتقلت مع الاستقلال إلى ثكنة (دار البارود) بمقرراتها وطاقمها جميعا للذكور، و(دار المنبهي) قرب الجامع، للإناث.
وابن يوسف مع شقيقتها بفاس (القرويين) هما الذاكرة الثقافية للمجتمع والدولة المغربية، ولا يتصور فهم أي أمر في تاريخ المغرب الإمبراطوري بدون اعتبار دورهما الرئيس والحاسم فيه. وذلك منذ التأسيس زمن ابن طفيل وابن رشد وابن زهر... وغيرهم كثير. وحتى مرحلة الاستعمار، ورفض علمائهما التعاون معه، بما في ذلك خاصة، رفض أغلبيتهم الساحقة تزكية خلع الملك الشرعي (محمد 5) وبيعة سلطان فرنسا (ابن عرفة). وأيضا وبالأحرى الدور المركزي لابن يوسف في التأسيس المحلي والجهوي للحزبين الوطنيين، والتصدي لاستبدادية الباشا الكلاوي، ثم خاصة تأسيس المقاومة المسلحة، والتي أضحت ذات طابع وطني شامل، بقيادة التلاميذ – الطلبة المعروفين: ع. السلام الجبليوالفقيه البصري والفقيه الفكيكي والحبيب بن موح والحبيب الفرقاني...، وعبد النبي بلعادل... والقائمة أطول. وليس بدون معنى في هذا الصدد، أن تكون هذه هي الحالة الوحيدة مغربيا، وربما أيضا مغاربيا، حيث يؤسس تلامذة، مقاومة مسلحة، وذلك تحت إشراف وتوجيه مبطى من زعيم آخر هو أيضا خريج ابن يوسف هو المثقف والمفكر والمؤسس الزعيم عبد الله ابراهيم.
قبل ذلك، ومن قبل نفس تلامذة هذه المؤسسة، وتحت إشراف نفس الزعيم (ع. الله ابراهيم)، تأسس أول تنظيم نقابي عصري في المعرب. وذلك للصناع التقليديين أولا، ثم لاحقا، للفقراء والمعدمين (السعاة) مع تنظيم تظاهرة شهيرة لهم في جامع الفتا وسوق السمارين، بمناسبة زيارة بعثة للأمم المتحدة حول "ملف المغرب".
لقد احتفظ الأساتذة (العلماء) وبنفس المقرارات الدراسية الموضوعة أصلا لشباب من خريجي المدارس العتيقة. إذن من حفظة القرآن وأهم متون العلوم الإسلامية التقليدية. فالمنطق يدرس في السنة الثانية إعدادي وأصول الفقه، بل والخلاف العالي والبلاغة... وذلك فضلا عن العلوم الحديثة نفسها، المقررة لتلاميذ المدرسة العمومية، ولكن باالغة العربية.
وللمفارقة، فإن هذه أيضا كان يدرسها أساتذة جامعيون أتوا من المشرق (مصر والعراق). ذلك لأن طلب توظيفهم من قبل الإدارة في المغرب لإدارة التعليم في مصر تم تحت اسم "جامعة ابن يوسف" فتصوروا أن المطلوب أساتذة جامعيين. وهكذا صادف أن أساتذة العلوم في ابن يوسف كانوا أيضا أساتذة جامعيين. (؟ !)
لقد كان التلاميذ المقيمين بالمدينة، أقلية قليلة في (ابن يوسف) نسبة إلى الآفاقيين من شتى أقاليم الجنوب وعموم المغرب، وكان هؤلاء شبابا في أغلبيتهم، يخضعون للنظام الداخلي أو ممنوحي (نظام الخبزة القديم، تحول إلى منحة تتراوح بين 36 درهما وللمتفوقين دراسيا 46 درهما في الشهر)، وذلك فضلا عن تلقي موسمي للمعونات الغذائية الأمريكية (حليب مجفف ودقيق وجبن ولباس) أما السكن فكان في فنادق (تسمى مدارس) موزعة بين مختلف أحياء المدينة (16) في ملكية الأوقاف غاليا أو مكتراة من قبلها.
كان الاكتظاظ ظاهرا في الأقسام، يصل إلى المئة أحيانا، وقد تجد الأب وابنه أحيانا في ذات الفصل الدراسي (؟ !) غير أن الانضباط كان شاملا، وذلك بالنظر لأسنان التلاميذ ولهيبة الأساتذة ووقار موضوعات الدروس الملقاة...
كان الخروج عن الموضوع (المقرر) قاعدة فرعية لدى جميع الأساتذة تقريبا. وهو يوظف في الأغلب، للحديث في الشؤون الفكرية والسياسية، وكانت قاعدة (لا حياء في الدين) مرعيه هي أيضا من قبل الطرفين. النتاج وبعض الأساتذة، وتلافيا من قبلهم لـ "الحرج" الناتج عن تواضع علمهم، يعمدون إلى نمط من التعليم الذاتي للتلاميذ، وذلك عن طريق توزيع الموضوعات المقررة، كعروض يقوم بها التلاميذ أنفسهم بالتناوب. ونفس الأمر بالنسبة لمادة "الإنشاء" التي كانت معتبرة جدا ومقياسا للتفوق، وكانت الأولى تنقيطا منها، تقرأ أمام التلاميذ تشجيعا للتنافس في الكتابة. وذلك نقيض ما كانت عليه (ابن يوسف) وعموم التعليم التقليدي الموروث، من عناية بالحفظ وتشجيع على الاستذكار.
كانت طريقة التدريس تمزج بين الجد الديني والمحمضات الهزلية والنكت المضحكة، وذلك في غير حرج. كما أن زكوات الأساتذة غالبا ماكانوا يوزعونها على طلبتهم الأشد احتياجا. لقد كانت العلاقات تكاملية، تضامنية وشبه أسرية (؟ !)
لقد كان الإحساس بالهامشية وبالتهميش من قبل الطرفين معا. أساتذة وتلاميذ، عامل تضامن وتكامل لمقاومته. ومن تم لتجاوزه وللاجتهاد في الدفاع عن العربية وعن التراث الإسلامي المهدد والمستهدف من قبل إدارة الاستقلال المعتبرة امتدادا لإدارة الحماية الفرنسية، المهزومة سياسيا، ولكنها المنتصرة ثقافيا ولغويا. هكذا كان الإحساس العام والمشترك في (ابن يوسف). .................. الأخريات في عموم التراب الوطني.
أشهر أساتذتنا خلال هذه المرحلة كانوا فضلا عن العميد الرحالي الفاروق. ذ. والشيخ الدكالي (المفتي وشيخ الجماعة) وذ. السباعي وذ. أكنسوس (المنطق) وذ. الزهراوي (الفيلسوف) وذ. الناصري (قاضي لاحقا) وذ. الجرموني(تحصل على باكالوريا البعثة الفرنسية، وترجم كتابا عن المزارع السوفياتية بيسر) وذ.أملاح متعدد التخصصات، يتقنها ويبلغها جميعها).
أما المشارقة، فيترواح توجههم بين الليبرالي والناصري، وأحدهم في مادة الجغرافية كان عضوا في الحزب الشيوعي العراقي (؟ !) وكان له تأثير خاص على بوعبيد حمامة، وذلك قبل أن يلتحق حمامة بالحزب الشيوعي المغربي... أغلبية أولئك الأساتذة، لم يكونوا في حاجة لتلقين الدرس، إلى أكثر من نصف الحصة، وبقيتها يخصص لمناقشات مفتوحة على مواضيع شتى. وكان ذلك بالنسبة لنا هو الأهم.
جميع أولئك تقريبا كانت لهم مكانة وطنية في العلم التقليدي، كما في الالتزام بالمثل والقيم الأخلاقية، نظرا وسلوكا. ولعل هذا البعد، كان الأهم بالنسبة لتلامذتهم مقارنة إلى معارفهم وعلومهم التقليدية غالبا، عدا واحد منهم تميز عنالجميع...
15- إنه السر الأهم في سيرة (ابن يوسف) تمثل خاصة في أحد أبرز العقول النقدية والتربوية على الصعيد الوطني. وذلك بدون منازع، أقصد الأستاذ أحمد نوفل بن رحال. فلقد كان ظاهرة في علم الأدب ثم في الفلسفة لا نظير له. بما في ذلك على صعيد كليات الآداب في حينها ولاحقا. وإليه يعود الفضل حصرا، في جميع خريجي ابن يوسف في العهدين معا. وهم كثير في الصحافة وفي العمل السياسي، وهم كثير كالقرشاوي وحمايمو... بعد الاستقلال.
لقد كان طاقة علمية ونقدية جبارة في الإقناع والدعاية لفكر الأنوار والليبرالية والعلمانية والقراءة التحليلية لنصوص التراث المختلفة، وخاصة منها الأدبية، ولم ألتق في حياتي العلمية نظيرا له، سوى البنيوي التونسي توفيق بكار، غير أنه كان شفويا ينتج في البشر لا في الكتابة التي لم تكن تقليدا في التعليم الإسلامي الموروث (انتهى لاحقا إلى الأستاذية في جامعة القاضي عياض، وصدرت دروسه في علوم القرآن في كتاب مطبوع، بمناسبة حفل تكريمه عند تقاعده) وإلى هذا العلم- الظاهرة. يعود الفضل في الدور الخاص وشبه الاستثنائي لخريجي (ابن يوسف) سواء بالنسبة لعموم الحركة الوطنية ثم التقدمية، أو في مرحلة تأسيس اليسار الجديد (؟ !).
16- لقد كان أساتذة هذا التعليم من جهة، والإحساس بالنقص (المتوهم) ، من قبل التلامذة، مقارنة بتلاميذ التعليم العصري، يدفعانهم إلى التعويض عن ذلك من خلال المنافسة، والإدمان على قراءة الصحف والمجلات والكتب، وكانت "مكتبة ابن يوسف" فضلا عن كتبيي ساحة جامع الفنا للكتب المستعملة، واللقاء الأسبوعي في تبادل الكتب واقتنائها عن طريق المزايدة في الفضاء الخاص بها قرب جامع ابن يوسف... أدوات لتحقيق ذلك بكفاءة ومردودية لافتة، خاصة ومنشورات مصر المتنوعة والبخسة الثمن، تشجع على ذلك كثيرا.
ولقد فيض لمكتبة ابن يوسف العامة، وبالتالي لتلامذة ونخبة المدينة، فرصة نادرة المثيل، عظيمة المردودية، وذلك باختيار العالم الجليل والقائد الوطني العتيد والصحفي الرائد الأستاذ الصديق بلعربي، أحد الموقعين على عريضة المطالبة بالاستقلال والديمقراطية، والذي انسحب من العمل العام السياسي، إثر الصراع المحتدم في صفوف حزب الاستقلال قيادة وقواعد، وفضل الهجرة من سلا إلى مراكش، والإشراف على مكتبتها اليوسفية الزاخرة. ومن تم الوقوف على تلامذتها المسجلين بالمكتبة (مقابل تقديم كتاب هدية) توجيها وحوارا وتشجيعا أبويا حانيا وعالما نادر المثيل في موسوعيته. لقد كان لهذا الرجل القدوة، دورا استثنائيا آخر، في نشر العلم والثقافة عل تلامذة (ابن يوسف) خاصة. وهكذا تنافسنا إيجابيا، ليس في عدد ما تقرأ، ولكن أيضا في نوعيته، ولا غرابة أن تسمع عمن كانوا يقرأون عملا روائيا متوسطا في اليوم الواحد. أو ثلاث مسرحيات لشكسبير في اليوم... إلخ. وهذا كان بعض ما ميز خريجي التعليم الأصيل مقارنة بالعصري (الفرنكوفوني) الذي لم يكن الإدمان على قراءة الكتب من تقاليده (؟ !).
17- ولأن المقيمين من التلاميذ اليوسفيين كانوا على تواصل يومي ومباشر مع الآفاقيين، من قرى وبوادي الجهة. فلقد تلقحوا بالكثير من خبرات وتقاليد وقيم البادية منهم (بما فيها الصحراء الجنوبية المحتلة حينئذ) وكذلك صناعاتها الحرفية. إذ الكثير منهم، كانوا يمارسون مهن الحياكة (الطواقي والجلاليب...) وغيرها مصدرا إضافيا لمعيشتهم، وهذا "الامتياز" لم يكن متوفرا طبعا لبقية تلاميذ الثانويات العصرية؟ !
18- أما التلميذات اليوسفيات، فلم تكن لنا علاقة بهن، إلا من خلال ثلاث مناسبات: 1- بعض الرحلات الترفيهية الجماعية خارج المدينة، والتي كانت تنظمها تعاونية التلاميذ. 2- الإضرابات وما تحتاج إليه من تعبئة أو محاصرة. 3- النشاط الثقافي الجهوي أو السياسي الحزبي في إطار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية خاصة.
19- كانت هيئة التدريس في التعليم الأصلي (الأصيل لاحقا) باعتبارهم فقهاء وحماة الدين وال.............، يحسون بان مغرب الاستقلال، لم يكن سوى امتداد ملطف لما قبله، وربما أخطر، ولذلك، فلقد اشتغلوا بنفسية المقاومة، والعمل اليومي على نشر العربية في أوسع قطاع من المتلقين أطفالا ومراهقين وشبابا، وبهذا الاعتبار فلقد فتحوا المؤسسة على جميع المتساقطين في التعليم العمومي المفرنس، وذلك للتسجيل بها ومتابعة الدراسة، وذلك (مثل الـ) بغض النظر عن أي اعتبار، فأضحى التعليم الأصلي عمليا، بمثابة "سلك إنقاذ" والكثيرون من أولئك، أضحوا لاحقا أطرا في إدارتي المجتمع والدولة، ومن ذلك خاصة، توفير ما به تمكنت إدارتا القضاء والأمن، من الاستجابة لحاجياتها من الأطر، عندما تقرر تعريبهما في العام (1965) بقرار من الوطني الغيور ع. الهادي بوطالب، وربما تم ذلك في الأصل،استجابة لضغط الخريجين من ذات التعليم الأصيل، وذلك مع ظروف وأحداث مارس الشهيرة (؟ !)
أصبحنا عمليا في اكتظاظ لثانويتين في مبنى واحد، تفتقت عبقرية الإدارة وإرادتها النضالية، على تفويجنا إلى مرحلتين من السابعة صباحا حتى الواحدة، وبعدها يدخل الفوج الثاني. والعدد الإجمالي أضحى في حدود أربعة آلاف تلميذ حسب المتداول حينئذ (؟ !) وتحمل الجميع بذلك، نتائجه المرهقة كلها.
20- كانت قضايا التعليم "الديني" لهذا العهد، هي نفسها الموروث عن مشكلاته زمن الاستعمار السابق، أخص بالذكر ملفين: 1-إصلاح المقرارات الدراسية وذلك بعصرنتها، وتوفير الأساتذة الملائمين لها. 2-إقرار نظام الباكالوريا، نظير هو ما عليه الحال في التعليم العمومي العصري، وذلك بما يسمح لخريجيه بولوج الجامعة المغربية وغيرها من الجامعات. وهذا هو ما يفسر، أن تاريخ هذا النمط من التعليم كان هو نفسه تاريخ نضالاته الاحتجاجية والإضرابية والتظاهرية، خلال سنوات الستينيات كلها تقريبا.
ولأن نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، كان من حقها آنذاك، تأطير وتنظيم قطاع التلاميذ، فلقد كان تلامذة التعليم الأصلي هم الأهم عددا والأكثر حركية، في إطار النقابة الفتية، وذلك حتى بالمقارنة مع طلبة الجامعة في الرباط أنفسهم. وقد كانوا نخبة قليلة، مقارنة بالجامعيين المغاربة في فرنسا، وأحرى مقارنة بتلاميذ التعليم الأصلي.
ولأن مقر اجتماعات الودادية التلاميذية (في مقابل "التعاضدية" لطلاب الجامعة) كان هو مقر الاتحاد المغربي للشغل. فلقد تم اللقاء والتواصل مع الوداديين المسؤولين في ابن يوسف، وذلك باعتبارنا نلج نفس المقر باعتبارنا أعضاء في الشبيبة العاملة، أما الأسماء فكثيرة نسبيا أستحضر منها محمد صدقي، فريندي، وشي بن حسن.. ولحسن المزواري (برلماني عن المحمدية لاحقا).
ومن إضراب إلى آخر ومن اجتماع إلى آخر (وما أكثرهما) اندمجنا، على صغر سننا، مقارنة بالقيادة، وتدريجيا. وفي حدود العام 1962، انخرطنا في جمعية "الرابطة الفكرية"، وحيث إن مقرها كان هو نفسه مقر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبنفس حي (باب دكالة) حيث النقابة أيضا. فلقد انخرطنا عفويا وتلقائيا في الحزب، حيث لم يكن تمة فاصل بين الهيئتين عمليا.
21- بالنسبة للتاريخين السياسي والثقافي لنخبة مدينة مراكش خلال الستينيات، تستحق حالة جمعية "الرابطة الفكرية" تأليفا خاصا بها ولا شك أن نظائر لها، توجد في مدن أخرى بالمغرب. وللعلم، فلقد كان من جديد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وفي إطار توجيه مقصود ومدبر من قبل الزعيم المهدي بن بركة خاصة، هو مضاعفة العناية بجمعيات المجتمع، وذلك بشتى حقول اهتماماتها، محلية كانت أم وطنية ولا شك أن "الرابطة" في الأصل تأسست في نفس السياق. من الاهتمام الحزبي التقدمي لـ (أ.و.ق.ش) حقلا للتربية والتثقيف، وأيضا لاستقطاب النقابي والحزبي، وكذلك كان فعلا، وفي حركة تلقائية وحرة، لا يحس معها المنتسبون للجمعية بأي درجة من التدخل والتوجيه المباشر أو غيره، ماعدا إذا انحرفت، كما حدث في لحظة عابرة للرابطة، عندما توجهت تحت رئاسة محمد الراوندي (لاحقا أستاذ في دار الحديث الحسنية، وعضو بارز في المجلس العلمي الأعلى منذ تأسيسه) نحو "دار أمريكا" وجلب كتبها، فلقد حضر الفقيه البصري بنفسه، ولاحظ ذلك وانتقده، فانسحب الرواندي وعادت الرابطة إلى سيرتها التقدمية.
لقد كانت "الرابطة" مدرسة أولى بحق، مقارنة بجميع الممارسات والهيئات النضالية الأخرى السابقة عليها...
22- في 16 يوليوز 1963 حدث منعطف خطير في تاريخ الصراع الاجتماعي، السياسي في المغرب المعاصر. لقد تم اقتحام المقر المركزي لحزب القوات الشعبية في الدار البيضاء، واعتقل جميع من حضر اجتماع هيئته الإدارية المركزية، ثم امتدت الاعتقالات لقمع مقرات الحزب الإقليمية ومساكن الكثير من مناضليه في حملة لم يسبق لها نظير، وذلك حتى في زمن الاستعمار. خاصة في البوادي والقرى. وحسب الأخبار الشفوية الرائجة حينئذ، فلقد عمت لا أقل من عشرة آلاف مناضل ومتعاطف.
كانت ردة شاملة بجميع المقاييس والاعتبارات، قادها مباشرة الجنرال الدموي الشهير محمد أفقير، خادم الأعتاب الاستعمارية قبل المخزنية، بل وعلى حسابها دائما، ولاحقا بشكل صريح في محاولتي الانقلابين الفاشلتين.
إن على الوطن صمت شامل وقهر سائد، ولم يعد تمة من صوت معارض، إلا ما كان من جريدة الحزب الشيوعي المغربي (المكافح) التي كنا نواظب على قراءتها، والنقابة الطلابية (أوطم). وهي في فرنسا أقوى منها في الداخل، والنقابة العمالية التي أضحت تقتصر على معارك "الخبز" وحدها فقط. ثم أسبوعية "الأهداف" التي وقع تأسيسها لاحقا، وذلك من قبل الحزب الذي أضحى سريا، وذلك من قبل الثلاثي اليوسفي (الخراص، القرشاوي واحمايمو) أما المقرات الحزبية، إلا القليل فمغقلة. والمفتوح منها لا يتجرأ على زيارته، وحده المهدي بن بركة في الخارج واليوسفي بالداخل و (28) برلمانيا اتحاديا في مجلس النواب والجمعيات المدنية المحسوبة على حزب الاتحاد (؟ !) وبالطبع ع. الرحيم الذي سيحافظ على خيط معاوية مع القصر الملكي.
ما العمل إذن؟ كان من الضروري المبادرة إلى رد فعل ما سياسي، يكافئ الجرم المقترف من قبل "دولة الأمن" المتغولة والانقلابية؟ فكان اللجوء إلى منظمة (أوطم) الطلابية. وهذه كانت بالغة الهشاشة على الصعيد الجامعي بالداخل، غير أنها ليست كذلك على الصعيد التلاميذي (الوداديات) خاصة في ثانويات التعليم الأصلي، وذلك في العديد من المدن المغربية، أهمها مراكش، فاس، مكناس والجديدة.
وبالفعل، فقد وقع توظيف النضال النقابي المطلبي لتلامذة التعليم الأصيل (إقرار نظام الباكالوريا بالأخص...) للتشويش على الوضع السياسي، بل ومن أجل خلق حالة توتر عامة، وذلك بإعلان إضراب غير محدود في جميع ثانويات هذا النمط من التعليم على المستوى الوطني.
وجدت هذه الحركة النضالية صداها المعبر على صعيد حزب الاتحاد الوطني ..وذلك بالأخص عن طريق تبني أسبوعية "الأهداف"، لتجمعاتها وتظاهراتها وشرح مطالبها، ولكن أيضا بالأحرى على مستوى "العلماء" مباشرة، على المستوى المحلي، أو سياسيا من خلال جمعيتهم الوطنية المناضلة (رابطة علماء المغرب) وبقيادة العالم المجاهد، الشيخ عبد الله كنون.
كنا معا، ومنذ المنطلق، في الهيأة القائدة لهذه المعركة، وساهمنا مباشرة في تأطيرها اليومي، وتوفير شروط التمويل اللازمة لصمود التلامذة الآفاقيين والآخرين "الداخليين" حتى لا يغادروا. وفي محاولات توسيعها والدعاية لها وتنسيق علاقاتها بنظائرها في المدن الأخرى، وبالأساتذة والصحافة الوطنية... إلخ. وأيضا في مختلف مراحل وأشكال مفاوضات الإدارتين الترابية والتربوية. إلى أن انتهى الأمر بمناظرة المعمورة الشهيرة، والتي أقرت مطالبها جميعا وهو الإضراب الأطول في تاريخ النضالات النقابية المغربية (؟ !).
لقد كان الإضراب إياه، بمثابة مدرسة تكوين حقيقية، وذلك على جميع المستويات التنظيمية والدعائية (توزيع مناشير سرية في الأحياء) والسياسية والخطابية.
كانت مقرات التجمعات هي "مدارس" سكن التلاميذ، وفي العلاقة مع التلميذات. فلقد سمح لنا "الاتحاد العام للشغالين" باستغلال مقره لذلك الغرض.
أما مصدر التمويلات، فكان أساتذة (ابن يوسف) بمن في ذلك الرحالي الفاروقي والدكالي والسباعي وأحمد نوفل.. وبعض الطلبة الموسرين وعائلاتهم.
أم طبع المناشير، فلقد كان يتم في منزل أحد أعضاء الحزب الشيوعي (إدويسعدن) الذي كان أبوه تاجرا في مواد الوراقة شريك تجاري فيها مع اللمقاوم المعروف حسن العرج، وإذا لم يحصل، فبوسائل طبع بدائية جدا، متعارف عليها لدى جميع التنظيمات اليسارية السرية في العالم.
شاركنا في المفاوضات محليا، ولم نشارك في المعمورة، لأننا كنا الأصغر سنا في القيادة محليا (أكثر من 30 تلميذا في الهيئة القائدة).
23- انتهت المعركة بانتصار نقابي وسياسي وطني كبير. وعدنا إلى مقاعدنا الدراسية في شروط جديدة تماما. كانت أهم مظاهرها:
- على صعيد حزب الاتحاد، أسسنا خلية مركزية من خمسة مناضلين، تجتمع سريا. وفي الصباح الباكر، وكذلك الأمر في بقية الثانويات الأربعة الأخرى.
وبالنسبة للتلاميذ في الداخلي، لا أقل من ثلاثين مناضلا مؤطرا وبنفس الشروط.
وللتلميذات خلية إلى خليتين.
وفي كل قسم بالمؤسسة، عضو واحد على الأقل، وكان بالوسع لذلك أن نضمن توزيع مناشيرنا على جميع الطاولات في الأقسام جميعا، وفي نفس الوقت، وخلال دقائق معدودات. ولا احتمال لانكشاف الموزع؟.
- ومن اجل الحفاظ على البعد الجماهيري للحركة الأصلية، بل وتوسيعه، عمدنا إلى عقد اجتماع ضخم بمقر الاتحاد المغربي للشغل، أسسنا فيه جمعية ثقافية باسم "النهضة اليوسفية" كنت شغلت فيها نائبا للكاتب العام (البوزيري) وكنت أمثلها عضوا في "اتحاد جمعيات مراكش" وقد سهرت على العديد من الأنشطة الإشعاعية (محاضرات، مسرح، رحلات ومسابقات...) في النادي الثقافي في نفس الحي (باب دكالة) التابع لوزارة الشبيبة والرياضة. ولم يمثل في المكتب عن قصد، أي من القادة البارزين للحركة الإضرابية.
- واستفادة من مقررات المعمورة، وتعويضا عن حرمان التلاميذ من الانتساب إلى (أوطم) أسسنا "تعاونية" مدرسة وذلك بدعم مع المدير الجديد لابن يوسف المناضل الوطني محمد الهلالي (انتهى لاحقا في سلك المحاماة). وتم الأمر بانتخاب قاعدي ومباشر، فغن كل قسم يختار تلامذته واحدا منهم أو منهن. ومن خلال اجتماع أولئك جميعا، تم انتخاب المكتب المسير، الذي تحملت فيه مسؤولية رئاسته، وتولى إصدار نشرة أدبية مطبوعة ومسابقات وتنظيم حفلات ورحلات للترفيه... إلخ.
- وفي العام 1964، حضرنا بكثافة متميزة، ندوة تكوين الأطر (الثانية) التي نظمها في المعمورة، خلال عطلة الربيع (أوطم) برئاسة محمد الحلوي. وإدارة ع. اللطيف المنوني، وكان محمد سبيلا من نجومها، فهو كان المؤهل والمرشح (قاعديا) لخلافة الحلوي في رئاسة الاتحاد، لولا القرار التنظيمي من قبل قيادة الحزب بحرمانه من عضويته وأحرى رئاسته (أوطم) وذلك في بلاغ رسمي ولاعتبارات "أمنية" ؟!
كانت الندوة مناسبة جيدة للتكوين العام (اقتصادي)، سياسي، نقابي وثقافي..) وذلك من قبل أساتذة ينتمون إلى حزبي الاتحاد والشيوعي. غالبا، فضلا عن المسرح وزيارات ميدانية لمرافق اقتصادية (دعوى وتنظيم زيارة لمصفاة البترول من قبل امحمد بن سودة الذي كان عاملا على الإقليم) وحضر الأخ الأكبر لعبد الواحد أشغال المؤتمر 9 للاتحاد والذي انعقد في شبع سرية بمقر (أوطم) المغلق والمهدد بالمصادرة (؟ !).
ومن المفارقات التي أثارتني خلال الندوة إياها، أن المنظمين لم يكونوا يتصوروننا تلاميذ، بل طلبة الجامعة (كلية اللغة العربية) بالمدينة، والتي لم يكن قد التحق منها طالب بـ (أوطم) بعد ذلك لأن أغلب طلبتها كانوا موظفين (معلمين غالبا) وسيبادر إلى ذلك المناضل المعروف أحمد الطالبي، (آخر من التحق بالوطن من المنفيين).
24- لا يجوز لهذا الاسترجاع السيري، الشخصي والعام في ذات الوقت، أن يتجاوز الوقوف عند فضاء جامعي آخر، ولكنه كان شعبيا فولكلوريا، في الساحة الأشهر على الصعيد العالمي، أقصد بالطبع ساحة جامع القنلا، حيث تعلم الكثيرون استفادوا من حلقاتها، خاصة على مستوى الموسيقى والمسرح.
مثلث الساحة في تاريخها وتاريخ المدينة ونواحيها، ملتقى لقاء ثقافتين، العالمة والشعبية، والفرجة مشتركة في الحالتين. فعندما يزور المدينة، للتجارة أو للزيارة، ساكنة محيطاتها الفلاحية، لابد يهتبلون الفرصة لزيارة الساحة للتبضع وللترفيه الثقافيين، حيث العروض المختلفة تقدم دون شرط الأداء المسبق، خلاف المسرح الحديث، والأداء لا يتم إلا خلال العرض أذا أعجبك، ومجانا، إذا كنت معدما.
كانت عائشة ريال حلقة متنقلة، أما المستقرات فكثير، أشهرها الميلودرامي "الملك جالوق" (=ملك من قصدير أو ملك القصدير) والكوميديا السوداء "طبيب الحشرات" وثنائي الحمام الذي أتخذ منه الطيب الصديقي تحفة من أجمل تحفه المسرحية، والذي يبرز سيكولوجيا المدن والقبائل... من خلال طبائع الطيور، ولاعب الدراجات (السيرك) والكوميديان: غناء (الميخي) وتمثيلا (باغشيش وفليفلة وتابعه) ومستعرض العضلات (هيركيل) والفقيه الواعظ بل والمطرب (حميد الزاهر) قبل ومن أجل أن يشتهر (؟ !).
غير أن جديد الساحة في شرطنا الزمني الخاص، كان هو الطارئ الأجنبي الجديد بها، ألا وهو جماعة الهيبي المغربية، والتي عمد بعض أفرادها مباشرة، أو من خلال تدريب شباب محترف أو هاوي متطوع، إلى عرض أفكارهم وتحليلاتهم وقضاياهم الشعبوية، ضدا على "حضارة الاستهلاك" الأوروبية الرأسمالية، وذلك ن طريق توضيحات ورسوم بالطباشر على الأرض، وكم كانت المفارقات مضحكة، عندما يتصل الأمر بمتفرجين أقصى أمانيهم أن يصبحوا "مستهلكين" ولذلك فشل هذا التلقيح من الخارج؟ ! غير أنه أوحى لنا في جمعية (النهضة) أن نبادر إلى القيام بشيء من ذلك، حيث عمدنا إلى إنتاج اسكتشات (البوزيري كتابة وع. الرحمن البويحياوي تمثيلا) ونحن جمهورا، وذلك في شبه "حرب عصابات" ثقافية (مسرح الشارع) نعقد حلقاتها وندعو لها بسرعة، ثم نتفرق، قبل أن تنتبه لنا العيون المبثوثة أبدا للسلطة في الساحة، وفي غيرها.
كنا نأتي الساحة مساء إلى مقهى (السوربون) لأكل الاسفنج وتعاطي التدخين (الحلال) بسجائر معدودات، جنبا إلى جنب شباب الحركة الهيبية، والذين كانوا يملأون الساحة حضور، ولاحقا غابة "الديابات" بشاطئ مدينة الصويرة.
[هذا النمط من اقتحام "الثقافة" الساحة مريكة أصلا لـ "الفلكلور" حاوله لاحقا كلا من الطيب الصيدي، في "المقامات" وكذلك جمعية التشكيليين المغاربة الطليعيين بلكاهية- الحليمي- شبعة... وفي الحالتين فشلت التجربة وأخفق الرهان، وذلك بالنظر لعدم التناسب بين البنيتين والوظيفتين والجمهورين...إلخ]
وبمناسبة الحديث عن تلك الحركة، والتي كانت ظاهرة شاملة للزمن الثقافي الغربي حينئذ (في إطارها زار كلينتون الشاب حينها، جامع الفنا ودخن ..). فلقد استقر بالمدينة أستاذا، وإلى حين وفاته مؤخرا، أحد أهم أقطابها المؤسسين، الأستاذ والمفكر برت فلينت والذي يعود إليه الفضل الكبير في توجيه الحركة التشكيلية الطليعية بالمغرب المعاصر (بلكاهية- لمليحي- شبعة...) وذلك خاصة من خلال تنبيهها إلى أشكال التعبير الفلاحي أو القروي المغربي (في السجاد خاصة) وهو كان قليل (بلاومعادي) للكتابة لمصلحة الشفوي، غير أنه كان بالغ التأثير في تكوين مجموعة صغيرة منا ثقافيا، ونفس الأمر خلال زيارتنا السنوية (في الصيف) لمدينة الصويرة، حيث مجموعة أخرى (الدنادني- حليم- معنية ع. الغني بوغالي...) وحيث عقدنا ندوات خاصة ومغلقة كانت تصاغ خلاصاتها باللغة الفرنسية، وتنشر في مجلة "لام ألف"، وأيضا حيث اشتغلنا تحت إمرة عالم الاجتماع الفرنسي المحترم والشهير، لاباساد، حول زنوج مدينة الصويرة ووعيهم لأنفسهم، من خلال ما يحتفظون به ذاكرة، من أساطير وخرافات ومرددات غنائية...
ولا أنسى في هذا الصدد، زيارتنا ولقاءنا المباشر في نفس المدينة (الصويرة) للفرقة المسرحية الأمريكية (الفوضوية) الأشهر على الصعيد العالمي حينئذ "مسرح الحياة" برئاسة مبدعها وشيخها جوليان بيك (-1985) والمعاينة المباشرة لنمط حياتهم "الشيوعي" الخاص المثير والمتميز (؟ !).
25- لقد أضحى التنظيم الخلوي وشبه السري، شاملا لجميع الثانويات بالمدينة، وذلك بإقرار خلايا مركزية وأخرى فرعية عنها، والمسؤولين عنها ما زالوا قيد الحياة. والراجح أن الأمر لم يكن يخص مدينة مراكش وحدها. بل غيرها أيضا، وبالأخص البيضاء والرباط، وتراجع إلى الخلف، قصدا، جميع الوجوه المعهودة والمعروفة سابقا.
وعلى الصعيد الوطني ، برزت قيادة وطنية جديدة عليا، ذات طبيعة تنظيمية أساسا، مادامت القيادة الوطنية في السجن، والأخرى خارجه وإنما في شبه عصيان سياسي. ماعدا في البرلمان (ملتمس الرقابة مثلا) الذي وقف على تدبيره. ع. الرحمن اليوسفي وجريدة "المحور" وأسبوعية "الأهداف" التي كانت مثار اهتمام شبابي استثنائي، ومجلة "أقلام" على الصعيد الثقافي، ومثلها كثير جدا من الجمعيات الثقافية المحلية.
لقد كانت شروط الحذر والتحفز شاملة لطرفي الصراع سياسيا ونقابيا، بالرغم من أن (أوطم) استقدم لها بو عبيد رئيسا مسالما من باريس (والعلو) وذلك بما يحفظ للاتحاد شرعيته، ودون أن يحرج الحكومة، خاصة وقوته الضاربة في الثانوي، كانت قد انتزعت منه، وأضحت مسيسة حزبيا بشكل مباشر.
كان التشبيك وطنيا، يتم كما لو أنه عفوي، وذلك سواء عن طريق المنسقين وطنيا (الشتوكي- بلقاضي- الناصري- الاسفي....) أو الصحفيين أو العلاقات الجمعوية أو الشخصية، غير أنه حين حان الظرف المناسب، فلقد تم اللقاء بشكل منظم في الدار البيضاء وحضرته شخصيا، واتخذ فيه قرار استغلال المنشور الوزاري الشهير، لتفجير انتفاضات في المدن الأربع الرئيسة (البيضاء- مراكش- الرباط وفاس) واستأخرت من جهتي الموعد من 22-23 إلى 25 -26 مارس، وكذلك كان. وعندما عدت إلى مراكش، نظمنا أمورنا، مستغلين غالبا الأطر الجمعوية الشرعية بما في ذلك "التعاونيات" ووقع الاتفاق على أن تكون الانطلاقة من (ابن يوسف) وتلتحق بنا (ابن عباد) و(الحسن الثاني) ونتوجه نحو (محمد 5) رياض العروس، ومنها ومن خلال الدروب والأزقة إلى (محمد 5) باب اغمات، ونهاية المطاف بساحة جامع الفنا.
قام التلاميذ الداخليون بالدور المركزي في الانتفاضة، ومورس خلالها عبث شامل بمخازن المواد الغذائية، ورمي بها خارج السور، الأمر الذي استدعى جماهير واسعة من فقراء المدينة وعاطليها للحضور خلف الأسوار والاستفادة مما يرمى إليهم. ووقع إنزال العلم الوطني الأحمر، واستبدل فوضويا بآخر "أسود".
وحيث فشل التفاوض مع باشا المدينة (الشجعي) وبحضور الرحالي الفاروق- ولم يسمح لنا بالخروج جماعات أو فرادى، تقرر التأديب الشامل، ووقعت مجزرة حقيقية، انتهت بمعطوبين كثيرين، منهم تلاميذ عميان (أحدهم مازال يسعى منذ ذلك الوقت في شارع محمد الخامس). ثم تم تجميع الجميع في وسط الساحة والأيدي فوق الرؤوس، ثم بدأ الانتقاء فردا فرداً. البعض يسلم لعائلته، وآخرون للاعتقال الاحتياطي في مخفر الشرطة المركزي وكنا حوالي 54 تلميذا، قضينا الليلة في الاستنطاق والتعذيب، ثم أسفر الصباح عن انتخاب تسعة منا وتقديمهم إلى الوكيل العام، الذي قضى بمتابعتنا جنائيا وإيداعنا بسجن "بولمهارز" بمراكش، حيث التقينا بتلميذين آخرين محمد صدقي الذي كان قد اعتقل احتياطيا قبل ذلك بيوم، ومحمد البوزيري الذي فضل الوجود في ساحة جامع الفنا في انتظار خروجنا إليها. ولكنهم اعتقلوه وحيدا بها. وعن طريق الخطأ، اعتقل شخصان آخران، لا علاقة لهم بالتلمذة، وإنما هي درجة الارتباك في صفوف الأمن الذي أضحى يحذر من ظله (؟ !).
التقينا في السجن بمناضلين من الحزب "مجموعة شيخ العرب" المعروفة وللمفارقة الدالة. فإن أحد أهم أفرادها، انتهى بعد إطلاق سراحه إلى التحصل على رخصة لبيع الخمور في مدينته بالذات مدينة أسفي، تشويها له، وتشهيرا بقضيته (؟ !)
وجدنا مكتبة عامرة من بقايا زمن الاستعمار، استفدنا منها كثيرا، خاصة والقيم عليها وعلى المدرسة، كان من المقاومين سابقا، ووظف حارسا في السجن، مكافأة له بعد الاستقلال (لم يعد للمكتبة أثر بعد ذلك) وربما حتى اليوم(؟ !)
خضنا حركة إضراب لا محدود عن الطعام، ولا أدري كم رقمها أو ترتيبها، في تاريخ حركات إضراب السجون مغربيا وعربيا (؟ !) غير أن من قام بالدور الرئيس في النضال من أجل إطلاق سراحنا. كان هو أبي الذي تحرك على جميع المستويات، وخاصة منها المدنية الحقوقية (أكثر من 20 محاميا) كان على رأسهم الأستاذ الشورى المناضل والرمز عبد الله الشليح، وقد ضغطوا كثيرا، وتعاطفت معهم ومعنا الهيئة القضائية، بمن في ذلك خاصة الوكيل العام، حتى إذا خطب الملك بالعفو عن معتقلي حزب الاتحاد (الفقيه البصري والآخرين) وبالرغم من أنه لم يقرنه بصفة كونه (شاملا) فقد عمد الوكيل المحترم المناضل وتحت تأثير وضغط ضميره قبل هيئة المحامين المعبأة أصلا، إلى فتح أبواب السجن من قبله مباشرة، وإطلاق سراحنا في إطار العفو. هذا مع أنه لم يكن "عاما" ولم يؤمر به، ولم تأته قائمة بذلك، بل اقتصر على الظهير الملكي، وتصرف بناء على تأويله للمقصودين منه. مع أن ملف متابعتنا لا يعتبرنا "معتقلين سياسيين" بل فقط معتقلي " حق عام" مخربين ومثيري فتنة... وأمثالنا في مدينة الدار البيضاء قضوا أعمارهم في السجن (؟ !) وهو ما كان يحتمل أن يكون مصيرنا أيضا، لولا شهامة ذلك القاضي الوطني والديمقراطي النزيه، والذي عوقب نتيجة مبادرته تلك، مباشرة، وذلك بنقله "تأديبا" له إلى مدينة طنجة. أما نحن، فلقد وقع إنقاذ الموقف، بتكييف متابعتنا جنحيا واعتبر إطلاق سراحنا بمثابة سراح مؤقت، واستمر ملفنا لذلك يؤجل عن عمد وبتواطؤ من قبل الجميع، إلى ان تقادم بمرور خمس سنوات، وأصبحنا بذلك غير متابعين في العام 1970.
عند خروجنا مساء من السجن، وجدنا في انتظارنا وفدا معتبرا من القيادة المحلية للاتحاد المغربي للشغل، وفي المقدمة منها المناضل المعروف عمر الطويل، والذي توجهنا نحو منزله مباشرة للاحتفال بالانتصار، وذلك قبل أن نلتحق بعائلاتنا. ومنذ ذلك، ستصبح عضويتنا في حزب الاتحاد الوطني علنية ولا خفاء فيها أو التباس، كما كان الأمر في السرية سابقا.
26/1- لقد فوجئ الحكم بالانتفاضة، وتأكد لديه استحالة أن تكون عفوية في منطلقها، واستخلص أن الوضع السابق لحزب الاتحاد ومقراته مفتوحة ومناضلوه يتحركون علنا، هو أهون عليه من الشرط الجديد لتنظيمات سرية أو شبه سرية، قادرة في كل حين على مفاجأته وزعزعة استقراره (؟ !).
26/2- لاشك أن تمة علاقة بين ما دعي بـ "المؤامرة" (16 يوليوز 1963) والأحداث المأساوية اللاحقة" في "حرب" الحدود بين الشقيقتين المغرب والجزائر (12 أكتوبر 1963)، فإذا كانت هذه الأخيرة مصطنعة ومدبرة من قبل المخابرات الفرنسية ، وذلك لأحداث جرح لا يندمل بين الشقيقتين، إذ أنه ما كان لها أن تقع. وحزب الاتحاد وقيادته خارج السجون والمنافي (؟ !) الحدثان يفسران بعضهما، ويؤكدان أن البعض ممن تركتهم (أو أقحمتهم) فرنسا ضمن الجيش الملكي المغربي. هم من ورطوا النظام في الحدثين معا. وذلك من أجل إضعافه من جهة، وارتهانه إلى تحكمهم من جهة ثانية، وهو ما تأكد لاحقا في العديد من محاولات الانقلاب على الملك، وربما أيضا على الملكية وهو كثير(؟ !).
26/3- وفي سياق اعتبار البعد الاندماجي لـ "المؤامرة" إياها، فإن تمة تدبير آخر مقصود منها، ألا وهو إضعاف الجناح الراديكالي في الاتحاد الوطني ق.ش.، سواء كان عنيفا (احتمالا) نظير الفقيه البصري، أو مدنيا عقلانيا واشتراكيا مثل المهدي بن بركة، وذلك لمصلحة دعم وإبراز الجناح المعتدل في الحزب (=البرلماني) وعلى رأسه طبعا ع. الرحيم بوعبيدة.
26/4- يجب الانتباه، ومن تم التنبيه في هذا الصدد، إلى أن الحكم زمنئذ، قد تأكد أن خصمه أو حتى عدوه الألد في رموز قيادة حزب الاتحاد، هو المهدي بالذات، وذلك لأن عقلانيته السياسية، وجذرية مواقفه السياسية، ورهانه على تنظيمات المجتمع (تقليدي ومدني)، فضلا عن مركزية التنظيم الحزبي الديمقراطي لديه، ووضوح الاختيارات الإيديولوجية وعلاقاته الخارجية الواسعة... كل ذلك دفع بالأجهزة إياها إلى التركيز عليه، لعزله حزبيا وجماهيريا، ومساومة جميع الأطراف الأخرى "المتحدة" في الحزب كل حسب حاجياته. ومن تم، دفعه دفعا إلى المغادرة في منفى اضطراري، وكانت الثانية نهائية غالبا.
لقد حاصرته مطلقا القيادة البيروقراطية لنقابة الاتحاد المغربي للشغل، مدعومة بالزعيم عبد الله ابراهيم، الذي كان الفقيه البصري حينئذ ينصت إليه أكثر. وأبعد تدريجيا عن (أوطم) التي كان يحتكر الإشراف عليها وعلى مؤتمراتها، وذلك باصطناع نزعة "استقلالية" لدى قيادتها (الحلوي- الحليمي- الفاروقي...) باعتبار أن النقابة ليست هي الحزب (؟ !).
26/5- كان حدث الحرب بين الشقيقتين على "الحدود" (الموروثة عن الاستعمار) مناسبة ظهر فيها إلى أي حد بدأت القيادة الاتحادية تختلف في ما بينها في قضايا استراتيجية، بل ومبدئية. لقد وقف المهدي، متذكرا على الأغلب الموقف اللينيني العظيم في الحرب العظمى الأولى. وهو الموقف الذي سمح للثورة الديمقراطية الأولى (1917) لروسيا بالتحقق. ضد الحرب إياها، واعتبرها مؤامرة أخرى ضدا على الدولة الوطنية الجديدة، وعلى العلاقات الأخوية بين الشعبين والقطرين.. ولم يسانده في الموقف سوى حميد برادة رئيس (أوطم) حينها والذي سيضطر إلى الهروب لذلك خارج الوطن (؟ !)
62/6- لقد كان المهدي يملك وضوحا استراتيجيا عبقريا، وكان وعيه التنظيمي بالغ الدقة والارتباط بالحركة الجماهيرية الشبيبة والعمالة والفلاحة ... وكان ضد أعراض النقابوية والفوضوية والشعبوية والمغامرة والمساومات غير المبدئية أي جميع ما يخدم استمرار وانتعاش الرجعية والاستعمار، ولذلك كان محاربا من قبلهما جميعا. وعندما اضطر للخروج، والاهتمام أكثر بقضايا الاستراتيجية الدولية (فك الاشتباك بين البعثين: العراقي والسوري، وبينهما مع الناصرية والصراع السوفياتي، الصيني...) كل ذلك وغيره، لم يمنعه من استمرار الاهتمام بالداخل الوطني ومتابعة أوضاعه، وذلك خصوصا عبر بعض صحابته في الداخل، والذين رغم قلتهم، فلقد كانوا أكثر دينامية، متفرغين غالبا ومستأثرين بالتنظيمات الحزبية، وذلك بسبب اعتقال القيادة الوطنية.
في تقديري، وليس الأمر محض استنتاج، بل معاينة جزئية لتدبير حدث 23 مارس 1965، الذي شاركت فيه، وتلقيت عنه تعليمات لتنفيذه بمدينة مراكش. وهو الأمر الذي تأكد منه الحكم، وقضى قضائين:
- إطلاق سراح قيادة الحزب المعتقلة، وكان من حسن الصدف استفادتنا نحن أيضا من ذلك العفو (عفوا ومن غير قصد).
- الحكم على المهدي بالنفي من الحياة، وهو الأمر الذي نفذ من قبل جهات متعددة، وبتوزيع أدوار ومهام، وكل منها كان مصلحته ذلك الاختطاف والاغتيال التآمري (؟!).
أما مصير تلك النواة التنظيمية التي قادت في الدار البيضاء وعموم المغرب الحدث العظيم (الانتفاضة) فلقد كان العزلة والتهميش، وحتى الذوبان التدريجي في الحزب الاتحادي الجديد. ومنهم من انتقل نحو الضفة الأخرى، ربما، خاصة وأن العقل السياسي – التنظيمي المدبر (المهدي) كان قد قضى في مؤامرة (29 أكتوبر 1965). شهيدا بباريس، دمه موزع بين مافيات، غيره مجهول، غير أنه يقظ مع ذلك مضاجع الخونة والجبناء.
وعندما تأسست لاحقا منظمة 23 مارس، خاصة إثر الهزيمة العربية في يونيو 1967، فلقد تم ذلك أولا في مدينة مراكش، وكان امتدادا موضوعيا وذاتيا، لتجربتنا النضالية، السياسية والتنظيمية في انتفاضة (23 – 27 مارس 1965) المجيدة بنفس المدينة المناضلة.
د. عبد الصمد بلكبير
تطوان 23 يناير 2020
Share this content: