انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

التاريخ والوثيقة صنوان

التاريخ والوثيقة صنوان، لا يتصور وجود لأحدهما دون الآخر، ومن لا وثيقة له لا تاريخ له، مثل القبائل والأفخاذ... والوثيقة (الكتابة) تشترط إدارة لإنتاجها (خبراً أو أمراً، كما حدد الجاحظ) فضلاً عن طرق تجارية (برية / بحرية / نهرية) ووسائط لوصول كل ذلك، وما تقتضيه من أمن.

يحصل مؤقتا، أن يفقد شعب ما دولته، ولا تتصور دولة بدون شعب، علاقات مكوناته أفقية في الوقت الذي تكون فيه علاقات القبائل والجهات عمودية.

جميع الدول القديمة والوسيطة أسست امبراطوريات أو تضمحل، ذلك لأنها قامت بالأساس على رعاية وتأمين طرق التجارة المحلية وبعيدة الآماد. والتجارة (= تبادل الامتيازات الجغرافية) هي ما أسس الحضارات القديمة والوسيطة وليس الفلاحة، وأحرى الرعي أو ما دونه في الغابة (جني وقنص): رحلتا الشتاء والصيف / طريق الحرير / طرق الحج والأبيض المتوسط... كانت قنواة الحياة للسياسة (الدولة) وللتجارة... سيان.

النظام الامبراطوري، ليس هو النظام الامبريالي، إذ لا يتصور استعمار بدون رأسمالية، وهذه بدون استغلال "فائض قيمة" لم يكن لها وجود قبل العصر الحديث، وعلاقاته البورجوازية.

المغرب (الكبير) لم يكن بحاجة إلى نظام (= إدارة دولة)، ولذلك فلقد أتته الدولة من خارجه أولا، وبقصد التجارة، معه من خلال سواحله، واكتفت قبائله بغاباته الغنية والفسيحة جداً، وما تتيحه من رعي وجني وقنص... ليس تمة احتكاك يحتاج إلى تقنيين للعلاقات وإلى شرطة وقضاء... بل لقد كان المغرب فوق ذلك موئل هجرات متوالية من مشرقه لأسباب طبيعية (جفاف، جائحة...) أو حروب أو انقسامات قبلية أو احتماء لعقيدة توحيدية من الافتتان (= يهود ونصارى)... الخ وفي قطره الأقصى، فرض حاجز المحيط، استقرار واندماج جميع أنواع ومراحل تلك الهجرات، فالتنوع المغربي لذلك ليس طبيعيا وحسب بل وبشريا (= ثقافيا) كذلك.

وبينما اقتصر حضور شمال المتوسط في المغرب على المقايضة، وكان الاعتقاد الوثني مشتركاً بينهما، كان حضور المشارقة (فراعنة، عاشوريين، فينيقيين، يهوداً... ثم مسلمين) ثقافياً – عقدياً... أيضاً، جاءوا لتحريرهم كإخوان لهم من الفوضى القبلية ومن الوثنية وبالتالي من التبعية.

بالمقابل، فلقد قام المغاربة بتبليغ نفس رسالة توحيد الأرض بالسماء، وتوحيد القبائل والجهات، ونشر السلام وتأمين طرق التجارة والحج، خارج مغربهم سواء لجنوب الألب، أو الصحراء وشرق افريقيا بما في ذلك السودان نفسه وليبيا. مع أن الأولى للقيام بذلك كان القطر المصري (؟!) (الجغرافيات السياسية لا تتطابق دائما مع الجغرافية الطبيعية ؟!)

الاستعمار لا يستهدف الأرض والسوق وحسب، بل وحدة الشعب أيضاً، ومن تم تغذية التناقضات الثانوية (القبلية...) وإنتاج "علوم" مغرضة وسيلة لتعميقها وتفجيرها. الاستشراق الأوربي السابق انهزم بفضل المقاومة، غير أن الاستعمار الأمريكي الجديد يعيد انتاج استشراقه الذي يقزمنا إلى محض حقل أنثروبولوجي لدراسة العقليات والعادات والتقاليد الجهوية والقبلية واللهجات والفلكلوريات... 

لقد أسس المغاربة نوعاً من (الديمو-فوضوية) تتناوب فيها الإدارة المركزية والإدارات الجهوية (الزوايا) والقبلية، على الرعاية والتسيير، ويتحد الجميع صفاً واحداً عندما يتهدد السيادة خطر خارجي.

وأيضاً، فإن "الحنين إلى الأصول" (إلياد) هو ما يفسر علاقات المغرب بمشرقه، وهو ما يرمز إليه موسم الحج السنوي نحو القِبلتين، قبل الإسلام وبعده، فلا مغرب موحد بدون مشرقه الموحد، والعكس صحيح.

من يقرأ "الاستقصا" يتأكد أننا شعب لا قبائل وجهات... وأننا كنا، ومنذ ألف عام على الأقل، دولة حقيقية، وثقافة موحدة... لا فوضى ولا أحرى فلكلور (؟!) "ولا نامت أعين العملاء"    

د. عبد الصمد بلكبير

Share this content:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: