شهيد الوطن والديمقراطية
د. ع. الصمد بلكبير
تمظهرت الحداثة (التحديث) بالنسبةللمغاربة، إدارة ومجتمعات، في صيغة استعمار وعنف وعنصرية. تطلبت منهم مقاومات غير متكافئة وذلك بالذات لأنها توسلت بنفس وسائله (= الاستعمار).
- الأولى بادرت إليها الإدارة (المخزن). عندما أضحى التهديد حالا بالجوار الجزائري أولا، ثم الشمالي لاحقا، في الحالتين، انتهت المعركتان العسكريتان (إيسلي 1844) ثم (تطوان 1860) بهزيمة صادمة ومنكرة استسلمت الدولة تدريجيا، خاصة بخذلان المجتمع لشروطها السيادية. (تجار مدن وتجار فتن وشيوخ طرق وقبائل...) فاحتمى المخزن بالاستعمار (1912) اضطرارا، بعد أن سبقه إلى ذلك بعض نخب المجتمع (؟!)
- 2- تصدى المجتمع (التقليدي) للمقاومة (1912-1934) انطلاقا من الجنوب (ماء العينين) مرورا بالأطلس المتوسط (حمو الزياني...)، ثم بالريف واجبالة (1921-1925) وانتهاء بالأطلس الصغير (صغرو 1934) وخلال ذلك انتفضت بعض المدن ( فاس، سلا، مراكش والبيضاء....) غير أنها انتهت جميعا إلى هزائم متلاحقة. ذلك لأنها اقتصرت على السلاح، ولم يكن بينها تنسيق ولا تراكم، ولا علاقة بالمدن، وكانت ردود أفعال فلاحية - رعوية (قبلية – جهوية – دينية) لا فعلا استراتيجيا متعدد الوسائط، وبقيادة سياسية ذات طبيعة وشروط وطنية.
- وبالرغم منه، فلقد ساهم الاستعمار في تأسيس مجتمع مدني، أنتج لقيادته نخبة مثقفة، أسست لمقاومتها تنظيمات ثقافية وحزبية ونقابية وتربوية وإعلاما وأدبا... حقق نهضة في المدن وتوحيدا لها بالبوادي، ما دفع بالإدارة (المخزن) إلى العودة إلى شعبها للاحتماء به بديلا عن الاستعمار فكانت عريضة (1944) التاريخية. والتي أطلقت الطاقات جميعها، إلى حين الحصول على الاستقلال الأول (1956).
لقد كان رأس حربة تلك الملحمة الجبارة، هو المقاومة المسلحة في المدن، ثم لاحقا جيش التحرير في القرى والبوادي في الداخل الوطني والمغاربي استراتيجيا.
* * *
المناضل الرمز والشهيد محمد البصري هو بطل وقائد هذه المرحلة المسلحة ولواحقها بدون منازع وذلك ممن بقي حيا بعد (1956). ميزته ليست وحسب أنه كان واحدا من بين أهم المؤسسين للصيغتين وللمرحلتين. وعلى الصعيد المغاربي وليس القطري فقط. بل:
- لقد تدرج في الكفاح، انطلاقا من الواجهة النقابية وهو بعد تلميذ في <<ابن يوسف>> بمراكش، إلى الواجهة السياسية في حزب الاستقلال ثم إلى المبادرة للمقاومة المسلحة رفقة الشهداء العظام (الزرقطوني – بنعبد الله– الحنصالي – الروداني – الفطواكي ...) ثم مرحلة تشكيل جيش للتحرير (وطني) تآمر عليه الجميع، بالضبط لأنه كان مغاربي العقيدة والاستراتيجية السياسية أيضا.
- وعيه المبكر، بأخطار حمل البندقية بدون خلفية نظرية، سياسية وإيديولوجية واعية توجهها. وإلا سقطت في خدمة سياسة أخرى مختلفة وحتى مناقضة لأهدافها ونواياها الأصلية. ومن تم ترتد على صاحبها (أصحابها) هي نفسها بانتحار سياسي فردي أو جماعي (احتراب أهلي).
- ويرتبط بذلك، وينتج عنه ما هو أهم، ألا وهو الإيمان بالأهمية الحاسمة للعمل الجماعي المنظم وممارسته والانضباط <<العسكري>> لمقتضياته والتزاماته. ولقد تمثل ذلك أكثر ما تمثل، في العمل النقابي والمساهمة في تأسيس النقابة العتيدة والاستثنائية في شروطها التأسيسية الاتحاد المغربي للشغل. وذلك بعد أن جرب وأسهم في تأسيس العمل النقابي التلاميذي والطلابي.
غير أن الانجاز الأهم والأخطر على هذا الصعيد وليس فحسب على الصعيد الوطني الخاص أو المغاربي، بل على صعيد الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة في العالم، هو مساهمته في تأسيس وبناء (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) والذي انبثق بوعي كتلوي وطني عابر للحدود الطبقية والجهوية... للمجتمع الوطني. وهو الحدث المبتكر والبعيد النظر في حينه وحتى اليوم (= الكتلة التاريخية).
لقد كان الاتحاد مبادرة عبقرية، حققت نتائج جبارة في الوعيين السياسي والتنظيمي العربي وغيره من أمثاله في المستعمرات. و وفرت للشعب المغربي شروطا استثنائية للمقاومة ونضالات اجتماعية – سياسية وثقافية ضدا على الاستعمار الجديد، وعلى أدواته الداخلية الفاسدة والمفسدة... لم تتوقف نسبيا قط. إلا مع دستور 1996 وحكومة اليوسفي الانقادية (1998).
ولا يزال ذات الإرث وذات الترات العظيم لرموزه المؤسسة والمفكرة ولمسيرته الملحمية. في حاجة إلى من يحييه ويستفيد من عبره للحاضر وللمستقبل الوطني والمغاربي والعربي الديمقراطي.
- رفضه الدائم والمستمر، وحتى آخر حياته. لأي إطار في الكفاح ضد الاستبداد أو ضد الاستعمار. أقل من الوطن والوطنية، بل إنه حارب جميع النزوعات الشعبوية والرجعية ذات التوجهات القبلية أو الجهوية...
- حسه العروبي المبكر، مقارنة إلى أغلب أقرانه ورفاقه في الحزب العتيد، وخاصة من ذلك قضية فلسطين، ومحوريتها في الصراع التحريري والاستقلالي والتوحيدي، ضدا على الامبريالية وصنيعتها في المنطقة إسرائيل وإيديولوجيتها التوسعية والعنصرية الصهيونية. ومن تم الوعي السياسي الاستراتيجي بل والمصيري لأهمية الوحدة المغاربية والاتحاد العربي.
- ولعل أكثر ما ميز الزعيم والبطل الفقيد، هو مناقبيته النادرة المثيل وبالرغم من أن امثاله في جيله من الرواد لم يكونوا قلة. بل لقد كانت هذه فضيلة اغلبيتهم الساحقة، إلا أن الفقيد بزهم جميعا على هذا الصعيد، وذلك على الأقل من خلال الخلال التالية:
- الممارسة العملية اليومية، وعلى جميع الصعد والميادين. فهو لم يكن يعرف معنى للتوقف عن الحركة والاتصال والتنظيم والتعبئة والتحريض... لا يكل ولا يمل، وهو الأمر الذي سمح له بفضيلة الارتباط بالشعب: بجميع فئاته وجهاته وطبقاته، والتعلم منه خلال تعليمه له، والتعرض من تم لملاحظاته ونقذاته واقتراحاته... سواء تم ذلك في ذلك الوطن أو في الخارج بعد المنفى الاضطراري مع مغاربة المهجر. ومع عموم المناضلين المغاربيين خاصة والعرب عامة.
- ب- جرأته وشجاعته وصموده... التي يضرب بها المثل، فلم يجبن مطلقا، ولم يساوم على مبادئ ولم يسيء الظن بالمناضلين أو يشكك في الموقف الشعبي... وذلك مهما ضعف أو تعب أو هادن تاكتيكيا...
- ت- المبدئية في النظر وفي العمل. ولقد كان يحتقر بقوة، جميع مظاهر السلوك الانتهازية والوصولية والجبانة والمنافقة...
- ث- اما أخلاق التواضع وسلوك التقشف في المسكن والمأكل والملبس... فلا أتصور أحدا من اترابه يمكنه أن ينافسه على هذا الصعيد، وذلك عدا قلة معروفة، ومنها خاصة استاذه المباشر الزعيم ع. الله إبراهيم. ورفيقه الأثير محمد الحبيب الفرقاني.
أما نظافة اليد والضمير، والاستقامة والتعفف عن مكاسب (= ريع) الاستقلال. فلقد فاق فيها غيره من رفاقه. وعندما تسلم امتيازات مادية، وزعها ووظفها لخدمة ذات الأهداف التحريرية والديمقراطية التي انطلق مناضلا من أجلها (تأسيس جريدة <<التحرير>> / دار النشر المغربية /البنك الشعبي...).
- ولأنه كان من خريجي <<ابن يوسف>> فلقد تشبت بدين الشعب والأمة، وقيمه الموروثة في المعاملات والمروءة والتقوى و<<الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر>>... مع فضيلة الاجتهاد والتجديد والتحديث التي أخذها أولا عن متنوري الإسلام في المدينة (المختار السوسي مثلا) كما عن شيخ الإسلام القويم، الرائد والمناضل محمد بن العربي العلوي.
- ولأنه وعى منذ البدايات الأولى لنضاله أهمية فئات المثقفين وعموم الشبيبة. فلقد بذل المستحيل وحتى النفيس، من أجل استجلابهم للنضال عموما، أو للصف التقدمي فيه خاصة. معتمدا في ذلك جميع الوسائل بما فيها <<تأليف قلوب>> الكثيرين ممن أضحوا لاحقا رموزا ثقافية وطنية، وأبرزهم مطلقا كان الأستاذ والمناضل محمد عابد الجابري.
- غير أن مأثرته الكبرى وإنجازه الأعظم، تمثل خاصة في إنقاذه المقاومة ورموز المقاومين. وتنظيمهم وتأثيرهم من أخطار الفتنة والاندثار وحتى الفتنة أو الردة... (؟!)
فسياسيا وتاريخيا، يمكن التأكد اليوم أكثر، بأن الاستقلال الأول للمغرب في العام 1956 كان مؤامرة متعددة المرامي متنوعة المشاركين. ولعل من أهم عناصر بعدها الـتآمري هو مفاجأتها. حيث ارتبك وعي الجميع وفهمه وردود فعله. عدا المكونات السياسية الرجعية التي دبرتها طبعا (المعمرون، التجار (اليهود منهم خاصة) وولي العهد...).
لقد انقلب ميزان القوى السياسي والعسكري رأسا وبغتة وخفية، وذلك خاصة بمبادرة الرأسمالية الفرنسية إلى إعادة إنتاج تحالفها مع القصر. والتي عقدت أصلا في العام (1912) بفاس... وذلك في قسمة استعمارية مجحفة بالنسبة للمخزن حينئذ (ازدواجية السلطة في وثيقة الحماية، واستئثار استعماري للحكم في الممارسة الواقعية). مقتصرا (الاستعمار) حينها على إنقاذه (المخزن) من الأخطار المحدقة به من قبل المجتمع (التقليدي منه والمدني، والتي كان هو نفسه من أثارها وشجعها ضغطا منه عليه). ولكن دون "امتيازات" استبداده السابق والموروث، تاركا له وفي حدود، بعض قضايا الحقل الديني و<<الطابع الشريف>> يوقع به الظهائر التي يضعها المستعمر نفسه... (؟!)
تغير ميزان القوى اللاحق أيضا، على الصعيد الدولي: انتصار الحلفاء (أمريكا خاصة) وتأسيس الأمم المتحدة والجامعة العربية. وانطلاق تحرر وخروج العالم من النمط القديم للاستعمار (بالدعم السوفياتي والإسلامي) إلى النمط الجديد (الأمريكي) ثم خاصة (الأوربي). ونهضة الحركة الوطنية مغاربيا، وارتقائها نحو المقاومة في المدن والكفاح المسلح في القرى والبوادي... كل ذلك وغيره من أشباهه. هو ما نبه الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى ضرورة الالتحاق والتكيف مع النمط الجديد للاستعمار، وهو ما يعني عمليا التنازل عن بعض امتازاتها للمخزن (القصر) من جهة، وللرأسمالية العقارية والتجارية المغربية التي تخلقت مغربيا، خاصة في شروط الحرب الأوربية الثانية وحاجياتها الصناعية والتجارية من مستعمراتها (بورجوازية الحرب).
هكذا إذن سيختل الميزان فجأة لمصلحة تحالف جديد بين الرأسمالين الفرنسي والمغربي (فضلا عن المخزن). وستخسر الحركة الوطنية تدريجيا وفي المقدمة منها طليعتها المتمثلة في المقاومة المسلحة وجيش التحرير، والحزب الوطني القائد (حزب الاستقلال).
في الجبال والقرى والبوادي. كان المستهدف، على المدى القريب، بحدث <<اكس ليبان>> وما أعقبه، هو:
- فصل الارتباط بين الحركة الوطنية والقصر الملكي. وحلفاؤه في المجتمع التقليدي.
- فصل الارتباط بين الحزب القائد (حزب الاستقلال) والمقاومة وجيش التحرير.
- إجهاض استكمال الانتقال من مقاومة المدن إلى جيش التحرير الوطني في محيطات المدن... (نمط جبهة التحرير في الجزائر).
- تخذيل وعزل الجزائر وثورتها، ومحاصرتها شرقا (تونس) وغربا (المغرب).
أما على المدى البعيد فلقد كان الهدف وما يزال هو: إجهاض حلم واستراتيجية الاستقلال الوطني واسترجاع السيادة، مربوطا إلى الوحدة المغاربية، ومن تم إلى الديمقراطية الشعبية، تماما كما حصل سابقا في تجربة الولايات المتحدة مثلا. حيث أنجزت الأهداف الثلاثة معا وفي نفس الوقت بقيادة الزعيم ثم الرئيس جورج واشنطن (الاستقلال + الوحدة + الديمقراطية). خلاف ما حصل عندنا، وما يزال مستمرا (؟!)
لم تكن الحركة الوطنية عموما، والمقاومة وجيش التحرير منها خصوصا، مؤهلة ولا محصنة بوعي استباقي للمؤامرة، والقدرة على امتصاصها ومقاومتها والرد عليها. على العكس، لقد كانت ما تزال بعد في طور النشأة والتأسيس، فقيرة نظريا وسياسيا، وتحت تأثير سلبي، وحتى سيطرة البورجوازية الوسطى والصغيرة في قيادتها. ولذلك فلقد نجح المخطط في المرور، بل وسوق سياسيا وإعلاميا وكأنه انتصار.
لقد ربط الاستقلال برجوع الملك، وكأن الرجوع إياه، يعني وحده الاستقلال والوحدة (؟!) وأعلنت الفرحة الكبرى بعودته إلى عرشه، واقيمت الحفلات ورفعت الرايات واشيعت <<الأطماع>> الكاذبة حول مداخيل الفوسفاط وتوزيعها شعبيا (عشرة دراهم يجدها كل مواطن تحت مخدته كل صباح (؟!) والحال أن ما أضحى يوزع حقا، هو الامتيازات بين كبار القوم في الاقتصاد والتجارة... كما في الإدارة، ولم تستيقظ النخبة الواعية والمناضلة، ومعها جماهيرها الشعبية (تأسيس ا.و.ق.ش) إلا وقد قضي الأمر في الإدارة (خاصة الجيش والامن والدرك) وفي الاقتصاد وفي المجتمع والإعلام... والقضاء... الخ.
غير أن الأخطر، تمثل خاصة في ما تعرضت له المقاومة وجيش التحرير من تفكك واضطراب، بل وفتنة واحتراب. سواء بفعل وعيها الملغوم والمضبب، أو خاصة بفعل المخططات التي استهدفت اختراقها وشراء البعض من عناصرها القيادية، وتفجير خلافاتها الثانوية وحتى الشخصية، ثم توجيهها نحو الانتحار الذاتي عن طريق تضخيم أخطائها الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية..
سردية ذلك معروفة عموما، وذلك طبعا دون تفاصيلها المستورة حتى اليوم. غير أن عناوينها الكبرى انفجرت متوالية متعاقبة في تافيلالت مع عدي أوبيهي، وفي الشمال مرتين (المسعدي ثم أمزيان) وفي شيشاوة مع القايد الشافعي، وبني ملال مع بنحمو ثم اغتيال الشهيد ع. العزيز بن ادريس في تاحناوت والضابط الغول على يد لحسن السكليس، وجرائم أحمد الطويل، وما عرف بتطوان بدار ابريشة، والتخطيط لاغتيال ولي العهد (الحسن) واعتقال اليوسفي والبصري بادعاء تورطهما فيه (؟! )... وغير ذلك كثير، مما اشتهر أو أخفي، غير أن محطته النهائية، كانت حركة المناضل شيخ العرب <<الارهابية>>. ومقتله المأساوي في الدار البيضاء (1965).
لقد سقطت المقاومة وجيش التحرير عموما بعد 56 في أخطاء الاستراتيجيات الشخصية والنزاعات القبلية والجهوية وفي الفساد والإفساد وفي الفوضى والشعبوية... بل وفي الإرهاب والإرهابية أحيانا. وانتهت بين مكوناتها وعناصرها، إلى الفتنة والاختطافات والتعذيب والابتزاز والاغتيالات المتبادلة... وفي المحصلة، فلقد انتهى جزء عظيم منها إلى التفكك والانحلال والانتحار البطيء والتدريجي وبدون بطولة أو مجد، وهذه وغيرها هي منتوج افتقاد أي حركة سياسية، إلى وعي نظري استراتيجي وتاريخي لمعاركها وتحالفاتها وتحديد أخصامها وأعدائها... في كل حين وكل مرحلة (؟!)
إن للتاريخ أحكاما قاسية ونهائية، عندما يتصل الأمر بقديم بال، لم يعمد إلى تجديد مكوناته، والتلاؤم مع متغيراته. وذلك لا عن طريق صراعه المباشر مع بديلة. بل أيضا، وفي كثير من الحالات في التاريخ، إلى نوع من الانتحار الذاتي، إلى التفكك والتلاغي أو التنافي الذاتي، وافتقاد المنعة، ومن تم سهولة الاختراق الخارجي للقضاء عليه من داخله، بحيث يبدو وكأنه موت ذاتي تلقائي. لا اغتيالا خارجيا بالأحرى (؟!)
كان على المقاومة وجيش التحرير، وقد استنفذا برنامجهما الأصلي، وأضحيا أمام تحديات جديدة، وميزان قوى مختلف ومختل ضدا عليهما. ان يجتهدا في ابتكار بديل سياسي وعسكري يستجيب لشروط المرحلة الطارئة وتعقيداتها والتباساتها المستجدة على صعيد التحالفات وجبهات الصراع... وأولوياته...
وإذا نحن غضضنا النظر، عن فئة الذين ارتبكوا والتبست عليهم المواقف، وانحازوا لذلك إلى خيار <<شد الأرض>> والابتعاد مطلقا عن العمل العام. والانعزال لذلك. والاقتصار على الاهتمام بالشأن الخاص والعائلي، فإننا سنلاحظ مراوحة البقية بين المواقف و <<الاجتهادات>> التالية:
- تمة فئات وأشخاص بورجوازيين منذ انطلاق رهانهم المقاوم. لقد كان تناقضهم منذ المنطلق، مع الصيغة القديمة والاحتكارية للاستعمار. لا مع صيغته الجديدة التي أسستها أوفاق اكس ليبان وتوافقاتها. هؤلاء عموما استفادوا نسبيا من ريع <<الاستقلال>> واندمجوا مع الموقف الرسمي لإدارة الدولة (القصر) وكذلك قيادة الأحزاب التقليدية. خاصة منها بالطبع الحزب الوطني الأكبر والأهم <<حزب الاستقلال>>.
- ومن نفس القبيل تقريبا، كان سلوك العديد من جنود جيش التحرير الذين اعتبروا أنهم استكملوا واجبهم النضالي الوطني بعودة الملك إلى عرشه، وتم إقناعهم لذلك، بضرورة تسليم السلاح، والعودة إلى مهنهم السابقة، أو الالتحاق بالجيش الملكي الوليد. وهؤلاء هم من قدمهم القائد (=المنسق في الحقيقة) ع.الكريم الخطيب إلى الملك. في القصر الملكي العامر بالرباط، وذلك في مشهد شهير، إشهارا للموقف المطلوب من قبل المخزن، كما بالأحرى من قبل الاستعمار الجديد (الفرنسي).
أما الفقيه البصري واخوانه من يسار حزب الاستقلال والمقاومة، واولئك الأشد إخلاصا ونضالية من جنود جيش التحرير (مجموعة بني ملال خاصة) فلقد كان موقفهم جميعا متميزا وغاية في الذكاء السياسي، وذلك في شروطه التاريخية الخاصة.
لقد انتبهوا أكثر، إلى شروط التحول والاختلال الطارئ على موازين القوى بين الوطنية والاستعمار، والوضع الجديد والجيد، لمصالح الحلفاء السابقين (القصر والبرجوازية الوطنية) وأحسوا بمظاهر <<المؤامرة>>، سواء على <<جبهة التحرير الجزائرية>> أو <<الصحراء الغربية والجنوبية>> أو خاصة <<وحدة المغرب العربي>>... هؤلاء هم من سيؤسس بجدارة لليسار المغربي العظيم. وتمكنوا لذلك أن يوقعوا على <<البيانو>> الطارئ بعشرة أصابع، كان أهمها في التاريخ المعاصر لنضال الشعب المغربي من أجل استكمال تحرره واستقلاله وسيادته، التالي:
- المبادرة إلى توسيع حقل النضال الاجتماعي – السياسي والثقافي نحو ترسيخ وتوسيع مشاركة هيئات ومؤسسات المجتمع المدني، وأخص ذلك: نقابة الاتحاد المغربي للشغل / الاتحاد الوطني لطلبة المغرب/ الجمعية المغربية لتربية الشبيبة / وأختها للطفولة / وأخرى لمحاربة الأمية (مع جريدتها المختصة)، وتأسيس الصحافة المعارضة التقدمية (الطليعة، ثم خاصة جريدة التحرير: البصري مديرا، اليوسفي رئيسا للتحرير).... والأهم والأخطر في دلالاته ورمزيته ونتائجه، العمل التنموي والاجتماعي الثقافي... في شكل أشغال عامة: طريق الوحدة خاصة. والعديد الآخر مثل مبادرات التشجير ومحو الأميات... وبناء المدارس ونهضة المسرح الاجتماعي والغناء... الخ
- الصراع السياسي، والتشهير الإعلامي، ضدا على المصالحة والتطبيع مع رموز <<الخيانة>>، واستمرار رموز العمالة للاستعمار، سواء على مستوى الاقتصاد والمجتمع، أو الإعلام والإدارة، وخاصة منها الحكومية نفسها... وذلك في نوع من اقتسامها مع الحزب الذي ناضل من أجل الاستقلال (= حزب الاستقلال). تم همش بعده. (وهي حالة خاصة وفريدة مقارنة إلى جميع حالات الاستقلال الوطني للمستعمرات). ومن تم المواجهة اليومية تقريبا لعناصر ومظاهر <<التورات المضادة>> لتجربة قيادة حزب الاستقلال للتجربة الوليد.
لقد تمكن أولئك القادة اليساريين الشباب عموما، من الانتصار في جميع تلك المعارك. وفي الذروة من ذلك تمكنهم من تقلد مسؤولية الحكومة (برئاسة الزعيمين ع. الله ابراهيم و ع. الرحيم بوعبيد) ومنجزاتها الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية العديدة ، وخاصة منها على صعيد الإصلاح الزراعي والتصنيع والاستقلال المالي والإصلاح الإداري... ثم وضع <<المخطط الخماسي>> الشامل للبناء والنموذجي في حينه على صعيد شعوب ودول العالم 3.
- وضع لبنات التدبير والتشريع الديمقراطي للدولة. أهم ذلك: القانون الأساسي (= دستور) / قانون الحريات العامة (1958) / قانون الشغل والضمان الاجتماعي / المبادئ الأربعة للتعليم / إعلام رسمي وطني (المهدي المنجرة) ثم خاصة تجربة الانتقال الأولى، وذلك عن طريق تأسيس <<المجلس الوطني>> برئاسة الزعيم الأهم في المرحلة الشهيد المهدي بنبركة.
- دعم كفاح الشعب الجزائري خاصة. وعموم الشعوب الافريقية، وذلك بجميع أشكال المساندة: السياسية، الإعلامية وبالتسليح. موظفين لذلك إمكانيات الإدارة ومنظمات المجتمع (خاصة منه المدني).
- غير أن أهم ذلك وذروته مطلقا تمثل في الإنجازيين التاريخيين التاليين:
5-1- المبادرة إلى توجيه جنود جيش التحرير وبقايا المقاومة نحو الجنوب المغربي. وذلك بهدف تحقيق (أو استكمال تحقيق) الأهداف الاستراتيجية التالية:
- استكمال تحرير التراب الوطني سواء في الصحراء الغربية خاصة، أو الجنوبية (موريطانيا) أو الشرقية التي ألحقتها فرنسا بما كانت تعتبره <<الجزائر الفرنسية>>.
- المحافظة على المكتسب الشعبي الذي أريد إجهاضه بالاستقلال، ألا وهو استمرار امتلاك الشعب لحقه في التنظيم المسلح لنضاله من أجل استكمال الاستقلال والوحدة والسيادة والديمقراطية...
- الاسناد المادي الفعلي والميداني المسلح، لمعركة الشعب الجزائري المستمرة من أجل الاستقلال الوطني والوحدة المغاربية. وذلك بعدما لحقه من خذلان الأشقاء في كل من تونس والمغرب الأقصى.
5-2- ولاشك أن الذروة من كل ذلك، هو مساهمته الوازنة والحاسمة في تأسيس نموذج راق ومتفتح جدا من صيغة (الكتلة التاريخية) والتي تمثلت في حزب <<الاتحاد الوطني للقوات الشعبية>> حيث تجمعت فيه أهم طبقات الشعب وفئاته الوطنية والديمقراطية – القومية. وبمختلف ميولاتها الايديولوجية والثقافية، ومن جميع جهات وأقاليم المغرب... وذلك من أجل تعديل ميزان القوى السياسي ضدا على النمط الجديد للاستعمار وحلفائه أو أتباعه مغربيا. واستكمال تحرير التراب الوطني والمغاربي ووحدته، وفرض المطالب الشعبية السياسية منها (مجلس تأسيسي لوضع الدستور) والاجتماعية (مطالب العمال والفلاحين الفقراء والطلبة والتلاميذ والحرفيين...) والتربوية والثقافية...
لقد تمثلت القاعدة الاجتماعية للحزب الجديد (1959) أولا، في الطبقة العاملة، متمثلة خاصة في نقابتها العتيدة عهدئد (الاتحاد المغربي للشغل) والتجار الصغار والمتوسطين (في الدار البيضاء والمنحدرين من جهة الجنوب خاصة) والحرفيين والصناع التقليديين والطلبة والتلاميذ (التعليم الأصلي) وبعض طلائع الحركة النسائية وعموم فئة المثقفين والأدباء والفنانين والصحافيين... زمنئذ.
لقد كان قادة هذه الكتلة، هم أنفسهم عموما قادة الحركة الوطنية ضدا على الاستعمار السابق. سواء من يسار حزب الاستقلال، أو حزب الشورى أو النقابية العمالية، أو المقاومة وجيش التحرير، والعديد من علماء ابن يوسف والقرويين وأحيانا أيضا من بعض شيوخ القبائل والزوايا أيضا...
كان اللسان المركزي لهذه الوحدة الوطنية والديمقراطية الشاملة، هو جريدة <<التحرير>> التي كان يديرها الفقيد الشهيد (محمد البصري). وكان الإقبال على اقتنائها وقراءتها منقطع النظير، بحيث تباع فجرا، ويعتبر اقتناؤها عهدئد، تهمة في حد ذاته من قبل أجهزة المخابرات التي كانت عموما استمرارا للسابقة عليها في المنطقتين المحميتين فرنسيا وإسبانيا. ذلك لأنه لم يتابع أي رجل أمن مغربي أو هدم مخفر شرطة (؟) في عهد <<الاستقلال>> المفترى عليه؟
أما الجمعيات المدنية الثقافية والاجتماعية والتربوية... فلقد شهدت تأسيسا وانتشارا واسعا وفاعلا في ربوع الوطن. وكذلك المحاضرات والندوات والتداريب والعروض المسرحية وأشغال البناء والتشجير التطوعية وبداية تأسيسية لثقافة عربية ذات خصوصية مغربية، وذلك خاصة في مدرجات الجامعة في المغرب وخارجه (فرنسا - دمشق...)، مع بعض المجلات. وأكثرها كان في حينه باللغة الفرنسية، غير أن الحزب والنقابات، تمكنت من القيام بأدوار محمودة في اتجاه تعريب ألسنة وأقلام الأكثرية الساحقة من المثقفين والأدباء، وكان للفقيه البصري الدور الأبرز في ذلك، (فضلا عن الشهيد المهدي بنبركة وعلال الفاسي طبعا) مقارنة إلى غيرهما من المعتقلين في اللسان الفرنسي أو حتى الفرنكونيين مع أنهم <<تقدميين>> (؟!)
لقد كان <<الاتحاد>> حزبا جماهيريا وطليعيا في نفس الوقت، اشتغل على جميع المستويات، وبنضالية تكاد تكون يومية. حول قضايا الوطن الموروث منها والمستجد، ولم يهمل دعم ومساندة جميع قضايا الشعوب المستعمرة أو المضطهدة وبالأخص منها في الجزائر وفلسطين وعموم أفريقيا المستعمرة ما تزال حينئذ.
ان اللفظ الذي يمكن له أن يختصر بعض ذلك التاريخ الماجد، هو مصطلح <<الملحمة>> وذلك بكل ما يوحى به من يومية المعارك المتلاحقة، وكثرة الجبهات، وتساقط الجرحى والشهداء والمعتقلين والمنفيين والمفقرين في تجارتهم ومحترفاتهم وفلاحتهم... وذروة ذلك، حدثت في ما سمي حينئذ بمؤامرة 16 يوليوز 1963، حيث اعتقلت القيادة الاتحادية جميعها تقريبا، وذلك بمناسبة اجتماع هيئتها الإدارية بالدار البيضاء، وكان في المقدمة منها الفقيد البصري. والذي اعتبر الرأس المدبر "للتآمر على النظام"، وحكم عليه لذلك بالإعدام مع رفاق له آخرين في نفس المحاكمة، أما عدد الذين افتتنوا باعتقالات احتياطية، أو في مخافر ومعتقلات سرية وعذبوا واستشهد بعضهم، ولم يحاكموا قط، فلقد كانوا بالآلاف في جميع مدن وجهات المغرب. لقد كانت <<مؤامرة>>بحق. ولكن لا على نظام الحكم، بل على <<الاتحاد الوطني للقوات الشعبية>> وعلى عموم الشعب المغربي وقضاياه ومستقبله بالأحرى. وكانت حدثا فارقا بين مرحلتين رئيستين في تاريخ المغرب المعاصر، وكان قائد المجزرة، هو نفسه الذي قاد الانقلاب لاحقا على الملكية (1972) الجنرال محمد أفقير. ما يؤشر إلى حقيقة <<مؤامرة>> 1963 الغامضة ماتزال...
لم يستجب <<الاتحاد>> للرغبة الدفينة للرجعية المحلية وللاستعمار. في أن ينسحب من العمل الشرعي ومتابعة النضال من خلال مؤسساته، وأهمها البرلمان. لقد استمر صوته يصدح بمطالب الشعب، ويفضح إدارة دولته المخزنية المستبدة والفاسدة من خلال العمل الشرعي (؟!). وذروة تلك المعارك البرلمانية المجيدة. كانت تقديم <<ملتمس الرقابة>> وذلك لأول مرة في تاريخ المغرب،، وبرزت خلال المناقشة، أصوات ومواقف وخطب نضالية ورموز قيادية شابة وجديدة. وكانت ردود الحكومة فاضحة في تهافتها وضعف حجيتها، مقارنة إلى حجج المعارضة (بما فيها حزب الاستقلال حينها) ولأن الجلسات كانت تبث مباشرة في القناة التلفزية الوطنية (الوحيدة عهدئد) فلقد كانت مناسبة لجامعة سياسية شعبية، حيث كانت الدور والمقاهي تكتظ بالمواطنين للانصات على خطب نواب الشعب، ومرافعاتهم. وكانت نتيجتها انتصارا سياسيا وإعلاميا... ساحقا للمعارضة (الاتحادية خاصة). يعود فضل قيادة هذه المعركة السياسية المشهورة، إلى المناضل ع. الرحمن اليوسفي (الذي اطلق سراحه قبل ذلك) وطبعا القائد ع. الرحيم بوعبيد والذي لم يعتقل أصلا.
غير أن النشاط التنظيمي الحزبي الاتحادي، كان قد دخل عموما في شروط السرية، لقد اقفلت المقرات الشرعية والعلنية، وفتحت عوضا عنها مقرات أخرى في المنازل والمدارس والحدائق العمومية... وذلك تحضيرا لأعظم حدث نضالي منظم في التاريخ المعاصر للشعب ولليسار في المغرب. إنها انتفاضة 23-27 مارس 1965، وذلك خاصة في مدن الدار البيضاء ومراكش والرباط وفاس...
لقد كان لي شرف المشاركة محليا ووطنيا في التحضير والتدبير للانتفاضة تلك، واعتقلت إثرها مباشرة (سجن بولمهارز بمدينة مراكش) واطلق سراح مجموعتنا (9 تلاميذ) في نفس سياق العفو الذي تمتع به الفقيه البصري وبقية رفاقه، لقد كنا حينها كتلاميذ مؤطرين (منذ 1962) في إطار الوداديات التابعة ل(أوطم) وكذلك في الخلايا السرية لحزب <<الاتحاد>>.
انتبهت الإدارة متأخرة، أن أفكار "الاتحاد" وتنظيماته... لم تعتقل باعتقال قادته، بل لعلها استمرت مشتعلة أكثر، وبمفعول مضاعف، وبقيادات شابة من جهة وغير معروفة من جهة ثانية، فقرر لذلك <<العفو>> عن المعتقلين مضطرا، وذلك حتى تفتح مقرات الحزب ويتعرف على مناضليه... ولكن أيضا وأساسا مواجهته بوسائل أخرى انجح وأكثر دهاء وخطورة، اهم ذلك كان:
- اغتيال الرأس المدبر لتلك المرحلة، ولذلك النمط من النضال الجماهيري في الميدان التربوي_ الاجتماعي... الشهيد المهدي بن بركة (29 أكتوبر1965) حيث كان في المنفى خارج الوطن. ويشتغل في استراتيجية إضافية أخرى أهم على صعيد شعوب ودول القارات الثلاث ضدا على الإمبريالية خاصة.
]قد يكون الاغتيال مدبرا من قبل صقور النظام وعملاء الخارج (افقير...) ممن كانوا غير راضين عن المفاوضات التي فتحها القصر مع حزب << الاتحاد>> ومع المهدي بنبركة خاصة[
- فتح المفاوضات مع قيادة الاتحاد <<المعتدلة>> (= ع. الرحيم بوعبيد) في مدينة إفران وذلك بهدف التوافق معها على المشاركة في حكومة. وطنية <<انقاذية>>.
]قد يكون الهدف هو إشاعة حالة من التراخي يسهل معها الاختطاف ثم الاغتيال؟ [
- الدفع، تحت التهديد الضمني، للفقيه البصري وبعض رفاقه للخروج من المغرب نحو المنفى. وهو أمر يعتبر في شروطه الشخصية شبيها بالاغتيال (؟!). (ولقد خرج <<سرا>> من مدينة سبتة السليبة في 31/08/1966)
وبخروجه نحو المنفى الاضطراري (الجزائر _ باريس_ القاهرة_ دمشق_طرابلس...) وكذلك لاحقا، الأستاذ ع. الرحمان اليوسفي وآخرين كثيرين، ومنهم من كان بالمهاجر وبقي هناك مكافحا. سيقود الفقيه ملحمة أخرى لا تقل تضحية ونبلا وتهديدا للنظام. غير أنها جميعا انتهت بمأساة (3مارس 1973) والتي تكاد تشبه العبث في التاريخ النضالي للمغرب والمغاربة (؟!).
غير انه استمر يؤدي أدوارا عربية إيجابية. هو ورفيقه اليوسفي. وذلك خاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية. وفي الدفاع عن القضية الوطنية في جنوبها الصحراوي. والكثير من الحوارات والمصالحات العربية. خاصة في الشقيقة الجزائر. حيث كانت إقامته في الجزائر العاصمة. المكان الوحيد الذي يسمح بلقاءات (مصادفة أو تدبيرا) مختلف الفرقاء المختلفين وحتى المتصارعين داخل مربع الحكم في جزائر تلك المرحلة.
أما اليوسفي، فلقد اهتم أكثر بمسالة حقوق الإنسان في الساحة العربية جميعا. وهكذا فهو من يعود له فضل تطوير وإغناء أدبيات ومواقف ونضالات <<اتحاد المحامين العرب>> وكذلك تأسيس <<المنظمة العربية كحقوق الإنسان>> (19) ثم <<الجمعية العربية لحقوق الإنسان>> والتي يعود له الفضل حصرا. في اقتراحها ومتابعة تأسيسها وتوجيه العمل القيادي والأدبي لمسيرتها... وهو الأمر الذي أتاح لي موقعي في تأسيسها، من معاينته والاطلاع عليه مباشرة.
لقد بقي المغرب حاضرا يوميا في قلب وعقل الفقيه. وبقي حاضرا في وطنه رغم غيابه الجسدي. ولم يكن يتصور أن يزور مناضل عاصمة، مما كان للفقيه إقامة بها. ولم يتصل به ولم يجالسه ولم يتبادل معه الأخبار والأفكار والمواقف والمشاريع...
لم يشكل المنفى الاختياري أو القسري... بالنسبة لحزب <<الاتحاد>> وقادته ومناضليه، مناسبة لاستراحة المحارب. لقد تميز نضاله ونضالهم على هذا الصعيد، بنفس ما تميزت به نضالاتهم في الداخل الوطني. معارك وطنية عربية وأممية... لا تفتر. خاصة حول القضية التي استمرت حية وحتى الأن. فلسطين ثم خاصة قضية اختطاف واغتيال الشهيد المهدي... ويمكن القول لذلك وبفخر.
- ان <<الاتحاد>> بقادته ومناضليه، مثل حالة فريدة على الصعيد العالمي في هذا المجال المزدوج أو حتى المتعدد للنضال، الوطني والقومي والأممي.
- إنه تمكن وحده، من حفظ ذاكرة وقضية قائده الشهيد، لقد استشهد الكثير من قادة النضال الوطني والديمقراطي أو الاجتماعي في العالم المعاصر. (لومومبا مثلا) غير أن المهدي وحده تقريبا، مازالت قضيته حية، وملفه مفتوحا جنائيا وسياسيا وإعلاميا وثقافيا...
وفي الحالتين، فانه لا شك أن للفقيد الفقيه دورا بارزا ومحمودا في إنجاز ذلك التميز وذلك التفرد...
في فترة المنفى أيضا، لم يهمل الفقيه ما تعود عليه وما كان قد ساهم في تأسيسه وراهن عليه، انه العمل الاعلامي وتأطير وتوظيف الثقافة والمثقفين في معركة التحرير والديمقراطية. فمن باريس أصدر مع رفاقه حينئد جريدة ومجلة (الاختيار الثوري) والتي صدر فيها 70 عددا، ومن طرابلس، أطلق اذاعة " و " والتي كانت تستقطب في دعايتها وتحريضها آذان العديد من المغاربة، تحضيرا في الغالب لحدث 3 مارس 1973، الذي انتهى قبل أن يبدأ.
* * *
لم تتوقف ملاحم حزب << الاتحاد>> على جميع المستويات. بعد تهجيره، سيشتد عود المقاومة الفلسطينية وستهجم أمريكا على الأمة والدول العربية في (1967) وسيتأسس اليسار الجديد الوطني والعربي. ويضخ في النضال الديمقراطي والوحدوي _القومي دماء جديدة. وستتأسس الكتلة الوطنية (1970) وبدعوى تنظيم انقلاب مدني على نظام الحكم المغربي ستحصد الاعتقالات الكثيرين من مناضلي الحزب، وتصدر أحكام قاسية في حقهم (محاكمة مراكش 1970) وصلت سقوف الإعدام، ويكون من بين اهم من شملتهم الأحكام تلك، الفقيه البصري في الخارج والحبيب الفرقاني في الداخل، ويعقبها مباشرة محاولتان لانقلابين عسكريين فاشلين (ربما بشكل مقصود من قبل الراعي الخارجي؟!). ويطلق على إثر آخرتها، سراح معتقلي محاكمة مراكش. ويطلع في الأفق، بداية ضوء شحيح من الحريات، سرعان ما سيقع النكوص عليها، وذلك باعتقالات (1972) اليسار الجديد في أهم رموزه. ويدخل الباقي منهم، في سراديب السرية أو الهجرة. ثم ستنطلق أحداث م. بوعزة (3 مارس 1973) بمناسبة عيد ميلاد الملك. وتنتهي قبل بدئها. ما يؤشر الى احتمال خيانات من المهجر الذي انطلقت منه. وسيتهم الفقيه بانه المدبر، بتنسيق مع أقطار عربية خصيمة للنظام، ستشمل الاعتقالات العديد من مناضلي <<الاتحاد>> مرة أخرى في الداخل الوطني... ثم ستقضي الأحكام المستعجلة، بإعدام بعضهم. وسيكون على رأس من نفد فيهم، قائدهم المرحوم عمر دهكون... (01/09/1973)
ولعل أهم حدث سياسي - عسكري بعد الحرب العظمى 2 سيغير مجرى التاريخ المعاصر له. كان هو الهزيمة المنكرة للولايات المتحدة في فيتنام وعموم الشرق الأقصى. الأمر الذي سيغير وجهة إهتمامها نحو منافسيها في الاتحاد الأوروبي واليابان خاصة. ومن تم مناطق نفوذهما الاقتصادي. التجاري والسياسي. وسيكون من أهمها الصحراء الغربية في الجنوب الوطني المغربي.
ستستيقظ أوروبا (فرنسا خاصة) على الخطر الذي اضحى محدقا بها. وستعمد الى علاج مرضها العضوي في الجنوب منها (إسبانيا) وذلك بتنميتها ديمقراطيا، وإبعادها عن المخططات الأميركية في المنطقة، ما يتصل خاصة بالصحراء المغربية منها، ويكون من أهم إجراءات ذلك في المغرب، التراجع الاستراتيجي لنظام الحكم، وذلك خاصة في اتجاه التخلص من يمينه المتطرف، والانفراج السياسي النسبي على المعارضة (حرية الصحافة _إطلاق كثير من معتقلي الاتحاد خاصة... وكان في القمة من جميع ذلك تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية لشغل...) وإعادة بناء الثقة والوحدة الوطنية، وذلك بهدف التعبئة للحدث التاريخي العظيم <<المسيرة الخضراء>> والمعركة الديبلوماسية والقضائية المرفقة بها، والتي أدت الى الاسترجاع الجزئي أولا، ثم الشامل لاحقا، للساقية الحمراء ووادي الذهب. وبذلك استرجع الوطن بعضا من أهم ما كان قد ضاع من أراضيه بسبب الضعف والفرقة (1912). كما بسبب استمرار استعماره بشكل جديد (1956...) وتوابع له رجعية محلية تنفذ برامجه ومخططاته في الإدارة والاقتصاد والمجتمع و...
مع انطلاق المسيرة (1975) انطلقت مسيرات أخرى لا تقل أهمية. خاصة منها ما وصفه الزعيم المرحوم ع.الرحيم بوعبيد ب<<المسلسل>> ويقصد به ما سمي ب <<الانتقال >> الدمقراطي، والذي سبيله الرئيس، هو الدخول في سلسة توافقات ما بين الحكم من جهة، والمعارضة الديمقراطية من جهة ثانية. ورغم الاغتيال السياسي الجبان والندل للزعيم اليساري الشهيد عمر بن جلون (1975). فلقد فضلت الحركة الاتحادية وذلك خلاف صنيعها بعد اغتيال المهدي، أن تستمر في الرهان على مسلسل الانتقال بالتدرج والتوافق (الميثاق الجماعي _ الانتخابات الجماعية (76) ثم التشريعية (1977). وذلك باعتبارها لذلك، هو خدمة ودعما لمعركة استكمال التحرير والوحدة الترابية، فضلا بالطبع، عن المعركة الديمقراطية (الانتقال) في شروط ميزان القوى الجديدة المختل اجتماعيا وسياسيا... لمصلحة الحكم...
مع منطلق التسعينيات. وتأسيس الكتلة الديمقراطية ( ) والإضراب العام النقابي ثم دستور (1992) ثم خاصة الخطاب الملكي أمام البرلمان حول السكتة القلبية ( ) سيدخل المغرب إدارة ومجتمعا في طور جديد من العلاقات .وذلك في اتجاه الوصول الى صيغة توافقية للمشاركة في الحكم من قبل المعارضة اليسارية (الاتحاد الاشتراكي ) خاصة. وقد توفي من كان يعتبر بالنسبة للحكم عائقا على ذلك .ألا وهو الزعيم القائد ع.الرحيم بو عبيد والذي كان يردد على المناضلين دائما قوله: إنه ما دمت حيا، لا تراهنوا على المشاركة . ذلك لأن السلطة العليا سبق لها أن جربته وعاينت قوة شخصيته ومبدئيته في العمل السياسي، ورفضه المساومة عليها وأحرى أن يكون صوريا أو هامشيا في المشاركة. (وذلك تماما مثل حالة ع. الله ابراهيم أيضا، وقبلها علال الفاسي كذلك)
وعلى نمط العلاقة مع اسبانيا، وان بدرجة اقل، ستبادر أوربا (فرنسا خاصة) إلى دعم "انتقال ديموقراطي" تفاوضي وتوافقي متدرج وسلمي في المغرب، ولعل عودة اليوسفي قبل ذلك ( ) إلى وطنه، لم تكن تخرج عن هذا الرهان، ومؤهلاته في هذا الخصوص لا ينازعه فيها أحد سواه، وذلك سواء من حيث خبرته المعرفية والتجريبية في أوروبا (التجارب الاسبانية والبرتغالية واليونانية ...) أو من حيث مصدوقيته الحزبية والنقابية والشعبية مغربيا، أو خاصة من حيث اطمئنان نظام الحكم وطبقاته السائدة لشخصه ولحكمته ومرونته. واستيعابه السياسي ل<<اكراهات>> الانتقال وضرائره...
لم يقبل <<الاتحاد>> بالصيغة الأولى المقترحة من قبل الملك. (حكومة بمشاركة أحزاب الإدارة _ أو مضمونة التأسيس برلمانيا من قبله) (للأستاذ العروي مقالة شارحة وجيدة في الموضوع) ذلك لأنها (= الحكومة إياها) ستكون هشة سياسيا، ومصطنعة دستوريا.
وبمناسبة انتخابات الثلث غير المباشر في البرلمان. تمكن حزب <<الداخلية>> من اغتيال الرهان، وذلك بتزوير فظيع، قلب خريطة البرلمان، وقزم حضور التجمع الوطني للأحرار فيه (وهو الحزب الإداري المقبول اتحاديا للمشاركة)، وحال دون إنجاز حكومة التوافق المأمولة (ينظر في هذا الصدد إلى مقالة تحليلية نموذجية للمنوني في الموضوع) وذلك إلى حين تغيير الدستور (1996) وحل البرلمان (1997) وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها، ثم حكومة (1998) التوافقية الثانية في تاريخ مغرب الاستقلال (بعد حكومة ع. الله إبراهيم المغدورة) وهي التي استمرت إلى حدود (2002) حيث وقع الانحراف مرة أخرى عن <<المنهجية الديمقراطية>> كما عبر الزعيم اليوسفي بحق، ثم الانتخابات الجماعية (2003) حيث أجهز على البقية الباقية من الرهان. فانسحب اليوسفي من العمل السياسي <<مطلقا>> ( ) احتجاجا منه على <<الغدر>> واعترافا منه بالهزيمة، هزيمة "الاتحاد الاشتراكي" أولا بانقلاب توازناته لمصلحة <<الإدارة>>، واليسار ثانيا بتفككه، وسيادة اللاعقلانية في سلوكه. وهزيمة الوطنية والوطنيين في <<الكتلة الديمقراطية>> باختراقها، وتضخيم تناقضاتها الثانوية على حساب رهانها البرنامجي، وعلاقات مكوناتها الحزبية والنقابية والثقافية... (ينظر له خطاب بوكسيل النقدي والتقييمي).
ونتيجة تناقضات وصراعات الامبرياليتين الفرنسية والأمريكية على المغرب. خرج الوطن من رهان الانتقال الديمقراطي، إلى وضعية "العبث الديمقراطي".
* * *
خلال هذه المرحلة من التاريخ الملحمي للنضال الديمقراطي الوطني في المغرب، لم يعد الفقيه البصري بطلها المغوار، لقد تراجع دوره إلى الخلف نسبيا، أو حتى كثيرا. تناوبا مع رفيق الدرب ع. الرحمن اليوسفي ورهانه المستجد (وربما كان قديما ؟!) وأيضا للزعيم النقابي نوبير الأموي قائدا كاريزميا لنقابة <<الكنفدرالية>> التي عوضت في سياق الضغط، ما كان يقوم به البصري من ضغوطات ومناوشات...
لقد تنكر للزعيم رفاقه في المهجر، وتلاوموا علنا، حول المسؤوليات والأخطاء، بل وما هو أدنى وأحقر من <<التهم>> التافهة. فقرر العودة إلى الأصل، العودة إلى الوطن، واستقبل في المطار استقبالا وطنيا منقطع النظير (10/06/1995). وفي المقدمة كان اليوسفي، أكثر من يعرف حقيقة وتاريخ رفيقه الدائم وفي جميع مراحل حياتيهما، غير أنه في الحزب تم ما هو خلاف ذلك، بل لقد تسبب فيه وفي صحافته، في شروخ وحساسيات، بل وملاسنات وصراعات. فضل معها البصري الابتعاد عنه، والدخول في رهانات أخرى اجتماعية وثقافية وسياسية... يمكن اختصارها جميعا في أطروحة <<الكتلة التاريخية>> و <<دولة الشعب>> و <<ديوان حكماء شعبي>> في البلاط الملكي... زار جهات المغرب ومدنه وقراه، والتقى بالجميع تقريبا. وأبدى آراءه خلال مجالسه الخاصة والعامة وحواراته في صحف وطنية عديدة...غير أنه همش، بل وحورب من قبل:
- مجتمع شبيبي جديد عليه تماما، مفتقدا للذاكرة الوطنية، ومنشغل بهموم أخرى غير سياسية بل ولا حتى اجتماعية أو ثقافية...
- خصومه العديدون والمنظمون جيدا داخل الحزب وذلك بقيادة المناضل محمد اليازغي.
- أعداؤه في نظام الحكم، وقد صدرت تعليمات عليا صارمة بعدم استقباله أو التعامل معه من قبل أي ممن لهم صلة أو مصلحةمع إدارة الدولة،وذلك بجميع مرافقها وأشخاصها، ولو بمناسبة مجتمعية أو دينية حتى (؟!)
عمليا، عاش العودة في شبه سجن كبير أو إقامة إجبارية مفتوحة، وهو ما لم يكن ليطيقه. وهو الأشد حيوية وحركية وعلاقات اجتماعية. أسد هصور، ولكن أضحى بدون أظافر أو أنياب، مراقب ومحاصر في جميع تحركاته وعلاقاته. إلا مع بعض الشباب الحزبي أو النقابي أو المثقف، والذين كان من بينهم محاوره في هذا العمل الجليل، الأديب والصحفي الألمعي الاستاذ والمناضل حسن نجمي، والذي لولا مبادرته مع غيره من أمثاله، لما كان لحضور وعودة الزعيم وطنيا. أثر وتأثير وذاكرة وتذكير...
لم يعد مهما اغتياله جسديا، بل ولم يكن ممكنا حصول ذلك حتى في المرحلة الأصعب السابقة، ذلك لأنه كان يعتبر، ومن قبل الجميع، بما في ذلك القصر الملكي، الضمير الحي، ورمز الوفاء والتضحية للوطن وللملكية، بل لقد كان المرحوم محمد 5. يعتبره إبنه من غير صلبه. وما كان مقبولا في التقاليد المرعية دينيا ومخزنيا، ان يقتل الابن من الصلب، أخاه بالتبني (؟!) وهذا هو بعض السر، في أنهم فضلوا نفيه عوض اغتياله. خلاف ما تصرفوا به مع غيره من أمثاله.
وتعب الجسد، وما كان له أن يطيق طموحات الزعيم ورغباته وآماله. ولقد كان يشبه الزعيم علال الفاسي في اهمالهما لشروط مأكلهما ومعاشهما اليومي، فلقد كانا معا غير محتاطين على هذا الصعيد، لا يترددان في الاستجابة لأية دعوة كريمة، عرسا أو حفلة عيد ميلاد أو كسكسا شعبيا يوم جمعة (؟!)، <<تكسرت النصال على النصال>>، أصيب منه القلب. وهذا عضو لا ينبئ سلفا عن مرضه. سافر إلى فرنسا، وكان اليوسفي يتابع حالته يوميا. ونجحت العملية، وأوصاه رفيقه بالبقاء هنالك في فترة نقاهته، غير أنه استعجل الرجوع إلى الوطن، أو أنه استعجل الاحتضار في ربوعه، وبين خلانه، والموت على ثرى أرضه، كان القصد في الأصل الاستقرار في مدينة مراكش، حيث الشروط مناسبة صحيا، ورغبته أكيدة في المدينة التي احتضنت مراهقته وشبابه ونضاله، غير أنه في آخر لحظة فضل، عن خطأ، منتجع شفشاون الجبلي وغير المناسب صحيا لحالته، فقضى يوم (14/10/2003) بعد حوالي ثلاثة أيام من استقراره فيها، وحظيت لذلك بشرف أن تحتضن جثمانه أولا، وقبل أن ينقل للدفن بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء، حيث يرقد، مطمئنين راضين مرضيين، أغلبية رفاقه المناضلين، شهداء الوطن والوطنية والديمقراطية، ورحم الله الفقيد، فلقد كان، وسيبقى، من أفضل وأعظم من أنجبتهم هذه الأرض وهذا الوطن. نظير يوبا 2 وابن ياسين وابن تاشفين وع. المومن الموحدي والمنصوران و... ومحمد 5 والفطواكي والزرقطوني والمهدي وعلال وعمر... والقائمة بحمد الله ومنه، طويلة جليلة رائعة، قلما سمح بها الزمن لشعب أو لوطن في التاريخ المعروف للشعوب في الوسيط والحديث والمعاصر.
* * *
وبعد،
لقد تولى شرف إنجاز هذه المأثرة، الصديق الأديب والأستاذ الصحفي حسن نجمي، وهو في حاضر وتاريخ أدبنا وصحافتنا الوطنية المعاصرة، تميز في نظري مما يتصل بموضوع هذا التقديم بالتالي:
- تكريسه لتقليد تأسيس وطني وعالمي، الا وهو ربط الاعلام والصحافة بالثقافة (وهو الأمر المهدد للأسف في كل حين عندنا وعند غيرنا) إنه يذكرنا بفطاحل مغاربة في هذا الصدد، لنتذكر بعضهم المؤسس أو المحافظ: محمد داوود – كنون – الوزاني – الطريس – الناصري – علال الفاسي... ثم في القمة في هذا المنحى، النابغة في المجالي: سعيد حجي، وبعدهم غلاب – الجابري – الباهي – الفرقاني والقرشاوي... الخ.
- عنايته الخاصة والاستثنائية بالذاكرة والتاريخ الوطنيين، وهي اليوم، وأكثر من أي وقت سابق، قضية القضايا في المعركتين الثقافية والسياسية. ففي زمن <<العولمة الرأسمالية>> تعتبر ذاكرة الدول والشعوب مستهدفة بالتشويه والتحريف، وحتى بمحاولات المحو، ولذلك فإن مقاومة ذلك بالحفظ والتوثيق والترميم والتحقيق... تعتبر مهمة مركزية بالنسبة للمثقفين حقا وصدقا. والمناضل نجمي، سجل على هذا الصعيد منجزات مذكورة ومحمودة، وذلك من خلال حواراته الضافية، وأكثرها منشور بشكل مستقل في كتب مع الكثيرين من رموزنا الوطنية، من بينهم خاص: عابد الجابري / المنجرة / وفؤاد نجم... وع. الواحد الراضي. فضلا عن تشخيصات أدبية-صحافية (= بورتريهات) لآخرين من نفس الأهمية. بل إن منحاه الإبداعي في الرواية، لا يفتأ يمتح من نفس المعين سواء رواته المنشورة (جير ترود) أو تلك التي في طريقها للنشر، وربما للاخراج السنمائي أيضا حول "الهروب الكبير" للمقاومين من سجن القنيطرة خلال مرحلة الاستعمار (1954).
في هذا العمل المشكور، تمكن الاستاذ وبسلاسة، ولكن أيضا، بثقة متبادلة بين السائل والمسؤول، تمكن نجمي وخلال جلسات متعددة وصبورة، من استنطاق (= استكتاب) الزعيم الشهيد، بالكثير الغني من المعطيات التاريخية الوطنية والعربية، وأيضا من التحاليل الشخصية، وأحيانا الاحكام والمواقف. وذلك اعتمادا على الذاكرة والانطباعات. التي ستسمح لاحقا للمؤرخين المغاربة خاصة، من استخلاص ما يرونه التأريخ الأقرب إلى تاريخ المغرب المعاصر بنجاحاته وإخفاقاته. ببطولاته وخياناته، بأمجاده وبإسفافاته معا وجميعا وفي نفس الوقت... فهذا هو تاريخ جميع الشعوب والدول العظيمة.
مراكش: فبراير 2018
Share this content: