ع. الصمد بلكبير
في شروط تاريخية تكاد تطابق شروطنا الراهنة، وذلك من حيث أخطار اختراقات تهويد دين المجتمع وتدينه (الفوضى الشعبوية والإرهابية). خرج الإمام الغزالي بأطروحته الاستخلاصية الشهيرة: ".. ما فسدت الرعية، إلا بفساد الملوك، وما فسدت الملوك، إلا بفساد العلماء" (الإحياء ج2 ص238)، ذلك لأن "فلاسفة" عصره، هم من تواطؤوا، انتهازا، مع أخطر تلك الانحرافات العقدية، إذن السياسية، ومكنوها من التسويغ جماهيريا.
وضع "المثقفين" اليوم مغربيا وعربيا، يكاد يشبه سابقه، وذلك في الكثير من مظاهره، والتي من جملتها ما ستقف عنده هذه النقدات من حالات عابرة ومواقف ممثلة، والفرق بين العصرين، هو حضور الاستعمار في شروطنا، بما في ذلك خاصة على صعيد الوعي والمفاهيم.
1 -في برنامج تلفزي مغربي حول "الرواد"، خصصت آخر حلقة منه، لشيخ الإسلام، محمد بن العربي العلوي، صرح رئيس الرابطة المحمدية للعلماء (ضاحكا) بأن الشيخ كان مريدا، رغم سلفيته، وكان له ورد.. ما يوحي بأنه كان ينتمي إلى "طريقة" وهذا منتهى التضليل لحقيقة شيخ تيمي، كان أساس رهانه في الإصلاحين الديني والسياسي، هو محاربة الطرق والطرقية وانحراف أكثرها وعمالته للاستبداد وللاستعمار.. وذلك أحيانا أكثر من مناهضته للاستعمار نفسه. من يشوش على هذه الواجهة الرئيسة في كفاح الشيخ، يجرده عمليا من صفته التاريخية المستحقة، كشيخ للسلفية الجديدة أو الوطنية والديمقراطية في المغرب المعاصر. وتلكم كانت جدارته وعظمته في زمنه.
نعم خلال مراهقته الأولى وفي موطنه بتافيلالت، وكما كان التقليد يجري ويسود في مجتمعه، كان كذلك فعلا، غير أنه حالما انتقل إلى القرويين بفاس، واطلع على كتاب لابن تيمية، حتى انقلب على معتقداته التي اعتبرها لا دينية، ومن تم على رفقائه وشيوخه ومجتمعه، وصار ما صار عليه في ذاكرة المغاربة وفي التاريخ المعاصر للأمة الإسلامية جميعا، "شيخا للإسلام" المناضل عن جدارة.
2 -وفي نفس البرنامج، يجيب "اليساري" السيد بوعزيز، حول سؤال دواعي موقف الشيخ من دستور 1962 ودعوته لمقاطعته، بالقول: لأنه لا ينص على السيادة الشعبية"؟ ! وهذا أمر غير صحيح فضلا عن مفارقاته، إذ:
أ-هل يتصور، نظريا وواقعيا، احتمال تنصيص دستور ممنوح على السيادة الشعبية، إذ لو كان المانح الدستوري مقتنعا بها، لمارسها في شروط وضعه تأسيسا لا استفتاء(؟!)
ب-السيادة لا يمكن منحها، ذلك ببساطة، لأن الذي يمنح، يستطيع في كل حين استرجاع منحته.
الموقف الاتحادي، كما كان موقف الشيخ، لم يكن سياسيا تاكتيكيا، بل مبدئيا، لم يكن حول المضمون، بل حول الشكل، لم يكن حول السلطة السياسية، بل حول سلطة التأسيس، وذلك كان من منطلق ليبرالي-اشتراكي بالنسبة للحزب، وإسلامي بالنسبة للشيخ، ذلك لأن "الحاكم لا يشرع" في التقليد الإسلامي حسب تصريح الشيخ رحمه الله.
3 -الصحفي المناضل السيد الدامون، يصر، كغيره كثير، على منهج "المقارنات" (المفاضلات في الحقيقة) رغم ملاحظاتي السابقة والتمرينية بصدد مقارنته بين قصر أنقرة ومسجد البيضاء، وذلك في سلسلة حلقات حول "الأصول التاريخية" لسقطات الحاضر (=اختصاصنا: تضييع الفرص)، ما يعني أننا كنا دائما هكذا. أو على الأقل منذ الخمسة قرون الأخيرة حسب أمثلته.
"علم" آداب المقارنة، نشأ في أوربا مع بداية نهضة رأسماليتها، ومن تم تطلعها نحو التوسع والهيمنة، ثم السيطرة الاستعمارية، القديمة ثم الجديدة، والتي ما كان لها أن تحصل، بغير معرفة أو "علوم"، هي ما شكل حقل الاستشراق بمختلف مستوياته وصيغه وتعبيراته وقنواته...
قبل ذلك، كانت أوربا تتعرف على الشرق، إذن تقارن، ولكن من أجل التعلم والتقليد والإصلاح... بما في ذلك الديني (تأثير ابن رشد وابن تيمية مثلا...)
أما بعد نهضتها، فلقد أضحى الاستشراق معرفة من أجل الهيمنة ثم السيطرة، وتسويغهما للذات وللآخرين، وذلك عن طريق منهج المقارنات (المفاضلات)
لم يكونوا في حاجة إلى ذلك التسويغ للاستعمار، في الجغرافيات التي لا تاريخ لها، إذن لا حضارة ولا دولة (إفريقيا مثلا)، الوطن العربي والعالم الإسلامي والآسيوي، كانا أمرا آخر، يحتاج إلى ما هو أكثر من "علوم" الإثتوغرافيا ونظائرها... حيث لا مجال لـ"مقارنات" مع: ما قبل العقل، ما قبل المنطق، ما قبل الدين والكتابة والإيديولوجيا والدولة...إلخ.
الاستشراق ليس صناعة غربية للشرق فقط، بل هو أيضا صناعة للغرب نفسه، وذلك عن طريق اصطناع، أو تخيل "شرق"، هو في حقيقته، أوربا ما قبل النهضة، ما قبل الرأسمالية حيث: اللاعقلانية، اللامنطقية، اللاتاريخية، الحسية والحدس والانفعال والغيب والقدرية وسيادة المقدس والكنيسة وعبادة الموتى وسيطرة الذاكرة والاتكالية والقبلية والانقسامية والفردانية الأنانية واغتيال الخيال أو التدبير للمستقبل واحتقار المرأة والطفولة والطبيعة...إلخ.
"الشرق" في الآداب الاستشراقية هو إذن "اختراع" غربي (لا اكتشافا) لا وجود له إلا في خيالهم، إذن رغباتهم ومطامحهم، لما أضحوا عليه من: عقلانية وعلمانية وديمقراطية (=الحداثة)...إلخ
منهج المقارنات بسيط جدا، وأحيانا مبتذل، يحدد فيه المقارِن مطامحه، ويرمي خصمه بنقائضها، وذلك حتى يزكي نفسه ويؤكد ذاته وإرادته "رمتني بدائها وانسلت".
ليست العلاقة، علاقة انفصال، بل ترابط جدلي وتاريخي بين الطرفين، لا يمكن تفسير أحدهما دون استحضار الآخر، يفسران بعضهما، هما في المحصلة أمر واحد وتاريخ واحد وجدلية واحدة.
هل كان لأوربا، وللغرب عموما، أن تنهض ثم تتقدم، دون تكريس التأخر، ثم فرض التخلف على الشرق وعلى الجنوب؟ لقد كانت بحيرة الأبيض المتوسط شمالها وجنوبها، تعيشان نفس الشروط التاريخية للنهضة، غير أنه ما كان ممكنا تحقق ذلك للضفتين في نفس الزمن التاريخي. كان على أحدهما أن يستمر على ركوده الإقطاعي، وذلك حتى تنهض رأسمالية الآخر. وذلك كان معنى الصراع على البحار وعلى السواحل وعلى "الكشوف" الجغرافية، والذي انتهى بانتصار أوربا على حساب جنوبها، رغما عن معركة "وادي المخازن"، والذي اقتصر دورها على الإنقاذ.
[الجغرافيا السياسية (=البعد) هو ما يفسر الفلتة اليابانية]
لشكيب أرسلان كتاب شهير، وجه العقول العربية جميعا خلال القرن الماضي، إسلامية وقومية.. أطروحته يختصرها عنوانه "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ والحال أن من شروط تقدم الغرب بقيادة بورجوازيته، هو تأخر المسلمين، وذلك عن طريق استعمارهم. فهذا من ذاك وذلك من هذا، وحتى يومه. السؤال فاسد إذن، عقلا وواقعا.
من الاستعارات البليغة، والتي كان الشهيد عمر يرددها في عروضه الحزبية، هذه الصورة التمثيلية لفساد منطق المقارنة الاستشراقي، والتي أخذها عن الاقتصادي شارل بيتلهايم: كيف تجوز المقارنة بين عمارةوحفرة، عمارة الغرب وحفرة الشرق، والحال أن مواد بناء تلك العمارة مصدره تلك الحفرة بالذات، وكلما علت العمارة إلا وتعمقت الحفرة. فأي معنى وأي منطق لـ"المقارنة". تقدمهم.. يعني تأخرنا والعكس، مثل كفتي الميزان، إذا صعدت إحداهما هبطت الأخرى...
الوعي "المثقفي" يميل عموما للتفسير الأفقي للتاريخ، فيفسر الأفكار بالأفكار، وذلك طبعا حتى يزكي نفسه وينوه بذاته، والحال أن المطلوب هو التفسير العمودي، تفسير الأفكار بالوقائع، تفسير التاريخ بمنطقه، التفسير الملموس، لا المجرد، للوقائع والأحداث، التفسير التاريخاني لا التأملي أو الثقافي، وأحرى الأصولي أو الطبائعي... فهذا يسقط في أخطار الرؤية والاستراتيجية الاستشراقية وأسوؤها "العنصرية"، نظرية (الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان) أو "هكذا خلقنا" إذن لا أمل، قدرنا أن نكون وأن نبقى كما نحن عليه؟ !
ليست العلاقة، علاقة متأخر بمتقدم، فيحتاج الأول من تم، إلى أن يقلد الثاني ويتبعه، لأجل الالتحاق به (كما تتوهم وتحاول النخب الحاكمة عندنا عبثا) بل علاقة مستعمِر بمستضعَف ومستعمَر، فهو يحتاج إلى مقاومته، لأجل الاستقلال عنه والتحرر من استغلاله ومن أغلاله. لا إلى تقليده واللهاث خلفه. وتحرير الأوطان، هو شرط لحريات وحقوق المواطن والإنسان وتنميته وديمقراطيته وتقدمه...
لعل هذه الخاطرة، تنفع في تنبيه الكثير من الكتاب والصحفيين إلى الإقلاع عن هذا النوع من المفاضلات (لا المقارنات ولا الموازنات بالأحرى) ويعفون قراءهم من هذا الخطاب الاستشراقي الغربي، والذي يكاد يكون غذاء ثقافيا يوميا في صحافتنا الفتية.
مرة أخرى أؤكد، أن من لا إستراتيجية له، يجد نفسه حتما في خدمة إستراتيجية غيره. وقد يكون هذا الغير خصما، أو حتى عدوا، لوطنه ولرهاناته هو نفسه. ومن ذلكم حالة صديقنا جميعا.
4 -وفي مقالة متسلسلة، وضعت السيدة مالكة العاصمي عنوانا لها، يربط بين أبي العباس السبتي وبين "المجتمع المدني" المغربي لذلك العهد. وهو أمر غريب ومثير. إذ هل يمكن الحديث عن مجتمع "مدني" في العصر الوسيط عربيا-إسلاميا كان، أو أوربيا؟ !
لعلمك سيدتي، إن مدنية المجتمعات البشرية، ترتبط تاريخيا بالحداثة، ومن تم بالعصر الحديث، ولا يمكن تصورها قبل ذلك، إلا كإرهاصات، خاصة في أواخر العصر العباسي، انتهت جميعا إلى الإخفاق، وذلك ضمن إخفاق عام للحداثة العربية لذلك العصر كله، وانتصارها بالمقابل في أوربا، بعد النهضة والكشوف الجغرافية والتنوير والتصنيع وتأسيس الدولة الوطنية (لا الدينية) المركزية والديمقراطية.
لقد كان من بوادر تأسيس تمدين المجتمعات الأوربية الحديثة، الشعار النضالي الجبار "دعه يعمل، دعه يمر" ما يعني: الحق في التنقل، والحق في العمل بأجر في مقابل القنانة (ربّاع، خماس، خباز...) الأمر الذي أدى عمليا إلى كثير: 1-تحرير الأقنان، حيث أصبحوا عمالا "أحرارا" يعرضون بضاعتهم (قوة العمل) في سوق رأسمالية، وحسب قوانينها، ولا سلطة لأحد (الإقطاع) على عملهم وعلى أسرهم وعلى حرياتهم.
2-تحرير المرأة من نيرين: الأسرة التقليدية وقهر العمل الفلاحي الموازي، في آن معا.
إنه المجتمع الصناعي والطبقة البورجوازية الجديدة والمدن الحديثة، والتي هي بالمناسبة، غير المدن التقليدية التجارية-الإقطاعية والعسكرية للعصور الوسطى.
تفككت العلاقات التقليدية: العائلة الممتدة / العشيرة / القبيلة / الطائفة/ الجهة... وتشكلت علاقات جديدة موضوعية يحددها العمل (الزمالة في المهنة، إذن النقابة) والمكان (الجيرة في السكن وروابطها الجمعوية) وفي الميول (السياسية الحزبية / الثقافية والرياضية... في جمعيات مدنية مختصة بذلك). وفي العقيدة والتدين، الذي أبعد عن الإدارة وتحرر من السياسة، وعاد إلى أصله، مسألة ضمير وسلوك شخصي.
الروابط أضحت جغرافية (الوطن) سياسية (الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وسيادة القانون والمؤسسات...) كل ذلك بديلا عن الروابط الميتافيزيقية – الغيبية (الملة) أو الوهمية (الدم).
ليس المجتمع "المدني" في حقيقته، سوى المجتمع البورجوازي (هيجل) وذلك في مقابل المجتمع الإقطاعي-القبلي والكنسي (التقليدي)، بقية التقابلات، هي محض هرطقات إيديولوجية (المجتمع السياسي- العسكري- الديني...)
هذا المجتمع "المدني" لم نفتأ بعد نناضل من أجل تأسيسه وتعميمه، ويناكفنا في ذلك الاستعمار بشتى مظاهر سيادته وتغلغله واختراقاته، ولعل من أخطرها، تلك التي تتم على مستوى العقول والمفاهيم والوجدان، ومن ذلك هذا الخلط السائد في مفهوم المجتمع المدني. وذلك حتى بالنسبة للذين يعون حداثة الظاهرة، غير أنهم يوظفونها في غير أهدافها ومقاصدها. وهذا اليوم يهم، مثلا، أكثر من (4000) جمعية حقوقية بالمغرب. أكثرها أسسه ويموله ويوجهه الغرب الاستعماري، ضدا على الوطن وعلى مصير المواطنين ومصير الدولة وإداراتها المنشودة من قبلهم هم أنفسهم، وذلك في الغالب نتيجة التغليط والتشويش في المفاهيم أو بدوافع "كمشة دولارات". وهو أمر للأسف، يدخل في باب: الخلط والبلبلة والتشويش والفوضى... المجتمع المدني ليس بديلا عن الأحزاب ولا بالأحرى عن إدارة الدولة، بل هو رديف لها مكمل، منتقد ومقترح...
المجتمع "الاشتراكي" المأمول والمنشود، سيحل محل "المدني" (=البوجوازي) وبذلك يصبح المواطن، مشاركا في الثروة، وليس وحسب في الحكم، له سهم في اقتصاديات الدولة، وليس فقط "صوتا" في انتخابات، تزور دائما من قبلهمأما عن أهمية أبو العباس التاريخية، فتكمن في جدلية دقيقة بين تصوفه من جهة، وموقفه من إدارة الدولة، هو يبتعد عنها وينعزل في مغارته بجبل "جليز"، لا يغادرها، إلا عندما تضطر إدارات الدولة جميعا، إلى التحرك لحماية ثغر
أو استرجاع أرض (في الأندلس خاصة) فتترك فراغا في المدينة، مفتوح على جميع احتمالات التسيب والفوضى والجريمة، عندئذ ينزل من الجبل ويعوض هو قوة الدولة، بقوة الدين: التربية والوعظ بالسلوك، والإحسان، فـ"الوجود ينفعل بالجود" كما كان يردد. فيأخذ من فائض أموال الأغنياء (مقابل الدعاء لهم) ويفيضها على المحتاجين إليها حسب وضعياتهم المادية، (المعاقين أولا) وحسب ما يتهددهم (الأبكار والجميلات المعدمات، لأن سقوطهن أسهل وأخطر...) وهكذا، في إجراءات كلها عمليا مؤقتة، وذلك إلى حين عودة جيوش وقضاة وشرطة.. وسجون.. الدولة. وعندئذ يسارع إلى صعود الجبل مرة أخرى. فالتصوف والسياسة لا يجتمعان، وإن كانا يتكاملان، وهذا بالمناسبة، نمط راق من أنماط جدلية التظافر بين الدين القويم والسياسة الشرعية.
5 -مؤخرا، وفي سياق سلسلة من المجلات، تستهدف إصدارها "الرابطة المحمدية للعلماء" صدر العدد الأول من: "التأويل".
لن أتوقف عند المحتوى، فهو جزء من إستراتيجية موضوعة للعالم الإسلامي، يؤكدها أن المجلات "الإسلامية" التي تركز على منهجية أو فلسفة التأويل خصوصا، أو القرآن الكريم عموما، أضحت كالهم على القلب، من تكاثر أعدادها اليوم، وذلك في إعادة إنتاج لـ"علم الكلام" (الطوطولوجيا)، ما أحوجنا إلى طي صفحة قديمه الموروث، فما بالك بـ"جديده" المصطنع (؟!) [ إنتاج الكلام من الكلام، بدلا من الواقع (=العلم) وهو في حقيقته، جدل سياسي، يتوسل بالتجريد، اتقاء للاصطدام من جهة، ودرءا لتدخل "العامة" في الشأن السياسي، إذا هم فهموا مقاصد "الكلام"].
أ-مسؤول تحرير "التأويل" ليس سوى "مستشرق" لبناني، بهوى أمريكي – خليجي، انتهت إلى الإفلاس جميع المجلات التي أشرف عليها. قد يكون من المحبذ الاستعانة بالخبرة، عربية كانت أم أجنبية، شرط الخصاص، ومن تم الاحتياج من جهة، والكفاءة والمردودية من جهة ثانية، فهل يتحقق الشرطان في هذه الحالة العينية. أعتقد جازما أن لا، وهذه تشبه أختها التي اقترفتها الوزارة المختصة، عندما استقدمت أمريكيا لإصلاح مناهج ومقررات (دار الحديث الحسنية)، ما يثبت أن صراع الهيئتين (الوزارة والرابطة) هو أقرب إلى التنافس، منه إلى الاختلاف، وأحرى التوازي أو التكامل(؟!)
ب-تصف المجلة نفسها بأنها "علمية ومحكمة"، والحال أننا إذا اقتصرنا فقط على "فاتحتها". سنلاحظ أن:
أ-ليس هنالك ضابط، بل ولا حضور منسجم لعلامات الترقيم وقواعد الكتابة: الفواصل، النقط، الجمل العارضة، بين قوسين، بين مزدوجتين بين معقوفتين، الإحالة، عصر المحال عليه، الرجوع إلى السطر...إلخ.
ب-تمة أخطاء إملائية لم تجد من يقف على تصحيحها، الخلط في كتابة: في ما (بمعنى الذي) بكتابة فيما (الظرفية) (مثل: كل ما وكلما، بينما وبين ما..). وكتابة فعل "نحا" بالألف المقصورة (نحى ص14).
قرينة كل ذلك المؤكدة، هي عدم إثبات مسؤول، أو مسؤولين، عن التصحيح اللغوي والترقيمي، في البيان الذي يحدد المسؤولين عن إدارة المجلة (الجينيريك)، ما يدل على عدم وجوده أصلا، أو عدم أهليته.
للإخبار، فإن للتحكيم هيئة دولية، يوجد مقرها في جنيف، ويفترض في التنصيص على تلك الصفة بالنسبة لأية مجلة أكاديمية، أن يطلب رخصة بذلك من الهيئة الدولية المختصة. وأن يخضع من تم لدفتر تحملاتها، وبعد الاختبار، القابل للمراجعة في كل حين، يسمح للمجلة المعنية أن تثبت الصفة إياها في واجهة غلافها، وإلا فإن الأمر يصبح متصلا بصفة أو صفات أخرى غير "التحكيم".
أخيرا، فإن الملاحظات "الشكلية" أعلاه، هي في حقيقتها فرع عن أخرى أكثر جوهرية وإستراتيجية.
إنني مقتنع بحاجة "الحقل" الديني إلى توقف وإلى مراجعة، من قبل إدارة الدولة، وذلك بعد أن انحرف، بل وانقلب، على أيدي بعض "نخبة" المجتمع، ضدا على معانيه ومقاصده. وهذا ما سبق للغزالي أن قام به، بأمر من الوزير العظيم "نظام الملك" عن طريق كتبه (الاقتصاد في الاعتقاد خاصة) وعن طريق المدرسة النظامية (في بغداد ثم نيسابور) والتي قلدتها وعممتها الدولة المرينية في المغرب لاحقا، موازاة للمسجد، الذي يكون أطر المجتمع أساسا، وذلك منذ تأسيسه تاريخيا.
على إثر مأساة 2003 الإرهابية، ستقرر الإدارة، مضاعفة عنايتها، بل وتدخلها في ما وصفته بـ"إعادة هيكلة الحقل الديني" وهي ما تزال بعد مستمرة، غير أن "يدي ويد القابلة تخرج الجنين أعور" كما يقول المثل المغربي الدارج، ف:
1-مواجهة الدين والتدين المنحرف، عن طريق التنافس معه، والمضاعفة في منسوب إنتاجه وإشاعته... خطأ كبير، ولقد سبق لمصر أن اعتمدته، وبتوجيه من الاستشراق الأمريكي إياه، وذلك بتقدير "تجاري" مغلوط، أن ثمة طلب مجتمعي للتدين (؟!)، تجب الاستجابة إليه، وذلك بكثرة العرض وتنويعه، ومن تم الاستئثار بطالبيه، أو بالأقل توزيعهم والتشويش على اختياراتهم وانتماءاتهم، غير أن التجربة أخفقت، وذلك من حيث أننا نساهم في التضخم السرطاني للتدين بدون دين، وضحاياه يميلون غالبا نحو التطرف والمغالاة. ولا يستطيع فقهاء الإدارة مجاراتهم في ذلك طبعا، فيسقط الضحايا لذلك، أفرادا وجماعات، في أحضان الانحراف و"الشيوخ" المنحرفين، بل والمغرضين غالبا.
2-نتيجة ذلك تعددت مراكز وهيئات ومؤسسات... الدين والتدين (حوالي 20 جهة بالمغرب) الأمر الذي أدى ويؤدي إلى "الفوضى" في الحقل المدني، وهذا بالضبط ما تستهدفه أمريكا، وما كان يفترض في مخطط إعادة هيكلة "الحقل الديني" (=المرحوم العيادي والتوفيق..) درأه وتجاوزه وإنقاذ المغرب منه.
الفرق بين "الفوضى" التي جاء الغزالي لإنقاذ الإسلام والمسلمين منها. ونجح، ونجح تلامذته (ابن تومرت ثم ابن تيمية) في تحقيقه، مقارنة إلى الزمن الراهن، والذي عمد "مصلحوه" إلى اعتماد نفس نهج "التجديد" الغزالي تقريبا. هو التدخل الأجنبي الاستعماري اليوم، وانعدامه في عصر الغزالي. يحتاج تجديد الفكر الديني والممارسات الدينية اليوم إلى أمور أخرى: منطق غير المنطق الأرسطي الموروث، وإستراتيجية في المواجهة تربط بين الانحراف الديني والاستعمار الجديد.
يناير 2015