البنيات الاجتماعية الكبرى، هي أصلا وأساسا وقائع اجتماعية وأحداث تاريخية موضوعية. ولا علاقة لها بالإرادات أو الرغبات، إن العائلة والأسرة والعشيرة والقبيلة والمجتمعان التقليدي ثم المدني ووجود شعب ووطن ودولة... تعتبر تطورات من ذلك القبيل التاريخي، لا الرغبوي أو الإرادي-النفسي. تلك التطورات في جغرافيا ما، قابلة لنكوص ولتقهقرات، هي نفسها تكون نتيجة لأحداث تاريخية. (اليونان القديمة مقارنة إلى تاريخها اللاحق، أو اليمن القبلي اليوم، مقارنة إلى التاريخ العريق لإدارة الدولة فيه).
مغرب مطلع القرن الماضي (20)، في جهاته النائية والهامشية، مقارنة إلى مراكزه الحضرية (الإدارية والتجارية...) لم يكن مؤهلا اقتصادا ومجتمعا وثقافة... للتجاوب مع التحدي الرأسمالي الاستعماري... بوعي وبدوافع "وطنية"، وهذا هو السر الرئيس، لفشل جميع ردود الفعل العسكرية لجهاته وقبائله. انطلاقا من الصحراء (ماء العينين) والأطلس المتوسط ثم الصغير (صغرو) مرورا بالذروة في ثورة الشمال بقيادة الأمير ع. الكريم والقائد الجبلي حريرو، وغيرها كثير وماجد، في مستوى مقاوماته وعظيم تضحياته وروعة عزته وشموخه وكبريائه. لقد باءت جميعها بالهزيمة، لأنها كانت: ردود فعل/ قبلية وجهوية/ متعاقبة دون تنسيق ودون تراكم/ وبدون استراتيجية للفعل وطنية مركزية ديمقراطية وشاملة.
احتاج المغاربة مجتمعا ومخزنا، بجميع جهاتهم وفئاتهم وطبقاتهم، إلى مطالع الثلاثينيات، وبقيادة نخبة جديدة وطنية-مدنية-مثقفة ومناضلة بوسائل سياسية ونقابية وإعلامية وديبلوماسية... مطلعة ومستثمرة بذكاء لتناقضات الإمبريالية. مشكلة لاحقا قوة جذب لإدارة المخزن للتحالف معها، (1944) بديلا عن الاحتماء بالأجنبي (1912) ومن أجل السيادة ولا يتم ذلك بغير الاستقلال عن سيادة الاستعمار. هذا التحالف الوطني الشامل المنطلق من الشعب، لا الجهة أو القبيلة. والمنظم مدنيا (حزبيا ونقابيا و...) ثم عسكريا ... والمستفيد من تحالفات خارجية طارئة (أمريكا ...) هو ما أهل المغرب المعاصر للحصول على استقلاله الأول من الاستعمار التقليدي. ودخوله في معركة تحقيق الاستقلال الثاني عن الاستعمار الجديد وذلك عن طريق استكمال الوحدتين الشعبية والترابية والتحرر والانتقال نحو ديمقراطية جديدة.
لقد تصور ع. الكريم، كما توهمت شبيبة الصحراء في بداياتها (1975)، أنهما يمكن أن ينتهيا إلى الوطنية من خلال القبيلة أو الجهة. انتهى الرهان الأول إلى هزيمة عسكرية وسياسية. وانتهت الثانية إلى الخيانية (الانفصال والتبعية).
مربط الفرس اليوم، وفي شروط الاستعمار المتجددة هو الوطن والوطنية. لا الحداثة أو العلمانية أو حتى الديمقراطية إن لم تكن وطنية ومركزية. كل النزوعات الانعزالية، ما قبل الوطنية (قبلية-جهوية) أو العولمية: الفرانكوفونية والمزوغية (لا المازيغية) ودعاة العامية والمطبعين مع الصهيونية ومروجي خطاب الجهوية "الموسعة" لغويا (العاميات) وثقافيا (الفلكلور) أو "المتقدمة" نحو التفتيت والتجزئة والتقسيم (الفيدرالية) تشتغل موضوعيا في خدمة استراتيجية الاستعمار الجديد.
لقد كان الخطابي قائدا عسكريا فذا وعبقريا، لم يسعفه التاريخ ولا الجغرافيا، فانعكست هزيمته العسكرية على مشروعه السياسي. وأدى عن ذلك وما يزال، للأسف، أثمنة باهظة (؟!)
د. عبد الصمد بلكبير
Share this content: