خارج التاريخ، لا يوجد سوى الغيب (الميتافيزيقا)، إذن الوحدة والثبات والانسجام، بمعنى التطابق.
أما التاريخ فهو أبداً متحول، متطور ومتقلب نتيجة اصطراع مكوناته المتناقضة والمتعارضة... ولكن في وحدة منسجمة وإن كانت غير متطابقة (= وحدة التناقض) لا وجود لجوهر (= ثابت)، ولا لعود أبدي، وإنما فقط حركة أو حركات، تأخذ معها المكونات، معانيها ووظائفها... حسب مواقعها في بنيات دائمة النمو...
في الوعي، نجد لذلك أمثلة لا حصر لعددها، تنتهي فيها فكرة أو مبدأ أو قضية أو أطروحة... إلى خلافها أو حتى إلى نقيضها. وذلك بتغير من تعبر عنه اجتماعياً، من موقع إلى آخر، ومن مصلحة إلى خلافها. يحدث ذلك خاصة، عندما يتعثر اجتماعياً، الاستعاضة عن بنيات بليت، ببدائل لها جديدة ملائمة لشرطها التاريخي المستجد، لا يقتصر ذلك على الأوضاع المادية، اقتصادية كانت أم اجتماعية... بل ويشمل البنى الفكرية والثقافية والمفاهيم الأدلوجية.
ومن ذلك في حالتنا ظاهرة "الملحون" الذي مثل في التاريخ اللغوي - الأدبي المغاربي، رهاناً تقدمياً لإصلاح ثقافي - فكري، مرافق لظواهر أخرى من جنسه، كالزجل والمواليا والكان وكان والسير الشعبية والمنامات والموشح وخيال الظل... وكلها وغيرها، كانت في جدل مع تطورات علمية - تقنية وأخرى اجتماعية وسياسية. لم يقدر لها تحقيق "النهضة" المنشودة، خلاف ما حصل في شمال المتوسط وذلك في شروط الزمن التاريخي الذي كان يحكم شرقه وجنوبه... والعالم.
اضطر العرب لذلك، إلى الاحتماء بالأتراك، دفاعاً منهم عن دينهم؛ وإلى المحافظة على "الفصحى" الموروثة لمقاومة "التتريك"، لقد فشل الرهان على إصلاح لغوي – ثقافي، كان الأدب (ومنه الملحون) من بين أهم أدواته، كما فشل رهان نهضة المجتمع والدولة قبل ذلك بالأحرى.
ومع فجر النهضة في شمال المتوسط. دخل شرقه وجنوبه، في ليل الاحتلالات والتمزقات ثم في شرط الاستعمار المستمر ما يزال وإن بأدوات وأقنعة جديدة ومتجددة.
الرأسمالية المأزومة والمفلسة اليوم، ترتد على برنامجها ومنجزاتها... بالهدم والتوظيف الرجعي. وذلك على مستوى المفاهيم والأفكار، كما على مستوى المؤسسات والعلاقات (الحريات/ الحقوق/ الديمقراطية/ السلام/ البيئة والطبيعة/ العقل/ الكرامة...) وتفرض على توابعها من المجتمعات الضعيفة وإدارات دولها، نفس النكوص والتقهقر، ومن ذلك في حالتنا، تخريب الضمائر وتشويه الهوية وإفساد الدين، وحرب الفصحى... بتشجيع العاميات ولمصلحة سيادة الاستعمار الجديد لغويا وثقافيا تكريسا لسيادته الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية...
وهذا هو ما نحن بصدده مغربيا. محاربة العقل والثقافة والدولة... بالفلكلور واللهجات والفوضى. ومن ذلك، تحويل الملحون إلى فلكلور، والدعاية له إعلاميا و"مدنيا" وتشجيع نشره وتلقيه وكتابته... بالمهرجانات والمنح والجوائز... ومن تم الدعوة إلى إقراره في برامج التعليم، (؟!) تمهيداً وتسويغا لمخطط الإجهاز على الفصيحة (لغة الوحدة والقرآن) وعلى مركزة الدولة، وتسييد العاميات بديلا لها، وهو ما تعنيه الجهوية "المتقدمة". والأنكى، أن يُوكل مخطط تمرير "المؤامرة"، إلى مؤسسة أكاديمية رسمية، يفترض من "علمائها" التنبيه إلى أخطار ذلك على الهوية والوحدة والدولة، ومقاومته (؟!)، فهذا هو ما يبرر قيامها، والميزانية التي تصرف على أجور وتعويضات ومزايا مكوناتها، خاصة من "الأكاديميين" إياهم (؟!)
د. عبد الصمد بلكبير
Share this content: