د.ع. الصمد بلكبير
إضاءات السيد محمد الخصاصي حول علاقة (أوطم) ودورها المبادر في مسألة تحرير الجنوب المغربي والمساهمة في الوحدتين الترابية والشعبية لمغرب الاستقلال، بالغة الأهمية وذلك من عدة نواحي، أهمها الوقائع التي يفصح عن بعضها كتابة لأول مرة. ومن ذلك ما يعتبر الأهم فيها، إخباره المستفيض عن أوليات ظهور المناضل الفقيد الولي مصطفى السيد ومسيرته المستعجِلة نحو "حتفه" وذلك مباشرة قبيل يقظة وعيه "الوطني"، ودرءا من خطر عواقبها، على مخططات من وظفوا نزوعه التحرري والمناوئ للاحتلال، لمصالحهم الإقليمية الضيقة، بل والمنفذة لنفس المخططات الاستعمارية الفرنسية في الأصل، لتوسيع الجزائر "الفرنسية" على حساب منطق وهدف الوحدة المغاربية، المجهض ما يزال من قبل نفس القوى الاستعمارية، وعلى أيدي نفس الأزلام الذين خلفهم على إدارات دويلاتهم القطرية البائسة والمأزومة والتابعة... حكما.
يتحدث الأستاذ عن "تردد" الولي، وعن "خيبات أمله" وعن كثرة اتصالاته داخليا وخارجيا...إلخ بما يوحي بحالة قلق فكري، ومن تم سياسي، كان يعاني منه، وذلك فضلا عن درجة قصوى من الاستعجالية... إلى أن انتهى إلى نوع من التوزع، بله التمزق بين مختلف الجهات والتوجهات التي شغلته وانشغل بها. وهو ما انتهى به إلى إنتاج "مسخ" إيديولوجي وسياسي، مازال يعاني منه "شعبه" المفترض (=القبلي) والحقيقي (=المغربي).
كنت في نفس الفترة التي يتحدث عنها الأستاذ، مسؤولا عن فرع المنظمة (أوطم) بمدينة فاس (1968-1972)، وحيث كان للإخوان المغاربة الصحراويين وجود جامعي بها أيضا، فأسسنا لذلك خلية غير معلنة بها. سباعية التشكيل، وكانت تجتمع بحضور (أوطم) أو بدونه، وهو الغالب، ومنها تخرجت رموز قيادية، سواء لجهة نظرية "الانفصال" أو سياسة التحرير في أفق الوحدة الوطنية المغربية.
ومن خلال جميع ذلك وغيره، يجدر بي التقدم ببعض الملاحظات الإضافية في الموضوع:
1-لقد كان المرحوم، كثير الاتصال بالجميع في الداخل تقريبا، وكان يوحي للجميع أنه معه، فلم يكن لذلك يقتصر في العلاقة على (أوطم) ولا على أحزاب الكتلة وحدها، وكل على حدة، ولا على الداخل المغربي فقط... وهو مؤشر دال وحده، لا على ارتباك أو تردد، بل على استراتيجية مستبطنة، ضمن استراتيجية معلنة ترفع راية "حرب تحرير شعبية" ولكن من أجل ماذا؟ استكمال الوحدة؟ أم الانفصال؟ الوقائع اللاحقة أكدت حقيقة النوايا.. ولذلك فلقد كان تحفظ القوى الوطنية مشروعا حسب هذا الفهم (؟!) ولا خطأ فيه كما يشاع ويكتب، وكما رجح المؤلف(؟!)
من ذلك مثلا، أن "الكراس الأزرق"، وهو أول تقرير شامل في الموضوع. والذي سيصبح الميثاق المؤسس للحركة، إن الذي ساهم في تحريره هو منظمة 23 مارس، وذلك في شخص مسؤولها عن ملف الصحراء،أما الذي قام بطبعه "كراسا" فهو الزعيم المرحوم علي يعته. وكل طرفلذلك، كان يتصور أنه المبادر وحده(؟!)
القضايا الوطنية تتطلب الوحدة، وخارجها تزدهر الأوهام وتشجع الانتهازية السياسية والتسيب ومن تم الانحراف وحتى الخيانة.
2-لم يكن الولي وإخوانه وحدهم المتوهمون وهم الانفصال، لقد كان اليسار المغربي الجديد أيضا يتحدث نغمة قريبة، وتسمح لذلك بالغموض، ومن تم بإمكان الانحراف، كما وقع له فعلا، وكان السبب الرئيس لهامشيته، ولاحقا لتبعيات بعضه(؟!)
فحيث كان المخطط الأمريكي، المفترض أنه يكمن خلف التدابير الإسبانية لفصل الصحراء عن الوطن الأم، وذلك في سياق تأسيس كيان لدويلة "مستقلة" كما صنعت في الخليج وفي الشام (=لبنان)... تناكِف النفوذ الفرنسي والأوربي عموما، في المنطقة. فلقد كان رد الفعل اليساري في البداية هو الاشتغال في نفس الاتجاه وإنما بشكل معاكس، بحيث تكون الصحراء بؤرة ثورية (لا دولة) لتحرير المنطقة جميعا (=شمال غرب إفريقيا) من الاستعمارين معا الأمريكي والأوربي. هذه في الأصل هي الأطروحة التي تشبع بها الفقيد في علاقته مع اليسار الجديد حينئذ، والتي برر بها لسياسته المستقلة، تدبيرا، عن الوطن وحركته الوطنية والتي أضحت ديمقراطية ثم اشتراكية كذلك.
وهو أيضا، ما يفسر كون الطرفين معا، الصحراويون من جهة وبعض اليسار الجديد المغربي من جهة أخرى، أنهما انتهيا في الممارسة العملية، إلى انتهاج استراتيجية مخالفة لمنطلقهما نفسه، وأضحى الحديث عن تقرير المصير، لا للمنطقة ككل، كما كان المنطلق، وإنما للصحراء الغربية وحدها (دون الشرقية مثلا؟ !) أي عمليا السقوط المدوي في استراتيجية الاستعمار الإسباني (=الأمريكي في الحقيقة).
3-لقد كان اختيار التحرير العسكري والسياسي المزدوج للمغرب، من الاستعمار ومن الاستبداد، بشكل مندمج ومتزامن، سابقا وفاشلا بعيد مغرب الاستقلال (1957-1959) فلم يفلح سوى في دعم نسبي للثورة الجزائرية، والإسراع باسترجاع مدينة إيفني ومنطقة طرفاية. غير أنه لم ييأس، ذلك لأن استمراره في صيغة اليسار الاتحادي (الجناح العسكري) أحياه مجددا، وكان المفترض والمنتظر، لو كانت للولي وإخوانه، استراتيجية تحرير الوطن ككل، أن يلتقيا، ولكنه لم يحصل(؟!) وحسب علمي فلقد كان محتوى الحوار بين الفقيه البصري ومصطفى السيد، والتي تطرق لها السيد الاخصاصي، هو هذا بالضبط، وكونهما لم يتفقا، فهو دليل على أن النزعة الانفصالية عند الأخوة "الصحراويين" انطلقت معهم منذ التأسيس، وليست حدثا طارئا في خضم العلاقات، وفي سياق البحث عن التحالفات(؟!)
4-مشكلة، بالتالي مأساة، المناضل الفقيد مصطفى السيد وبقية إخوانه، هي نفسها مشكلات الكثير من المثقفين المناضلين المغاربة وغيرهم من أمثالهم، عربيا وإسلاميا، ذلكم هي افتقارهم إلى الوعي التاريخي، إذن الجغرافي أيضا بالنتيجة. وسقوطهم في أنحاء مختلفة من الوعي الإيديولوجي المغلوط أو المقلوب
أو المنحرف أو المضبب أو حتى الفاسد... إلخ.
إن جدارة المثقف وأهليته للقيادة، تكمن في مدى مطابقة وعيه للواقع ولمتطلباته، لا في معارفه، ولا بالأحرى حماسته واستعداده للتضحية.
في ظل الاستعمار وسيادة شروطه وقوانينه، تستحيل مواجهته، خارج، وبالأحرى ضدا وعلى حساب الوعي الوطني. الاستعمار يفكك الكيانات الوطنية، يزرع التفرقة الجهوية، يضخم من التناقضات الثانوية (القبلية والعشائرية...)، يصطنع الهويات القاتلة (الدينية واللغوية...) ويحكم خلف الأقنعة من خلال الاستبداد والفسادوالفوضى... وكل مجابهة له من خلال ردود فعل على مثل تلك الجبهات، يخدم موضوعيا استراتيجية استغلاله واستمراره وتجدده...
وحدها المقاومة الرسمية لإدارة الدولة المغربية كانت وطنية عند البدايات الأولى للغزو الاستعماري، في إسلي أولا (1744) ثم في تطوان ثانيا (1880)، غير أنها انتهت إلى هزيمة منكرة، لا بسبب من وطنيتها، وإنما لاعتبارات اجتماعية-ثقافية، ميزان القوة بين الرأسمالية الصاعدة في أوربا وبقايا النظام الإقطاع-القبلي في بلادنا.
بقية ردود الفعل المقاومة للاستعمار القديم بالمغارب، لم تكن كذلك، لقد كانت بالأحرى دينية-جهوية (ماء العينين) أو قبلية (الأطلس المتوسط والصغير حتى العام 1934) وأرقاها كانت قبلية – جهوية في الشمال بقيادة البطل محمد بن ع. الكريم الخطابي. لا وطنيتها من حيث شروطها الاجتماعية وبرامجها السياسية، هو سر إخفاقاتها (لا نوايا ومقاصد زعمائها بالأحرى).
5-الدولة المركزية والديمقراطية الحديثة، تقوم أساسا على مفهوم السيادة الشعبية، وذلك باعتباره المصدر الشرعي الوحيد لجميع السلطات. غير أن الشعب، هو تصور ومفهوم عن الواقع وحدث في المجتمع والتاريخ، وليس "شيئا" متحصلا بذاته أو معطى "طبيعيا" (=تلقائيا). ولا بالأحرى ادعاء أو رغبة من قبل فرد
أو جماعة، كيفما كان حجمها العددي، هذا مع أن الحجم مهم في الحدث التاريخي لتأسيس الشعوب الحديثة والمعاصرة.
المجتمعات التقليدية لم تكن شعوبا بحال، لقد كانت الدول الإمبراطورية تقوم على أسس دينية-ملية، وتقوم مشروعيتها على أساس ضمان أمن التجارة: أسواقها وطرقها وقوانينها. أما حياتها اليومية، خارج العاصمة، فتنظمها بنيات عمودية (قبلية وجهوية أساسا) أو طائفية دينية في الهوامش غالبا.
الدولة الوطنية الحديثة، القائمة على المواطنة والمجتمع المدني وسيادة القانون، والسيادة على حدود جغرافية، وتوفر مشتركات تاريخية لا حصر لعددها ولأنواعها: دينية-ثقافية-لغوية-أسرية...إلخ. هي اليوم إما متشكلة، أو قيد التشكل بمستويات وبدرجات، غير أن الاستعمار يعرقل ذلك بشتى الطرق والأساليب، ومنها خاصة منع وحداتها الكبرى (القومية). كما هو حاصل بالنسبة للأمة العربية، وهو معنى كل هذه الحروب بأنواعها، ضدا على أقطارها ودولها، خاصة منها الممانِعة، وأحرى المقاومة.
وهذا معنى الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وبعض مشايخ الخليج. وبعض الكيانات "العربية" المصطنعة في المغرب والمشرق.
لا يمكن لقبيلة أو قبائل أن تشكل شعبا، ولا بالأحرى لجماعة دينية كيفما كانت طبيعة وخصوصية تاريخها المشترك، وأيضا فإن المشترك اللغوي لا يشكل وحده دعامة لقيام شعب من الشعوب، ونفس الأمر بالنسبة للخصوصيات الجغرافية...إلخ. هذه الخصوصيات (لا الهويات) مشروعة، ويجب أن تجد لها تعبيرا، وإنما في إطار وحدات وطنية وقومية أعلى، تشكل بها ومعها، شعبا ودولة قابلة للحياة وموفرة لشروط السيادة، في عالم لا مكان فيه للضعفاء إلا في بطون المستكبرين (=الاستعمار). وتلكم كانت رؤية الشهيد عمر، والذي اغتيل بسبب منها أيضا، لقد قال: إن للصحراء المغربية خصوصيات يجب مراعاتها سياسيا وإداريا واقتصاديا وثقافيا...إلخ (=جهوية، ولكنها وطنية).
6-لقد كان للرأسمالية الوطنية الأمريكية، المتطلعة في شروطها الخاصة، للاستقلال وللوحدة وللديمقراطية... وبالتالي السيادة، فضل التأسيس لمفهوم "تقرير مصير الشعوب المستعمرة" ومن تم رفعه كشعار يضفي الشرعية على نضالاتها من أجل التحرر من الاستعمار القديم. والذي كانت هي نفسها تعاني منه من قبل أوربا.
منذ ذلك الوقت، وخلال مسيرة طويلة من كفاح الشعوب، بمن فيها أمريكا نفسها، لم يفهم ذلك الحق إلا باعتباره سبيلا للاستقلال، ولكن أيضا وبالأحرى في شروط الوحدة من جهة والديمقراطية من جهة ثانية. وهذا ما حققته القيادة الأمريكية نفسها على أيدي رموزها التاريخيين الأشهر والمؤسسين: جورج واشنطن ودستوره، ولنكولن وحربه التوحيدية ضدا على الانفصال الرجعي في الجنوب الأمريكي وذلك في حرب مجيدة (1860-1865) بلغ عدد شهداء الوحدة فيها ما لا يقل عن 750ألفا و412 ألفا من الجرحى عسكريا، أما الضحايا من المدنيين، خاصة منهم الملونين والخراب والدمار.. فلم يحصه أحد من "العلماء" إياهم، وهو ما يفسر كذلك لاحقا خطاب الرئيس الأمريكي روزفلت للملك محمد 5 خلال جلسة الشاي في مؤتمر أنفا (يناير 1943) معبرا عن "تفهمه للمطالب المشروعة للشعب المغربي في الاستقلال وفي الديمقراطية" والتي أطلقت لاحقا ومباشرة، عريضة (11 يناير 1944) الشهيرة، والتي أسست لتحالف القصر والشعب، وأطلقت حركة النضال التي لم تتوقف إلا مع نهاية الاستعمار القديم، الأوربي. وفتحت الأبواب لتجديد الاستعمار على يد أمريكا نفسها أولا ثم أوربا في أعقابها حتى اليوم، وهو ما يفسر انقلاب المفهوم (=تقرير المصير) إلى نقيضه، وانحرافه الاستراتيجي لخدمة أهداف تفكيك وتمزيق الكيانات الوطنية والقومية... من قبل الاستعمار الجديد كما حصل حتى الآن في السودان وأندونسيا ويوغوسلافيا، ويحصل اليوم في غير ما قطر عربي يعاني من تلك المخططات الدموية بل والهمجية في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، والبقية أيضا مستهدفة في الآماد المنظورة خاصة منها اليوم المملكتان السعوديةوالمغربية، وذلك خاصة بالنسبة لنا عن طريق مخطط "الجهوية الموسعة" أو المتقدمة نحو التقسيم بالفدرلة أو حتى الانفصال، خاصة من قبل من يتحدث منهم عن "التنوع الثقافي" بديلا عن مفهوم "التعدد" الذي يتحدث عنه الدستور، ويركز فيه على الجغرافيا (الجهات) لا على التاريخ الوطني والتركيب الاجتماعي (؟!).
إن الذي يستهدف فصل الصحراء عن وطنها، يوفر الشروط، ويستخدم نفس المبررات، التي يمكن توظيفها لفصل أجزاء أخرى من التراب الوطني، وعندئذ ستتضح الصورة الحقيقية لأهداف الاستعمار، ألا وهي تفكيك الكيان الوطني إلى "دويلات" بدعاوى وأشكال سياسية مختلفة ومتنوعة اسما لا مسمى، وبمبررات تتراوح حسب الظروف، بين الجغرافية أو اللغة أو الجهة أو "الثقافة" (=الفلكلور) (؟!)...إلخ "كلمة حق يراد بها أباطيل".
تلكم هي بعض مآسي "النخبة"، لا في جنوبنا الصحراوي وحسب، بل وفي عموم الوطن كذلك، بل وعلى الصعيد العالمي أيضا. قضايا كثيرة نبيلة في أصل تأسيسها وفي محتواها النظري، غير أنها إجرامية في توظيفاتها السياسية، ومن ذلك: الحرية (بدل التحرر) وحقوق الإنسان (بدل حقوق الشعوب والأوطان) والديمقراطية، والشفافية...إلخ. ويقوم على كِبر، ذلك أجهزة بحث "علمي" مخابراتي. وأخرى إعلامية ضخمة، وجمعيات "مدنية" ومئات القنوات والإذاعات الموجهة للعرب وحدهم، وصحافة ممولة من الخارج، وجيش من مرتزقة نشر الإيديولوجيا الاستعمارية بلبوسات جامعية، صحافية، مدنية، فنية وأدبية...إلخ.
عطب الضحية القتيل "الولي" وأمثاله كثير، يكمن هنا بالذات، قصور وعيه، بل وانحرافه الإيديولوجي، والذي صور له القبيلة "شعبا" وجغرافية الصحراء "وطنا"، ولم يفهم بأن المغرب نفسه وبكل ممكناته البشرية والاقتصادية والثقافية... هو نفسه مجتزأ عن امتداداته، سواء المغاربية والعربية أو الإفريقية. ولم لا، الملية الإسلامية كذلك، وإلا فما الذي يوحد عشرات القوميات في الهند والصين مثلا (؟!)
نكاد اليوم نكون الأمة الوحيدة التي لم تتأسس بعد كدولة قومية مركزية وديمقراطية، وتحتوي على شعوب وجهات وأقليات... تُمنع من التواصل التلقائي في ما بينها، بل وهي مهددة في كل حين بمزيد التفتيت والتفكيك. وما الدعوة الانفصالية في الجنوب المغربي، سوى جزء لا يتجزأ من ذات المخطط الاستعماري الجديد. والذي يشتغل لصالحه العديد ممن مصالحهم تحرضهم على ذلك، ولكن أيضا، من المغفلين، بمن فيهم الكثير من المناضلين، سواء باسم "تقرير المصير" المفترى عليه، أو مختلف الدعاوى "الحقوقية" المزيفة، مادامت على حساب وحدة الكيان الوطني وسيادة الدولة.
إنه لا حدود لأهمية الوعي في التاريخ، وهذه بالضبط جدارة المثقفين إيجابا، وخطورتهم سلبا عندما يفتقدونه، فتكون المآسي كما نعاينها لدى إخواننا في مخيمات العار بتندوف، وكما نعاني منها هنا، ولدى الأشقاء المغاربيين، وذلك عندما توجه البنادق لقتال انتحاري لبعضنا البعض (الشعوب فقط) عوض توجيهها نحو الأعداء الحقيقيين: الاستعمار الجديد، وأخطر أدواته الصهيونية وكيانها في فلسطين المحتلة، وامتداداتها في جميع إدارات ومجتمعات الأقطار العربية، بما في ذلك خاصة، تعليمها وإعلامها وفنونها... بل وأكاد أقول أيضا أسرها ومساجدها (؟!)
البشرية المعاصرة تقتحم تدريجيا عوالم ما بعد الدولة المركزية القومية، منفتحة على أسواق أوسع وبنيات سياسية قارية، توحدها المصالح المشتركة، والكثير من الثقافة العقلانية.. وبعضنا مازال بعد ينتحر في وبـ"الهويات القاتلة" قبلية، قولكلورية، لغوية، مذهبية، طائفية...إلخ.
7-وعي المواطنة أو الوعي بالمواطنة، واستراتيجية الوطنية، التي فرضتهما شروط الحداثة والعصر الحديث، ليسا في الأصل وأساسا قضايا ثقافية ووعي وسياسة، بل بنيات اقتصادية-اجتماعية، تجعل من الأفراد والجماعات في وضع لا يجدون فيه مصالحهم ضمن الأطر التقليدية الضيقة والتي كانت سائدة قبل العصر الصناعي-المدني الحديث والمعاصر، مثل الأسرة والعشيرة والقبيلة والطائفة
أو الزاوية أو الثقافة (بمعنى الفولكلور)...إلخ. هذه لا تموت أو تزول، ولكنها تغير من مواقعها وتغير من وظائفها، بحيث تصبح ثانوية، تكميلية أو حتى هامشية، وقد يضمحل بعضها نهائيا، لعدم استمرار الحاجة إليه (القبيلة أو الزاوية مثلا).
وأيضا، فإن ذلك لا يمس جميع مكونات المجتمع، في نفس الوقت وبنفس الدرجة. إن ساكنة المدن مثلا، وفي المقدمة منها طبقتها الوسطى والطبقة العاملة وموظفو الدولة... تكون أكثر مواطنية ووطنية، مقارنة إلى هوامشها من جهة، وإلى البنيات الفلاحية أو الرعوية الأقل اتصالا وتبادلا مع السوق الوطنية، والأكثر من ذلك القبائل الرحل (10% في المغرب) وهم في جميع أنحاء العالم اليوم، أكثر الجماعات المستعدة للتقاطع مع العدمية الوطنية، أي مع العولمة، التي تعنى بالنسبة لضحاياها في الجنوب، إيديولوجيا الفوضى والإرهاب وحتى التوحش.
المهمشون اقتصاديا واجتماعيا وجغرافيا حتى، يعانون فعلا من حالات "تردد" كجماعات، وليس وحسب كأفراد، بين المصالح المباشرة التي تربطهم إلى مجتمعاتهم التقليدية الصغيرة، ولكنها الحاضنة والحامية والمنقذة، وبين ما يستفيدونه من الدولة المركزية على ضآلته، مثل: الطرق والتعليم والصحة والأمن...إلخ. وهذا مصدر "الارتباك" الذي لاحظه الأستاذ على شخصية "الولي" في المرحلة الطلابية.
الوعي التقليدي (إقطاعي، قبلي، طائفي فولكلوري...) يطابق نفسه، منغلق، الانفتاح يفجره، يجعله بدون معنى ودون مبرر للوجود، هو لا أفق له، إلا أن يعيد إنتاج ذاته، وذلك بالارتداد عنها في كل حين، أو توظيفه من قبل أعدائه، ضدا على وجوده نفسه (=الانتحار، كما هو حال الإرهاب والتوحش؟). والحال أن التغيير والتجديد لا يأتيه سوى من خارجه، فيحسم تردده وينحاز، وذلك في إحدى حالات ثلاث:
1-من قبل إدارة الدولة والمجتمع، وذلك عن طريق الدمج بالوسائل المعروفة خاصة منها التعليم والتوطين، وذلك بتشييد صناعات وسكن وتعليم وخدمات وتوظيف (في الجندية خاصة).
2-أو من قبل الخارج الاستعماري المغرض، وذلك ما حدث في نمط الاستعمار التقليدي مع شيوخ الكثير من القبائل والزوايا... ضدا على النظام وعلى الإدارة المركزية للدولة (=المخزن) وهو ما يمارس اليوم كذلك، سواء في الصحراء، أو في بقية الأقطار العربية جميعها تقريبا.
3-أو بالوعي السياسي المطابق أو المقارب للعلم وللتاريخ وللجغرافيا ولمصالح الناس الاستراتيجية والسياسية (=العلم المكثف لجميع العلوم المجاورة لها أو المحيطة بها). وذلك لا يتم بالنسبة للجماعات، سوى عن طريق الأحزاب أساسا، وهو ما قامت به الحركة الوطنية زمن الاستعمار القديم. ولم يجد بعد في زمن الاستعمار الجديد أحزابا أو حتى جمعيات مدنية تحمله نخبها إلى شعوبها.
(وبالطبع فإن المجهود التثقيفي الفردي قد يؤدي نفس الأكل، إذا هو توفرت له الجدية والمسؤولية والتفرغ، كما كان الحال لدى المنورين في الغرب وبعض المثقفين العرب المحدثين والمعاصرين، ولعل آخر نماذجهم في راهننا هو الأستاذ العروي).
الوعي السياسي المتدين قد يعالج المسألة مؤقتا، ذلك لأنه يتجاوز الوعي التقليدي القبلي... وهذا بعض سر نجاحه اليوم في الاستقطاب، وفي تجاوب المجتمع معه (الشباب والنساء خاصة) غير أن عطبه يكمن في عولميته، أي لا وطنيته، ما يجعله سهل السقوط في خدمة استراتيجية العولمة الرأسمالية، والتي أضحت اليوم متوحشة، ولذلك فإن جوهر الإصلاح الديني المطلوب هو توطينه، بمعنى تنزيله جغرافيا، لمقاربة شروط مجتمعاته وشعوبه العينية، وهذه قضية أخرى.
* * *
لم تكن مشكلة "الولي" وأمثاله حتى اليوم، هي الجهل أو عدم المعرفة (وهذه قد تكون حاصلة فعلا) بل في وعيه التقليدي-القبلي، وعيه غير المطابق، ولا المقارب، لزمن العالم إلا من خلال مدخل استعماري (=الانفصال) وتلكم مشكلته وتلكم مصدر مأساته وعواقبها المستمرة ما تزال. على قبائل الصحراء، كما على الشعب المغربي والمغاربي، وعلى إدارات دوله.
تعقيب
د.ع. الصمد بلكبير
إضاءات السيد محمد الخصاصي حول علاقة (أوطم) ودورها المبادر في مسألة تحرير الجنوب المغربي والمساهمة في الوحدتين الترابية والشعبية لمغرب الاستقلال، بالغة الأهمية وذلك من عدة نواحي، أهمها الوقائع التي يفصح عن بعضها كتابة لأول مرة. ومن ذلك ما يعتبر الأهم فيها، إخباره المستفيض عن أوليات ظهور المناضل الفقيد الولي مصطفى السيد ومسيرته المستعجِلة نحو "حتفه" وذلك مباشرة قبيل يقظة وعيه "الوطني"، ودرءا من خطر عواقبها، على مخططات من وظفوا نزوعه التحرري والمناوئ للاحتلال، لمصالحهم الإقليمية الضيقة، بل والمنفذة لنفس المخططات الاستعمارية الفرنسية في الأصل، لتوسيع الجزائر "الفرنسية" على حساب منطق وهدف الوحدة المغاربية، المجهض ما يزال من قبل نفس القوى الاستعمارية، وعلى أيدي نفس الأزلام الذين خلفهم على إدارات دويلاتهم القطرية البائسة والمأزومة والتابعة... حكما.
يتحدث الأستاذ عن "تردد" الولي، وعن "خيبات أمله" وعن كثرة اتصالاته داخليا وخارجيا...إلخ بما يوحي بحالة قلق فكري، ومن تم سياسي، كان يعاني منه، وذلك فضلا عن درجة قصوى من الاستعجالية... إلى أن انتهى إلى نوع من التوزع، بله التمزق بين مختلف الجهات والتوجهات التي شغلته وانشغل بها. وهو ما انتهى به إلى إنتاج "مسخ" إيديولوجي وسياسي، مازال يعاني منه "شعبه" المفترض (=القبلي) والحقيقي (=المغربي).
كنت في نفس الفترة التي يتحدث عنها الأستاذ، مسؤولا عن فرع المنظمة (أوطم) بمدينة فاس (1968-1972)، وحيث كان للإخوان المغاربة الصحراويين وجود جامعي بها أيضا، فأسسنا لذلك خلية غير معلنة بها. سباعية التشكيل، وكانت تجتمع بحضور (أوطم) أو بدونه، وهو الغالب، ومنها تخرجت رموز قيادية، سواء لجهة نظرية "الانفصال" أو سياسة التحرير في أفق الوحدة الوطنية المغربية.
ومن خلال جميع ذلك وغيره، يجدر بي التقدم ببعض الملاحظات الإضافية في الموضوع:
1-لقد كان المرحوم، كثير الاتصال بالجميع في الداخل تقريبا، وكان يوحي للجميع أنه معه، فلم يكن لذلك يقتصر في العلاقة على (أوطم) ولا على أحزاب الكتلة وحدها، وكل على حدة، ولا على الداخل المغربي فقط... وهو مؤشر دال وحده، لا على ارتباك أو تردد، بل على استراتيجية مستبطنة، ضمن استراتيجية معلنة ترفع راية "حرب تحرير شعبية" ولكن من أجل ماذا؟ استكمال الوحدة؟ أم الانفصال؟ الوقائع اللاحقة أكدت حقيقة النوايا.. ولذلك فلقد كان تحفظ القوى الوطنية مشروعا حسب هذا الفهم (؟!) ولا خطأ فيه كما يشاع ويكتب، وكما رجح المؤلف(؟!)
من ذلك مثلا، أن "الكراس الأزرق"، وهو أول تقرير شامل في الموضوع. والذي سيصبح الميثاق المؤسس للحركة، إن الذي ساهم في تحريره هو منظمة 23 مارس، وذلك في شخص مسؤولها عن ملف الصحراء، أما الذي قام بطبعه "كراسا" فهو الزعيم المرحوم علي يعته. وكل طرف لذلك، كان يتصور أنه المبادر وحده(؟!)
القضايا الوطنية تتطلب الوحدة، وخارجها تزدهر الأوهام وتشجع الانتهازية السياسية والتسيب ومن تم الانحراف وحتى الخيانة.
2-لم يكن الولي وإخوانه وحدهم المتوهمون وهم الانفصال، لقد كان اليسار المغربي الجديد أيضا يتحدث نغمة قريبة، وتسمح لذلك بالغموض، ومن تم بإمكان الانحراف، كما وقع له فعلا، وكان السبب الرئيس لهامشيته، ولاحقا لتبعيات بعضه(؟!)
فحيث كان المخطط الأمريكي، المفترض أنه يكمن خلف التدابير الإسبانية لفصل الصحراء عن الوطن الأم، وذلك في سياق تأسيس كيان لدويلة "مستقلة" كما صنعت في الخليج وفي الشام (=لبنان)... تناكِف النفوذ الفرنسي والأوربي عموما، في المنطقة. فلقد كان رد الفعل اليساري في البداية هو الاشتغال في نفس الاتجاه وإنما بشكل معاكس، بحيث تكون الصحراء بؤرة ثورية (لا دولة) لتحرير المنطقة جميعا (=شمال غرب إفريقيا) من الاستعمارين معا الأمريكي والأوربي. هذه في الأصل هي الأطروحة التي تشبع بها الفقيد في علاقته مع اليسار الجديد حينئذ، والتي برر بها لسياسته المستقلة، تدبيرا، عن الوطن وحركته الوطنية والتي أضحت ديمقراطية ثم اشتراكية كذلك.
وهو أيضا، ما يفسر كون الطرفين معا، الصحراويون من جهة وبعض اليسار الجديد المغربي من جهة أخرى، أنهما انتهيا في الممارسة العملية، إلى انتهاج استراتيجية مخالفة لمنطلقهما نفسه، وأضحى الحديث عن تقرير المصير، لا للمنطقة ككل، كما كان المنطلق، وإنما للصحراء الغربية وحدها (دون الشرقية مثلا؟ !) أي عمليا السقوط المدوي في استراتيجية الاستعمار الإسباني (=الأمريكي في الحقيقة).
3-لقد كان اختيار التحرير العسكري والسياسي المزدوج للمغرب، من الاستعمار ومن الاستبداد، بشكل مندمج ومتزامن، سابقا وفاشلا بعيد مغرب الاستقلال (1957-1959) فلم يفلح سوى في دعم نسبي للثورة الجزائرية، والإسراع باسترجاع مدينة إيفني ومنطقة طرفاية. غير أنه لم ييأس، ذلك لأن استمراره في صيغة اليسار الاتحادي (الجناح العسكري) أحياه مجددا، وكان المفترض والمنتظر، لو كانت للولي وإخوانه، استراتيجية تحرير الوطن ككل، أن يلتقيا، ولكنه لم يحصل(؟!) وحسب علمي فلقد كان محتوى الحوار بين الفقيه البصري ومصطفى السيد، والتي تطرق لها السيد الاخصاصي، هو هذا بالضبط، وكونهما لم يتفقا، فهو دليل على أن النزعة الانفصالية عند الأخوة "الصحراويين" انطلقت معهم منذ التأسيس، وليست حدثا طارئا في خضم العلاقات، وفي سياق البحث عن التحالفات(؟!)
4-مشكلة، بالتالي مأساة، المناضل الفقيد مصطفى السيد وبقية إخوانه، هي نفسها مشكلات الكثير من المثقفين المناضلين المغاربة وغيرهم من أمثالهم، عربيا وإسلاميا، ذلكم هي افتقارهم إلى الوعي التاريخي، إذن الجغرافي أيضا بالنتيجة. وسقوطهم في أنحاء مختلفة من الوعي الإيديولوجي المغلوط أو المقلوب
أو المنحرف أو المضبب أو حتى الفاسد... إلخ.
إن جدارة المثقف وأهليته للقيادة، تكمن في مدى مطابقة وعيه للواقع ولمتطلباته، لا في معارفه، ولا بالأحرى حماسته واستعداده للتضحية.
في ظل الاستعمار وسيادة شروطه وقوانينه، تستحيل مواجهته، خارج، وبالأحرى ضدا وعلى حساب الوعي الوطني. الاستعمار يفكك الكيانات الوطنية، يزرع التفرقة الجهوية، يضخم من التناقضات الثانوية (القبلية والعشائرية...)، يصطنع الهويات القاتلة (الدينية واللغوية...) ويحكم خلف الأقنعة من خلال الاستبداد والفساد والفوضى... وكل مجابهة له من خلال ردود فعل على مثل تلك الجبهات، يخدم موضوعيا استراتيجية استغلاله واستمراره وتجدده...
وحدها المقاومة الرسمية لإدارة الدولة المغربية كانت وطنية عند البدايات الأولى للغزو الاستعماري، في إسلي أولا (1744) ثم في تطوان ثانيا (1880)، غير أنها انتهت إلى هزيمة منكرة، لا بسبب من وطنيتها، وإنما لاعتبارات اجتماعية-ثقافية، ميزان القوة بين الرأسمالية الصاعدة في أوربا وبقايا النظام الإقطاع-القبلي في بلادنا.
بقية ردود الفعل المقاومة للاستعمار القديم بالمغارب، لم تكن كذلك، لقد كانت بالأحرى دينية-جهوية (ماء العينين) أو قبلية (الأطلس المتوسط والصغير حتى العام 1934) وأرقاها كانت قبلية – جهوية في الشمال بقيادة البطل محمد بن ع. الكريم الخطابي. لا وطنيتها من حيث شروطها الاجتماعية وبرامجها السياسية، هو سر إخفاقاتها (لا نوايا ومقاصد زعمائها بالأحرى).
5-الدولة المركزية والديمقراطية الحديثة، تقوم أساسا على مفهوم السيادة الشعبية، وذلك باعتباره المصدر الشرعي الوحيد لجميع السلطات. غير أن الشعب، هو تصور ومفهوم عن الواقع وحدث في المجتمع والتاريخ، وليس "شيئا" متحصلا بذاته أو معطى "طبيعيا" (=تلقائيا). ولا بالأحرى ادعاء أو رغبة من قبل فرد
أو جماعة، كيفما كان حجمها العددي، هذا مع أن الحجم مهم في الحدث التاريخي لتأسيس الشعوب الحديثة والمعاصرة.
المجتمعات التقليدية لم تكن شعوبا بحال، لقد كانت الدول الإمبراطورية تقوم على أسس دينية-ملية، وتقوم مشروعيتها على أساس ضمان أمن التجارة: أسواقها وطرقها وقوانينها. أما حياتها اليومية، خارج العاصمة، فتنظمها بنيات عمودية (قبلية وجهوية أساسا) أو طائفية دينية في الهوامش غالبا.
الدولة الوطنية الحديثة، القائمة على المواطنة والمجتمع المدني وسيادة القانون، والسيادة على حدود جغرافية، وتوفر مشتركات تاريخية لا حصر لعددها ولأنواعها: دينية-ثقافية-لغوية-أسرية...إلخ. هي اليوم إما متشكلة، أو قيد التشكل بمستويات وبدرجات، غير أن الاستعمار يعرقل ذلك بشتى الطرق والأساليب، ومنها خاصة منع وحداتها الكبرى (القومية). كما هو حاصل بالنسبة للأمة العربية، وهو معنى كل هذه الحروب بأنواعها، ضدا على أقطارها ودولها، خاصة منها الممانِعة، وأحرى المقاومة.
وهذا معنى الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وبعض مشايخ الخليج. وبعض الكيانات "العربية" المصطنعة في المغرب والمشرق.
لا يمكن لقبيلة أو قبائل أن تشكل شعبا، ولا بالأحرى لجماعة دينية كيفما كانت طبيعة وخصوصية تاريخها المشترك، وأيضا فإن المشترك اللغوي لا يشكل وحده دعامة لقيام شعب من الشعوب، ونفس الأمر بالنسبة للخصوصيات الجغرافية...إلخ. هذه الخصوصيات (لا الهويات) مشروعة، ويجب أن تجد لها تعبيرا، وإنما في إطار وحدات وطنية وقومية أعلى، تشكل بها ومعها، شعبا ودولة قابلة للحياة وموفرة لشروط السيادة، في عالم لا مكان فيه للضعفاء إلا في بطون المستكبرين (=الاستعمار). وتلكم كانت رؤية الشهيد عمر، والذي اغتيل بسبب منها أيضا، لقد قال: إن للصحراء المغربية خصوصيات يجب مراعاتها سياسيا وإداريا واقتصاديا وثقافيا...إلخ (=جهوية، ولكنها وطنية).
6-لقد كان للرأسمالية الوطنية الأمريكية، المتطلعة في شروطها الخاصة، للاستقلال وللوحدة وللديمقراطية... وبالتالي السيادة، فضل التأسيس لمفهوم "تقرير مصير الشعوب المستعمرة" ومن تم رفعه كشعار يضفي الشرعية على نضالاتها من أجل التحرر من الاستعمار القديم. والذي كانت هي نفسها تعاني منه من قبل أوربا.
منذ ذلك الوقت، وخلال مسيرة طويلة من كفاح الشعوب، بمن فيها أمريكا نفسها، لم يفهم ذلك الحق إلا باعتباره سبيلا للاستقلال، ولكن أيضا وبالأحرى في شروط الوحدة من جهة والديمقراطية من جهة ثانية. وهذا ما حققته القيادة الأمريكية نفسها على أيدي رموزها التاريخيين الأشهر والمؤسسين: جورج واشنطن ودستوره، ولنكولن وحربه التوحيدية ضدا على الانفصال الرجعي في الجنوب الأمريكي وذلك في حرب مجيدة (1860-1865) بلغ عدد شهداء الوحدة فيها ما لا يقل عن 750ألفا و412 ألفا من الجرحى عسكريا، أما الضحايا من المدنيين، خاصة منهم الملونين والخراب والدمار.. فلم يحصه أحد من "العلماء" إياهم، وهو ما يفسر كذلك لاحقا خطاب الرئيس الأمريكي روزفلت للملك محمد 5 خلال جلسة الشاي في مؤتمر أنفا (يناير 1943) معبرا عن "تفهمه للمطالب المشروعة للشعب المغربي في الاستقلال وفي الديمقراطية" والتي أطلقت لاحقا ومباشرة، عريضة (11 يناير 1944) الشهيرة، والتي أسست لتحالف القصر والشعب، وأطلقت حركة النضال التي لم تتوقف إلا مع نهاية الاستعمار القديم، الأوربي. وفتحت الأبواب لتجديد الاستعمار على يد أمريكا نفسها أولا ثم أوربا في أعقابها حتى اليوم، وهو ما يفسر انقلاب المفهوم (=تقرير المصير) إلى نقيضه، وانحرافه الاستراتيجي لخدمة أهداف تفكيك وتمزيق الكيانات الوطنية والقومية... من قبل الاستعمار الجديد كما حصل حتى الآن في السودان وأندونسيا ويوغوسلافيا، ويحصل اليوم في غير ما قطر عربي يعاني من تلك المخططات الدموية بل والهمجية في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، والبقية أيضا مستهدفة في الآماد المنظورة خاصة منها اليوم المملكتان السعوديةوالمغربية، وذلك خاصة بالنسبة لنا عن طريق مخطط "الجهوية الموسعة" أو المتقدمة نحو التقسيم بالفدرلة أو حتى الانفصال، خاصة من قبل من يتحدث منهم عن "التنوع الثقافي" بديلا عن مفهوم "التعدد" الذي يتحدث عنه الدستور، ويركز فيه على الجغرافيا (الجهات) لا على التاريخ الوطني والتركيب الاجتماعي (؟!).
إن الذي يستهدف فصل الصحراء عن وطنها، يوفر الشروط، ويستخدم نفس المبررات، التي يمكن توظيفها لفصل أجزاء أخرى من التراب الوطني، وعندئذ ستتضح الصورة الحقيقية لأهداف الاستعمار، ألا وهي تفكيك الكيان الوطني إلى "دويلات" بدعاوى وأشكال سياسية مختلفة ومتنوعة اسما لا مسمى، وبمبررات تتراوح حسب الظروف، بين الجغرافية أو اللغة أو الجهة أو "الثقافة" (=الفلكلور) (؟!)...إلخ "كلمة حق يراد بها أباطيل".
تلكم هي بعض مآسي "النخبة"، لا في جنوبنا الصحراوي وحسب، بل وفي عموم الوطن كذلك، بل وعلى الصعيد العالمي أيضا. قضايا كثيرة نبيلة في أصل تأسيسها وفي محتواها النظري، غير أنها إجرامية في توظيفاتها السياسية، ومن ذلك: الحرية (بدل التحرر) وحقوق الإنسان (بدل حقوق الشعوب والأوطان) والديمقراطية، والشفافية...إلخ. ويقوم على كِبر، ذلك أجهزة بحث "علمي" مخابراتي. وأخرى إعلامية ضخمة، وجمعيات "مدنية" ومئات القنوات والإذاعات الموجهة للعرب وحدهم، وصحافة ممولة من الخارج، وجيش من مرتزقة نشر الإيديولوجيا الاستعمارية بلبوسات جامعية، صحافية، مدنية، فنية وأدبية...إلخ.
عطب الضحية القتيل "الولي" وأمثاله كثير، يكمن هنا بالذات، قصور وعيه، بل وانحرافه الإيديولوجي، والذي صور له القبيلة "شعبا" وجغرافية الصحراء "وطنا"، ولم يفهم بأن المغرب نفسه وبكل ممكناته البشرية والاقتصادية والثقافية... هو نفسه مجتزأ عن امتداداته، سواء المغاربية والعربية أو الإفريقية. ولم لا، الملية الإسلامية كذلك، وإلا فما الذي يوحد عشرات القوميات في الهند والصين مثلا (؟!)
نكاد اليوم نكون الأمة الوحيدة التي لم تتأسس بعد كدولة قومية مركزية وديمقراطية، وتحتوي على شعوب وجهات وأقليات... تُمنع من التواصل التلقائي في ما بينها، بل وهي مهددة في كل حين بمزيد التفتيت والتفكيك. وما الدعوة الانفصالية في الجنوب المغربي، سوى جزء لا يتجزأ من ذات المخطط الاستعماري الجديد. والذي يشتغل لصالحه العديد ممن مصالحهم تحرضهم على ذلك، ولكن أيضا، من المغفلين، بمن فيهم الكثير من المناضلين، سواء باسم "تقرير المصير" المفترى عليه، أو مختلف الدعاوى "الحقوقية" المزيفة، مادامت على حساب وحدة الكيان الوطني وسيادة الدولة.
إنه لا حدود لأهمية الوعي في التاريخ، وهذه بالضبط جدارة المثقفين إيجابا، وخطورتهم سلبا عندما يفتقدونه، فتكون المآسي كما نعاينها لدى إخواننا في مخيمات العار بتندوف، وكما نعاني منها هنا، ولدى الأشقاء المغاربيين، وذلك عندما توجه البنادق لقتال انتحاري لبعضنا البعض (الشعوب فقط) عوض توجيهها نحو الأعداء الحقيقيين: الاستعمار الجديد، وأخطر أدواته الصهيونية وكيانها في فلسطين المحتلة، وامتداداتها في جميع إدارات ومجتمعات الأقطار العربية، بما في ذلك خاصة، تعليمها وإعلامها وفنونها... بل وأكاد أقول أيضا أسرها ومساجدها (؟!)
البشرية المعاصرة تقتحم تدريجيا عوالم ما بعد الدولة المركزية القومية، منفتحة على أسواق أوسع وبنيات سياسية قارية، توحدها المصالح المشتركة، والكثير من الثقافة العقلانية.. وبعضنا مازال بعد ينتحر في وبـ"الهويات القاتلة" قبلية، قولكلورية، لغوية، مذهبية، طائفية...إلخ.
7-وعي المواطنة أو الوعي بالمواطنة، واستراتيجية الوطنية، التي فرضتهما شروط الحداثة والعصر الحديث، ليسا في الأصل وأساسا قضايا ثقافية ووعي وسياسة، بل بنيات اقتصادية-اجتماعية، تجعل من الأفراد والجماعات في وضع لا يجدون فيه مصالحهم ضمن الأطر التقليدية الضيقة والتي كانت سائدة قبل العصر الصناعي-المدني الحديث والمعاصر، مثل الأسرة والعشيرة والقبيلة والطائفة
أو الزاوية أو الثقافة (بمعنى الفولكلور)...إلخ. هذه لا تموت أو تزول، ولكنها تغير من مواقعها وتغير من وظائفها، بحيث تصبح ثانوية، تكميلية أو حتى هامشية، وقد يضمحل بعضها نهائيا، لعدم استمرار الحاجة إليه (القبيلة أو الزاوية مثلا).
وأيضا، فإن ذلك لا يمس جميع مكونات المجتمع، في نفس الوقت وبنفس الدرجة. إن ساكنة المدن مثلا، وفي المقدمة منها طبقتها الوسطى والطبقة العاملة وموظفو الدولة... تكون أكثر مواطنية ووطنية، مقارنة إلى هوامشها من جهة، وإلى البنيات الفلاحية أو الرعوية الأقل اتصالا وتبادلا مع السوق الوطنية، والأكثر من ذلك القبائل الرحل (10% في المغرب) وهم في جميع أنحاء العالم اليوم، أكثر الجماعات المستعدة للتقاطع مع العدمية الوطنية، أي مع العولمة، التي تعنى بالنسبة لضحاياها في الجنوب، إيديولوجيا الفوضى والإرهاب وحتى التوحش.
المهمشون اقتصاديا واجتماعيا وجغرافيا حتى، يعانون فعلا من حالات "تردد" كجماعات، وليس وحسب كأفراد، بين المصالح المباشرة التي تربطهم إلى مجتمعاتهم التقليدية الصغيرة، ولكنها الحاضنة والحامية والمنقذة، وبين ما يستفيدونه من الدولة المركزية على ضآلته، مثل: الطرق والتعليم والصحة والأمن...إلخ. وهذا مصدر "الارتباك" الذي لاحظه الأستاذ على شخصية "الولي" في المرحلة الطلابية.
الوعي التقليدي (إقطاعي، قبلي، طائفي فولكلوري...) يطابق نفسه، منغلق، الانفتاح يفجره، يجعله بدون معنى ودون مبرر للوجود، هو لا أفق له، إلا أن يعيد إنتاج ذاته، وذلك بالارتداد عنها في كل حين، أو توظيفه من قبل أعدائه، ضدا على وجوده نفسه (=الانتحار، كما هو حال الإرهاب والتوحش؟). والحال أن التغيير والتجديد لا يأتيه سوى من خارجه، فيحسم تردده وينحاز، وذلك في إحدى حالات ثلاث:
1-من قبل إدارة الدولة والمجتمع، وذلك عن طريق الدمج بالوسائل المعروفة خاصة منها التعليم والتوطين، وذلك بتشييد صناعات وسكن وتعليم وخدمات وتوظيف (في الجندية خاصة).
2-أو من قبل الخارج الاستعماري المغرض، وذلك ما حدث في نمط الاستعمار التقليدي مع شيوخ الكثير من القبائل والزوايا... ضدا على النظام وعلى الإدارة المركزية للدولة (=المخزن) وهو ما يمارس اليوم كذلك، سواء في الصحراء، أو في بقية الأقطار العربية جميعها تقريبا.
3-أو بالوعي السياسي المطابق أو المقارب للعلم وللتاريخ وللجغرافيا ولمصالح الناس الاستراتيجية والسياسية (=العلم المكثف لجميع العلوم المجاورة لها أو المحيطة بها). وذلك لا يتم بالنسبة للجماعات، سوى عن طريق الأحزاب أساسا، وهو ما قامت به الحركة الوطنية زمن الاستعمار القديم. ولم يجد بعد في زمن الاستعمار الجديد أحزابا أو حتى جمعيات مدنية تحمله نخبها إلى شعوبها.
(وبالطبع فإن المجهود التثقيفي الفردي قد يؤدي نفس الأكل، إذا هو توفرت له الجدية والمسؤولية والتفرغ، كما كان الحال لدى المنورين في الغرب وبعض المثقفين العرب المحدثين والمعاصرين، ولعل آخر نماذجهم في راهننا هو الأستاذ العروي).
الوعي السياسي المتدين قد يعالج المسألة مؤقتا، ذلك لأنه يتجاوز الوعي التقليدي القبلي... وهذا بعض سر نجاحه اليوم في الاستقطاب، وفي تجاوب المجتمع معه (الشباب والنساء خاصة) غير أن عطبه يكمن في عولميته، أي لا وطنيته، ما يجعله سهل السقوط في خدمة استراتيجية العولمة الرأسمالية، والتي أضحت اليوم متوحشة، ولذلك فإن جوهر الإصلاح الديني المطلوب هو توطينه، بمعنى تنزيله جغرافيا، لمقاربة شروط مجتمعاته وشعوبه العينية، وهذه قضية أخرى.
* * *
لم تكن مشكلة "الولي" وأمثاله حتى اليوم، هي الجهل أو عدم المعرفة (وهذه قد تكون حاصلة فعلا) بل في وعيه التقليدي-القبلي، وعيه غير المطابق، ولا المقارب، لزمن العالم إلا من خلال مدخل استعماري (=الانفصال) وتلكم مشكلته وتلكم مصدر مأساته وعواقبها المستمرة ما تزال. على قبائل الصحراء، كما على الشعب المغربي والمغاربي، وعلى إدارات دوله.