الشعوب، في المحصلة، هي من يصنع تاريخ دولها.
ليست الأفكار، ولا الأبطال، ولا الجيوش، ولا الأحزاب... وحدها من يصنع تاريخ البشر، بل أيضًا التدخلات المفاجئة، وغالبًا ما تكون حاسمة، للجماهير، جرس إنذار، أو تصحيح مسار، أو ترجيح كفة، أو قلب موازين. لعل من أخطر أسلحة الشعوب، ما يمكن وصفه بالاستنوام، لتحقيق الاستغفال، سبيلاً للإصلاح أو للتغيير، أو إيقاف مسار، وفتح الطريق لمسار آخر؟ يحدث ذلك بتواطؤ عفوي، غير أنه يكون موضوعيًا، تدبيرًا اجتماعيًا سياسيًا... تاريخيًا، من قبل أحياء عقلاء، لا حيوانات، كما يتصورهم أو يتوهمهم حكامهم عندما يكونوا استعماريين أو عملاء رجعيين، أو فقط، جهلة مغفلين، محدثي نعمة؟
وقائع التاريخ في هذا المنحى، أكثر من أن تُحصى عددًا، أشهر نماذجها في التاريخ الراهن عربيًا، مبادرة علال بن عبد الله الإشارية - الاستشهادية، بعد الانقلاب على محمد الخامس، من قبل حماية ومخزن، كانا في غاية الاطمئنان على الأوضاع؟ فإذا
بها تنقلب رأسًا، وبدون مقدمات، مقاومة مسلحة، ومغاربية، ومطالبة بالاستقلال الناجز وسلطة شعبية جديدة خارج المدن، وعلى المدن بالليل؟
بعد مؤامرة الغدر الإمبريالية في 67 والتي كان المقصود منها القضاء على الزعيم والوطنية الناصرية، تفاجأ العالم بالخروج المباغت لجماهير مصر، مرغمة الرئيس على الاستمرار في النضال من موقع الحكم، رغم أنه (مهزوم) فالشعوب أدرى بمصالحها؟
وفي جزائر الإصلاح الديمقراطي، بإطلاق التعددية الحزبية والانتخابية، دبّر الحزب الحاكم، وبدعم من قبل خبراء التزوير الانتخابي في الإدارة الفرنسية، قانونًا انتخابيًا ملائمًا لصعود (جبهة التحرير) فإذا بشارع المصوتين، يستغله لإحداث أخطر وأغرب انقلاب مدني (ديمقراطي) لمصلحة (جبهة الإنقاذ)، فكان الانقلاب العسكري... وتاريخ آخر للجزائر، شعبًا وإدارة وعلاقات...
وشبيه بذلك ما وقع في غزة بمناسبة انتخابات دبّرتها السلطة كي تكون لصالح فتح، ودخلتها حماس، بقصد المشاركة، فإذا بالمصوتين يفاجئون أنفسهم، قبل غيرهم، ويبايعون شبه إجماع حماس على الجهاد، وينقلب السحر على الساحر، وندخل
في تاريخ جديد للقضية، وللمنطقة بل وللعالم. ولم تكن حماس تنتظر ذلك ولا ترغب فيه، بل ولم تكن مؤهلة للوفاء بالتزاماته الإدارية، وعواقبه السياسية؟
وأضيف، ما لم يُقل، مع أنه معروف، أن حدث 7 أكتوبر المجيد، هو أيضًا من هذا القبيل، الذي تنتج فيه عفوية الجماهير، تاريخ دولها، بل وتاريخ الكون. لم يكن المخطط الأصلي للقيادة يستهدف ذلك العدد ولا ذلك النوع من المحتجزين، ذلك لأن المدربين على العملية، كانوا أقل بكثير من المشاركين فيها عفوًا وفجأة من الغزيين، ممن أيقظتهم حركة المجاهدين، فالتحقوا بهم، وأخذوا لهم (حقهم) من الرهائن، فكبر الرهان وتعقد، ولم يعد قابلًا لمساومة تبادل بسيطة، كما كان يحدث، بل أصبح إهانة لجدارة كيان بالحياة، وأحرى بوظيفة السيطرة، أرضًا وإقليمًا، وقلب أوضاعه عقديًا وسياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا، بل وأحدث في أمريكا وحلفها الأطلسي شروخًا، وخفف الأعباء على أعدائهم (الصين، روسيا، سوريا، إيران، العراق...).
كل ذلك وغيره، بسبب تدخل لم يكن مدبّرًا تكتيكيًا، وإنما تاريخيًا، من قبل جماهير غزة، تنزيلًا لآية (وما رميت إذ رميت...) إرادة التاريخ، التي هي من إرادة الباري عز وجل.
أتذكر هذا وغيره، وأنا أتأمل في وقائع عديدة في مغربنا الحبيب، أختار منها حدثين متزامنين ولكنهما متباعدين حقلاً ودلالة، أقصد:
- حركة الطوارق المغاربة الشباب، نحو مدينتهم السليبة، حفدة طارق (ولقد كتبت في الموضوع).
- موقف المقاطعة الشعبية، النادرة المثيل عالميًا، في الانتخابات الجزئية الأخيرة، في الرباط وشرق
المغرب.
إنهما جرسا إنذار بالغ الدلالات، فهل من منصت ومبادر؟ الشعب ينتظر خطاب الافتتاح، وما بعد الافتتاح.
ع. بلكبير
البيضاء 17 شتنبر
Share this content: