د.ع. الصمد بلكبير
... بك العالمين، وليس العرب فقط. إذ الضالة هي: الشجرة المنفردة في مفازة، يستهدى بها عند الاحتياج: ليلة ليلاء (كالحة دامسة فلا رؤية لنجوم) أو نهار قائظ عاصف (فلا أثر في البيداء..).
كذلك كانت صفة العصر إياه، إمبراطوريتان (الروم والفرس) في حروب أضحت انتحارية، إذن لا نظام ولا أمن... في زمن العالم عصرئذ، ولا أفق لبديل، فالشرق الأقصى (الهند، الصين...) هو أميل حضاريا إلى العزلة والانكفاء.
ولم تكن شبه جزيرة العرب مؤهلة، مكوناتها تنزع كلها نحو الفوضى، إذن ضد: الوحدة / والنظام / والدولة؛ القبائل والقبلية -تجار قريش (وسطاء ومرابون) والطائف ملحقة لها- أما يثرب، فلم يكن من مصلحة تجارها اليهود، وحدة قبيلتي الأوس والخزرج بها، وأحرى سيادة إحداهما، فيدعمون الضعيفة منهما حتى يتوازنا، ويستمر لذلك وضع الفوضى في يثرب (لا نظام، لا دولة). إذ التوازن، لا يعني الاستقرار والسلام دائما...
وفي الأطراف، فلقد كانت اليمن منهارة، والعراق محمية فارسية (المناذرة) والشام للروم (الغساسنة) يحميان حدود أسيادهما، ويمنعان وحدة العرب، أما كندة، فبكاء امرئ القيس بها، كاف في الدلالة على وضعها، وحالات أشباهها.
من كل ذلك نشأ وضع خانق وقاتل، نمو ديمغرافي طارئ، وبيئة طبيعية غير مسعفة ولا مستجيبة لحاجياته من الطعام ومن الأمن... الحل إذن، هو تقليل الأفواه: المجاعات، الأوبئة، الهجرة، والوأد... ثم حروب الغزو المتبادل، والتي كانت تنطلق لأتفه الأسباب، وتدوم الأعوام الطوال، حول الكلأ ومنابع المياه والنساء... ولكن أيضا لأجل تقليل الأفواه.
هو الانتحار إذن، بالفوضى أو بالنظام سيان، لقد كان ذلك عنوان مرحلة تاريخية، النظام العبودي استنفذ شروط استمراره، فهو لذلك يُحتضر، وينتظر من يجهز عليه ويقبره ف "إكرام الميت دفئه" وهذا ما مثله الإسلام دعوة وحركة ودولة، تاريخ جديد لحضارة جديدة ولعالم جديد.
أضعف حلقات النظام العبودي السائد عصرئذ، كانت شبه الجزيرة (=لا دولة)، وفي المقابل، فلقد كانت بدائله متوفرة فيها بالذات، وتنتظر من يوحدها ويقودها (رسالة ورسول) أقصد: الشبيبة + النساء + المستضعفين من القبائل + الأقنان والعبيد (بالربا غالبا ) + الفلاحين وصغار التجار (في يثرب خاصة) + المضطهدين دينيا من مختلف الأقطار (فرس– روم -مصر...) والذين كانت المنعة الطبيعية لمكة، موئلا لهم وملجأ (=باريس العصر).
شرط الحل السياسي (= تأسيس دولة) كان دينيا، وحدة العقيدة (الله أكبر في السماء) وبعدها وحدة الإنسان في الزمن التاريخي وفي الجغرافيا الطبيعية والبشرية، وهو ما سيوفر إرادة الوحدة في الأرض العربية أولا، سبيلا لوحدة العالمين. فالله "رب العالمين"، وليس وثن أسرة، أو إله قبيلة عنصرية "مفضلة"، أو بشرا-إلاها(؟!)
بإستراتيجية توحيد تدريجية، تركيمية، دينامية وجدلية، متعددة الوسائط: الدعوة والحوار... والتأليف والترغيب وأنواع الهجرة، وعقود السلام والتحالف، والشدة والعنف عند الاضطرار، والدعوات خارج العرب وشبه الجزيرة... والمبدئية دائما (≠ الانتهازية) والشجاعة أبدا وإعطاء المثال في التقشف، والتعبد، والصدق في القول وفي العمل، ونقد الذات والممارسات... بكل ذلك وغيره، مما لا حصر لفضائله وعبقريته التدبيرية والتاكتيكية... تمكنت الدعوة المحمدية، وتجذرت الحركة الإسلامية، وقامت الدولة، وسادت الإمبراطورية الجديدة بديلا عن الإمبراطوريات العبودية القديمة والتي انتهت فترة "صلاحياتها" التاريخية والحضارية...
كان العالم الوسيط في حاجة غلى مخلص (= محرر) من ظلم النظام العبودي القديم والمنهار، وكانت شبه الجزيرة بعد توحيدها، في حاجة إلى فضاءات لهجرة فائضها البشري.. وجاء الإسلام ليحل المعضلتين، باندماج، وفي نفس الوقت، ولمصلحة الأطراف جميعا. بديلا عن حرب العرب لبعضهم عبثا، فهاجروا من شبه الجزيرة كمسلمين (حوالي مليون) وبرسالة تحرير لبقية شعوب وأقطار الإمبراطوريتين الآفلتين، من علاقات الاحتلال والاستعباد، إلى "الامتيازات" الإقطاعية (=الحكم المحلي) وفتح الحدود لتنقل البشر والسلع والأفكار، والمساواة بين القبائل والشعوب (التفاضل بالتقوى فقط) وتحرير الدين من التدين (=كهنة وسدنة) ومن السياسة (=الدولة) وإعادته إلى المجتمع (=الفطرة) وإلى العقل والعلم والضمير والتكافل الاجتماعي ودعم الأطفال والشباب والنساء والمعدِمين وأبناء السبيل (المهاجرون والمهجرون) من الظلم أو الفقر أو الكوارث... ووضع القوانين، وملاءمتها للوقائع، وسيادتها وإنفاذها على الجميع دون تمييز، قومي (ولا أقول عرقي، لأنه لا وجود لأعراق أصلا) أو طبقي أو عنصري أو عقدي... وتوفير مناخ وشروط الانفتاح والتلاقح والتكامل الثقافي بين الأقطار والشعوب (مثال: بغداد والأندلس...) دون عقد (الصين) ودون تحفظ (اليونان).
تلكم بعض من ملامح ودلالات رسالة تاريخية وحضارية خالدة. نقلت البشرية من حال الظلم والفوضى والحروب... الاستعبادية، إلى حال الرشد والسلام والتكافؤ والعدالة... سمحت بتحقيقها جميعا، قيادة رسولية عبقرية وراشدة، مثلت الغاية القصوى في الحكمة والمحبة والتواضع والإخلاص والترفع والتسامح وبعد النظر والإنصات والتشاور والحوار والتعفف والتقشف والتضحية والبذل والصبر... وما شئتم من فضائل "وإنك لعلى خلق عظيم". وأخلاق "كانت أخلاقه القرآن" (أمنا عائشة).
* * *
قد تكون أقصى درجات التفرد والعزلة (أو العزل) دليل رشد وهداية، لا ضلال (=من الكلمات الأضداد). فبقدر ما كان r نافرا من عقائد قومه الوثنية، متنقلا باحثا من خلال التجارة، أو متنسكا متأملا في الغار، أو داعيا مجربا في "عشيرته الأقربين" قبل القرباء بقدر ما كان الحق والحقيقة معه على تفرده وانفراده. بقدر ما كان الباطل يحكم مواقف وسلوك خصومه وأعدائه... لاشك أن القوة تتمظهر في الجموع حقا، غير أنها قبل ذلك، تكمن في الفكرة الصائبة والوعي التاريخي، والإرادة السديدة استراتيجيا، والمبدئية أخلاقيا، وتلكم كانت بعض مناقب الرسول الكريم r.
"أقصى درجات العزلة" قد تؤشر على أقصى درجات الرشد والهداية تشكل ضالة – بوصلة، كذلك كان محمد r وكان أبوه إبراهيم وشقيقاه موسى وعيسى عليهم السلام جميعا ./.
Share this content: