د.ع.بلكبير
تميل "البداهة" عادة نحو التفهم ومن تم التعاطف مع كل نقد، وذلك فقط لأنه كذلك. فهو يتظلم ويشتكي ويظهر عيوب ما هو مسيطر وسائد. والحال أن الأمر ليس كذلك دائما. فقد يكون الوضع مقلوبا، فيجأر الظالم ويحتج الفاسد وينتقد الرجعي.
إن النقود تعكس بالضرورة مصالح ومواقف ومطالب فئات أو طبقات في المجتمع. ألسنتها ثقافية وسياسية في الغالب. وهذا الصراع لا يكون المستضعف فيه دائما تقدميا وعلى "حق".
منذ بداية التاريخ والتجاذب والصراع بين إدارات الدول ومجتمعاتها، وهو ما يحركه (=التاريخ). غير أن الموقف الإيجابي والتقدمي لم يكن دائما في صف المجتمع ومصالح فئاته وطبقاته. فقد تكون مصالح ومواقف الدولة تقدمية، والعكس بالنسبة لفئات أو طبقات في المجتمع. فتنتج هذه خطابا "تقدميا" فكريا-سياسيا وأدبيا... رفيعا ويوحي وكأن الحق التاريخي معها. فيستجلب لذلك التعاطف معها والمساندة لنقدها.. من قبل من لا مصلحة لهم في ذلك من ذات المجتمع: تدليسا وتغليطا وتمويها..
لن أقف عند حالات شهيرة: أخناتون – المعتزلة – ابن رشد – الإخوان في الدولة الناصرية – متأسلمو ليبيا... بل لعل، أفضل حالة نموذجية تاريخيا، هي الأدب الرومانسي في أوربا بين موقفين نقديين للمجتمع والدولة البورجوازية القائمين والناشئين. إن النصوص تكاد تكون متطابقة بينهما: الحنين إلى الطبيعة والتعاطف مع المستضعفين: الفقراء، النساء والأطفال ومناهضة السفه في الاستهلاك والتظاهر والتفاخر والتكبر والاستضعاف... غير أنه غير متطابق من حيث استراتيجيته، غاياته واستهدافاته، أحده الفرنسي خاصة) ينتقد الدولة والطبقة البورجوازية من حيث تراجعاتها عن التزاماتها تجاه شعوبها، ويدعو إلى إصلاحها وتقويم مسارها. والآخر كان يعبر عن الفئات والطبقات الإقطاعية غالبا... التي تضررت مصالحها وفقدت مواقفها أو خابت مطامحها (=مطامعها) مثل البورجوازية الصغيرة... فلذلك هي تنتج كتابات ناقدة ومواقف مناهضة للقائم.. وباسم الشعب والعقل والدين... ولكن ليس بهدف التقدم بل النكوص أو بالأقل التوقف.
وكذلك هو اليوم في العالم خطاب "ما بعد الحداثة" فقد يتم في اتجاه نقد تعثراتها واستدراك ثغراتها واقتراح سبل التقدم بها... وقد يتم ذلك من قبل الرجعيين، بهدف نقض الحداثة نفسها وتسفيهها وإظهار عيوبها الأصلية أو الطارئة لا بهدف إصلاحها بل الإجهاز عليها (خطاب عموم الحركة الإسلامية حول الغرب).
ليس المجتمع على حق دائما، وليست إدارات الدول على خطإ دائما، يجب الحكم عليهما حسب الحالات الخاصة والشروط المائزة. وكذلك هو الحال، بالنسبة لخطابات وكتابات الكتاب، فقد تكون رجعية رغم أن لهجتها قد تكون "نقدية" جدا بل وجذرية في نقدها.
Share this content: