د.ع الصمد بلكبير
لم يكن مفهوم "العقل" في الممارسة، سوى سياسة المدينة وقانونها، إذن: النظام وإدارة دولته، حصل ذلك في اليونان خاصة، لذلك تداخل واختلط، بل وتطابق أحيانا، الخطابان الفلسفي والسياسي، ولم يتم ذلك درءا للتصادم (=العنف) فقط، وسبيلا للحوار والتفاهم.. أي ما كانوا ينعتونه بالديمقراطية (=العداوة ثابتة والصواب يكون)، بل أيضا حتى لا يكتشف الأميون – العبيد (90% في أثينة) حقيقة اختلافات وصراع أسيادهم، فيثورون (حالة سبارتاكوس مثلا).
هذا التراث الأوربي حصرا، والذي حاولته النخبة الإسلامية لاحقا (فلاسفة، متكلمون...) وفشلت، هو ما استرجعوه في "النهضة" وفي "التنوير" بعدها، كتمهيد للثورة. نقد العقل أو الوعي الديني أساسا... كلغة وكشرط لنقد السياسة (=الدولة الإقطاعية وكنيستها الكهنوتية والمستبدة)... لم يكن مكسبا أوربيا، بل كونيا وإنسانيا، ولذلك فإن جميع الرأسماليات اللاحقة عليهم، أخذت به وبعواقبه ضرورة، وفي الكثير من الحالات، فلقد وظفته هذه الأخيرة (البورجوازيات الوطنية الجديدة) لنقد المؤسّسة له (الرأسمالية الأوربية)، والمتخلية عنه لتبرير العنصرية (≠ المساواة) وتسويغ الاستعمار، وأهمها كانت البورجوازية الوطنية الأمريكية، والتي ما كان لها أن تتقدم وتقيم الحرية والديمقراطية... بغير التحرر الوطني والاستقلال عن الاستعمار الإنجليزي ولا عقلانيته... (؟!) وتأسيس سيادة الدولة الأمريكية (جورج واشنطن.. قاد ثورتين وطنية وديمقراطية في نفس الوقت). وهو ما أخفقنا نحن في إنجازه حتى الآن...
"نقد العقل" مهمة أنجزت، وما على البشرية المعاصرة سوى العمل على إشاعته وترسيخه (العروي) في الأذهان والوجدان والمؤسسات (الدينية – التعليمية – الإعلامية – الثقافية والسياسية)، وهو ما تحقق في أقطار الأرض الناهضة (روسيا – اليابان – الصين...) وتعثر ويتعثر عربيا وذلك خاصة، بفعل الاستعمار ووسائطه في المجتمعات وإدارات الدول العربية.
لم تهتم النخبة اليابانية مثلا، بنقد العقل سبيلا للتقدم، أما الروسية فلقد اقتصرت على التاريخانية الألمانية سبيلا للتجاوز والإصلاح ثم الثورة، أما الصين فلقد وظفت تراثها الديني والفولكلوري نفسه... لنقد السلوك والعلاقات سبيلا للنهضة وللثورة الاشتراكية معا وفي نفس الوقت.
"نقد الواقع" إذن، ومن تم نقد الوعي به، ونقد السلوك الأخلاقي... إذن نقد حالة سيادة الاستعمار الجديد، هو المطروح على راهننا، أكثر من نقد العقل (تيزيني-حنفي-الجابري وأركون...) المقصود بالنقد أيضا كأمثلة: الأنانية – الكسل – الغش – المخدرات – الرشوة – العنف – خيانة الأمانات (الزمالة – الجيرة – الصداقة...)، النميمة واحتقار المرأة – إهمال الأسرة والطفولة – الكراهية والحقد والحسد... ما يمكن الاصطلاح عليه بـ "الاقتصاد الأخلاقي"، وهو بالمناسبة لا يقل خطرا وأهمية على المعاش والاجتماع... من "الاقتصاد السياسي" الاستعماري-الريعي السائد.
المفارقة، أن نقد العقل التراثي، لم يصل إلى المعنيين به (الشعب) لأنه مثقفي(؟) أما المثقفون، فلقد أخذوا من ذلك النقد أسوأه، إذ أن ذلك الوعي التراثي، على علاته، هو عموما ما سمح ويسمح راهنا للشعوب بمقاومة التغريب والفساد والاستبداد والاستعمار خاصة في فلسطين مثلا، وليس "نقد العقل" الديني أو التراثي للأسف (؟!)
تنويه: في التجربة الإسلامية الوسيطة، ثمة نقد شامل أنجزه ابن تيمية للعصر الوسيط جميعا، دولة وسياسة ودينا (نقد علم الكلام-التفسير– الفقه – الحديث والتصوف) وعقلا (فلسفة ومنطق المجتمع العبودي اليوناني) ومجتمعا (الأسرة والمرأة خاصة) غير أن إرثه أهمل من قبل "النخبة" وترك للاستعمار وللفوضويين والشعبويين يعيثون فيه تأولا وتحريفا وإفسادا... كما حصل لغيره كثير، كالقرآن نفسه أو السنة والوهابية والليبرالية والاشتراكية... إلخ.
Share this content: