انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر
مفارقة الدين والدولة في إسلام التأسيس  I

د.ع.الصمد بلكبير

كل القرائن في السيرة النبوية، تدل على أن الإسلام ورسوله في المنطلق، لم يكن يطمح إلى سلطان على الأبدان، مقارنة إلى القلوب والسلوك والوجدان، كان نموذجه المحتدى هو جده إبراهيم وشقيقاه موسى وعيسى عليهما السلام، ولذلك فلقد كان همه الرئيس، هو توحيد الله في السماء، شرطا لوحدة عياله على الأرض، لا للوثنيات إذن لأنها تفرق، وإذن، تبرر الظلم والعدوان، وفتنة الغزوات القبلية على الكلأ والماء والنساء... الوحدة تتطلب أيضا، وجود قانون وسيادته، ولذلك زكى الرسول r ميثاق "حلف الفضول" ومؤسسة "دار الندوة"، ولكن أيضا، رفع التمييز عن النساء، والابتزاز لصغار التجار (الربا) والعسف على العبيد والأقنان... والعمالة للأجنبي في الأطراف (اليمن، العراق والشام...)...إلخ

كانت مكة تضمن حرية الاعتقاد، شرطا لحرية التجارة، ولذلك كانت موئلا لجميع المضطهدين الدينيين في المنطقة جميعا (مصر وفارس والروم...) ولذلك أيضا تصور الرسول أن دعوته ستلقى نفس المعاملة، وكذلك كان في بدايتها... غير أن أهدافه الاجتماعية الشارطة للوحدة، سرعان ما تكشفت في الدعوة، وفي أتباعها من الشباب والنساء والأرقاء والفقراء... وهو ما أثار رد فعل تجار مكة الكبار، لم يكن يهمهم الاعتقاد في إلاه أو آلهة، ]فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى[ ولا عبادة الإسلام، فأكثرها كانوا يمارسونه (الصوم، الحج...) بل ولم تكن تهمهم سلطة الحكم لمن تؤول، فلقد عرضوا عليه r أن يكون حاكما وثريا... ورفض.

إنه "سوء التفاهم" الكبير، وذلك حتى من قبل الرسول r نفسه، والذي ما كان ليتصور مسبقا، أن معضلة الدعوة ستكون هنا، خصوصا وقد وعدهم (كما حصل فعلا) بملك فارس والروم إذا هم سايروه وأيدوا دعوته. 

الوقائع هي التي ستفرض منطقها.

من حيث التاريخ، فالرسل قبله لم يصدعوا بالدعوة إلا والدولة قائمة، فنظام العلاقات (الدولة) يسبق شرطا، نظام الضمائر والسلوك (=الدين الكتابي)، ولذلك نزعت الديانات جميعا نزوعا فوضويا (ضد الدولة) ذلك لأنها أصلا كانت قائمة (=الدول) ولكنها ظالمة، والدين أصلا جاء ليعقلها ويرشدها، ليكون لها ضميرا أخلاقيا، يهذب ويوجه، عنفها الضروري أو الاضطراري، والذي لا قيام لها ولا وجود، بدونه (=العنف) (؟!)

لم تكن مكة– التجارة (الموسمية والتوسطية، البعيدة المدى نحو اليمن والشام) مؤهلة، ولا هي في حاجة، إلى إدارة دولة، العقيدة الوثنية السائدة، تكفيها لفرض ما تحتاج إليه من نظام، فالبقعة حرام، لا يسفك فيها دم (إلا الهدي) ولا يدخلها مسلح، (يدخل الحجاج والزوار عراة)، يشترون البز (ثوب الإحرام) من البزازين المكيين (ومنه لفظ الابتزاز) وللكعبة (بيت المال) [والمال هو الإله الحقيقي لكل وثنية]، "رب (=عقيدة) يحميه". ثم هنالك الأشهر الأربعة الحرم، لا حروب خلالها في المنطقة بين القبائل، بل تجارة فقط (؟!)

في المقابل، فلقد كانت يثرب، مدينة متنافرة التركيب متناقضته، بالتالي، في حاجة إلى قانون ينظم شؤونها وإلى إدارة تقف على تنفيذه، كانت مدينة فلاحية – حرفية وتجارية، موزعة بين قبيلتين كبريين متكافئتين: الأوس والخزرج، لا أحد منهما يقبل حكم الآخر، وإذا تغلبت إحداهما على الأخرى، تدخل التجار (اليهود) لدعم الضعيف، وبذلك يمنعون فرض النظام من قبل الأقوى، فالتكافؤ والتوازن إذن، قد يعنى الفوضى، ومن تم الضعف. الحركة والتقدم... قد يقتضيان الاختلال، لا التوازن (؟!) فافهم...

كان اليهود "يميزون" عن حق، جماعتهم (=طائفة)، ليس باعتبارهم تجارا وحسب، بل وأهل كتاب فوق ذلك، في مقابل أميين، (لا دين لهم ولا كتاب، فهم على فطرة أمهاتهم)، إنهم "المختارون" من قبل الله لحمل دينه، وهم فوق ذلك، يعرفون  شريعته من خلال كتابه (التوراة) وكليمه (موسى)، كانوا لذلك (وما زالوا) عنصريين، يحتقرون غيرهم، ولا يتعاملون معهم إلا بشك وخوف وكراهية وحقد... لم تكن وحدة (الأغيار) في يثرب إذن تفيدهم، بل العكس، ولذلك فلا احتمال لاندماجهم، ولا بالأحرى لمبادرة من قبلهم لتأسيس دولة. فاليهودية الأصلية، هي  مع الفوضى وضد الدولة...

هذا الطرف الثالث (اليهود هنا) والذي غالبا ما يأتي كحل لإقامة الدول، عندما يتعذر التوافق بين متكافئين، وجدوا له في يثرب بديلا هو الدعوة الإسلامية، بالتالي الهجرة النبوية، وذلك بقيادة داعية مشهود له سلفا، ومن قبل الجميع، بالحكمة والنزاهة والعدل والشجاعة... خاصة وحوله (الرسول r) نواة قوة أمنية (=الصحابة)، شابة منظمة وذات عقيدة حربية استشهادية، ومحايدة في صراع اليثربيين.

كان رهان الرسول r قويا على يهود المدينة، أن ينصروه، فعقيدته هي اليهودية الأصلية ]إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى[ ولم يذكر عيسى، لأنه لم يكن سوى مصلح ديني يهودي لا مصحح، قبل أن يؤلهه التحريف البيزنطي للنصرانية. أما الرسول الجديد فلقد كان مصححا r

خذلت المستوطنات اليهودية رهان النبي r، وتكررت خياناتهم لميثاق (=دستور) المدينة، وبلغ بهم الخرق والحقد.. محاولة اغتياله مرتين، فكان ما كان من أجلائهم، وإعدام بعضهم...

إذن هو السيف الطارئ (العنف) وقبله القانون (عهد المدينة) ومعهما حماية أمن المدينة الخارجي (=جيش)، والقضاء (=التحكيم) ]ويحكموك في ما شجر بينهم[... هي الدولة إذن، وهي الرئاسة والإمارة... اضطرت إليها الدعوة، ولم تكن في الأصل خيارها، لو كان تجار مكة عند حسن ظن الرسول r بهم (=عقلاء). ولكنهم كانوا سفهاء فخذلوه واضطهدوه ثم هجروه...

إنه منطق الاجتماع البشري التاريخ، يفرض نفسه، لا دين في التاريخ بدون دولة، يفترض وجودها سلفا، أو يساعد على قيامها، وعندئذ يقوم بدوره الأخلاقي... فيها، لا على حسابها، ومنذ ذلك، أضحينا في وضع يتميز فيه المسلم (العضو في الدولة الإسلامية حقوقا وواجبات) عن المؤمن عقديا، وذلك بغض النظر عن وجوده... بها أو خارجها، معها أو ضدا عليها ]... بل قولوا مسلمين ولما يدخل الإيمان في قلوبكم[.

مع الفتح، وفي شروط ميزان قوى سياسي – عسكري جديد، التحق تجار مكة بالإسلام (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، ومن الدار إلى الدولة، لقد اكتشفوا متأخرين، ومرغمين (كما صنعت بيزنطة قبلهم مع النصرانية) أن الاستثمار في الفتوح، أذر لهم ربحا من "رحلتي الشتاء والصيف".

وبعد معركة "صفين" وتحالف الأسرة الأموية مع الإدارة الغسانية في الشام، استرجع تجار مكة السلطات الاقتصادية والسياسية... وأغرقوا الدين في التدين وفي السفسطات الكلامية (الجدالية والميتافيزيقية) بعيدا عن محتواه الاجتماعي، الذي استمر قضية بعض الصحابة (الغفاري) وعموم الفقهاء (الأئمة الكبار) والمجتمعات الإسلامية الناشئة خارج شبه الجزيرة غالبا... (الفرق المتمرنة).

تحالف تجار قريش مع فلول الغساسنة في الشام، فأسسوا الدولة الأموية، وخذلت الفوضوية الدينية والشعبوية (=القبلية) عليا t، وارتدوا عليه، وانتصرت الروم (الشام) على (العراق) كما تحدث القرآن.   

                                    مراكش في يوليوز 2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *