د.ع. الصمد بلكبير
ماسادا أو مسعدة (أو مسعودة)، هو الاسم الجغرافي لمستوطنة يهودية كانت عبارة عن قلعة في الشام، وهي حتى اليوم اسم قرية في الحدود بين سوريا الحالية وفلسطين المحتلة. اختلط التاريخ فيها بالأسطورة لتشكل الذاكرة والضمير الديني لليهود حتى يومه. وذلك في استثمار إيديولوجي-سياسي لـ"أساطير الأولين".
حدث في العام 70م أن حوصرت من قبل الرومان، غير أنها صمدت ورفضت الاستسلام، وما ينتج عنه حتما من إذلال إلى أن استنفذت مخزونها من ماء وطعام (بعد 7 أعوام) فقررت جماعيا، وتحت إشراف قائدها العسكري (إيلي عيزر) الانتحار الجماعي ولا الاستعباد. إذن الكرامة شرط للحياة، وإلا فالتضحية بهذه الأخيرة أولى.
راكموا في الساحة كل ثرواتهم من ذهب وأثاث، ثم عمد الكبار إلى ذبح الأطفال ثم عمد الذكور إلى ذبح زوجاتهم، ثم عمد الشباب إلى ذبح المسنين من الذكور ثم إلى ذبح بعضهم البعض إلى أن بقي القائد وحده حيا، فأضرم النار في ما تجمع من أثاث وارتمى فيها، حتى إذا دخل المحتل، أحبط، ولم يجد ما يبرر به حملته ونصبه، ويصبح انتصاره عبثا و"قبض ريح" في طعم هزيمة. لقد انتصروا عليه بالموت... وهي قمة المفارقة والتناقض...
هذا التاريخ الأسطوري، أو المؤسطر، هو ما يفسر الضمير الديني (=الأخلاقي) اليهودي المعتد بتميزه في التاريخ إلى درجة الغرور والعنصرية. والاعتقاد لذلك ومن تم بأنهم "شعب الله المختار". ذلك لأنهم رفضوا عبادة غيره، واستشهدوا دفاعا عن العقيدة وعن الأرض وعن العرض...
بهذه الواقعة، تأسس للكرامة وللأخلاق عموما، اعتبار في الاجتماع البشري والتاريخ الإنساني المعروف، لقد كانت لحظة مفصلية مقارنة بالأوضاع السابقة عليها، حيث كان المنهزم، يستسلم لوضع العبودية وذلك حفاظا على الحياة، لأول مرة ستصبح القيم والمثل والمبادئ... شرطا وهدفا للحياة بكرامة... وتستحق لذلك أن يضحي من أجلها بالحياة نفسها. بل وتصبح هذه الأخيرة مناسبة وحسب لتأكيد القيم الأخلاقية (=الدينية)، وأضحى الحق في الحياة، مرتبطا بجدارة الدفاع عن الكرامة والعزة والإباء...إلخ.
هذا هو الإنسان الذي أسس للدين الكتابي وللثقافة والحضارة... والذي تمتع بخيراتها طيلة تاريخه وحتى اليوم، فالعدوان هو دائما إلى خسران. ولا قيمة لحياة دون حرية.
أولئك الأباة، هم أجدادنا وذاكرتنا ]إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى[وينتمي إليهم، من يحفظ قيمهم وتراثهم...
ستستمر الحرية والكرامة دائما في حاجة لمن يحميهما ويدافع عنهما، ولذلك فإن معاركها متجددة أبدا، وما غزة اليوم سوى إعادة إنتاج وتكريس لمسعودة الأمس، وذلك بعد أن تخلت اليهودية عن وصاياها الأصلية، وانحرفت على أيدي أحبارها – التجار، الذين خلطوها بالتجارة وإكراهاتها (الربا-الغش-الاحتكار...) وبالانتهازية السياسية ومن ثم العمالة للأجنبي الروماني المحتل للأرض المقدسة بعد سقوط "مسعودة" ويهودها المسلمين، ومن تم كانت انتفاضة السيد المسيح على المتاجرة بالدين عند زيارته لبيت المقدس "هذا بيت الله وليس مأوى اللصوص" مؤكدا على جوهرية فصل الدين والتدين ومؤسساتهما... عن السياسة (=الدولة) الظالمة المعتدية ونادى بشعار "ما لله وما لقيصر" حماية للدين من التدين ومن الابتزاز السياسي.
إن الهزيمة الأخلاقية لليهودية-الصهيونية ومن خلفها المسيحية المتهودة والمتصهينة اليوم... هو أخطر على الجماعة اليهودية، وعلى "ضميرها" الديني الجامع والموحد والمحفز...من الهزيمة العسكرية أو السياسة أو الإعلامية
أو الدبلوماسية... المتراكمة...
إن تجار الدين وتجار الحروب في فلسطين المحتلة، والذين حولوا اليهود إلى جماعة وظيفية (مرتزقة) لخدمة أهداف استعمارية، انتهوا إلى نقيض من يعتبرونهم زورا، آباءهم وأجدادهم على نفس الأرض... لقد أضحوا هم رومان عصرنا، وفرضوا من تم على ضحاياهم من الفلسطينيين، أن يصبحوا هم المحافظين الحقيقيين والمعاصرين على ذلك الإرث الأخلاقي العظيم، الذي يشوهونه ويسفهونه باسمه، ويوظفونه بنقيض حقيقته. وهو اليوم الوجه "المأساوي" لانتحارهم، الموت المستحق، لأنه لا ينتج سوى التدمير والخراب... للإنسان وقيمه قبل وبعد خراب البنيان والعمران. "المأساة" ليست بالأساس منتوج وعي مغلوط وفاسد، بل وأيضا لتاريخ موضوعي مقلوب، يجعل من الأفعال، النقيض المطلق للأوهام الإيديولوجية وليس الدينية. وهذه اليوم هي حالة اليهودية المحرفة والموظفة سياسيا في صيغة الصهيونية و"إسرائيل" كلب حراسة الرأسمالية العالمية في المنطقة العربية.
صمود "غزة"، واستعداد الغزيين للاستشهاد من أجل الأرض والكرامة... يصدم الوعي الزائف لليهود المستوطنين بأنهم "المختارون" من قبل "يهوه"، لقد تنكر لهم هذا الأخير، وعلى أيديهم، ساهموا في صنع بديلهم التاريخي والديني الأكثر أخلاقية وارتباطا بالأرض، والفرح استشهادا من أجلها، وذلك في مقابل "وعي شقي" ويسفه ما بقي من "ضمير" في اليهودية المحرفة والمتصهينة والعميلة للاستعمار والإمبريالية.
في وعيهم الأسطوري-الخرافي وليس الديني بالأحرى، فلقد خذلهم ربهم، و"اختار" غيرهم لاستخلافه على الأرض. وتلك هزيمتهم الأخطر، في وعيهم، من الهزيمة العسكرية والسياسية أو الإعلامية والدبلوماسية.
فالمجد والفخار والنصر لغزة وللانتفاضة الفلسطينية، والخذلان والصغار والهزيمة للامبريالية وخدامها: الصهيونية بمختلف توظيفاتها الدينية (يهودية كانت
أم مسيحية أم إسلامية).