انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

“مأدبـــة اللئـــام”

   )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...( [ الحجرات 6]

"..لابد لهذي الأمة من درس في التخريب" مظفر النواب

                             ع. الصمد بلكبير  

1- لا ريب أن أبواب التاريخ العربي المعاصر قد انفتحت اليوم كما لم تنفتح من قبل، كيف لا والجماهير بالشوارع تبدو وكأنها أخيرا قد تولت قضيتها بيدها. ودونما إدارة سياسية من أي من قياداتها المعترف بها حتى الأمس القريب؟ بل كيف لا وقد لاحظنا ونلاحظ تحول بعض من أولئك الذين كانوا يقفلون عليها الأبواب. هم اليوم الذين يشرعونها، وإن كان على مجاهيل، أقصد الغرب عمومـا وأمريكـا خاصة(؟!)

نحن في شروط أزمة، وهي ككل أزمة، تعكس صراع جديد يتخلق، بقديم يتشبث بمواقعه، وأحيانا بمواقفه أيضا. مع أن الشروط التاريخية تجاوزت مشروعية استمراره، إنها إذن "أزمة ثورية" موضوعيا، غير أنها حتى الآن تفتقد الشرط الثاني: القابلة أو المولدة والحاضنة.

انطلق التاريخ بعد كبت طال، ولكنه مفتوح على احتمالات، وليس على احتمال واحد. ذلك لأن الذي يصنع التاريخ، بله الثورة، هو الإنسان، وليس الإعلام والاتصال، تلكم وسائل ووسائط فقط، أما الاختيارات فتصنعها الاستراتيجيات السياسية والإرادات الاجتماعية.. وهذه حتى الآن معطوبة وتكاد تكون معطلة، بفضل قمع طال واختراق استفحل واستطال.

إن الذي يناضل دون استراتيجية، يشتغل حتما وموضوعيا فـي خدمـة استراتيجية غيره. وقد يكون هذا الغير عدوه بل وعدوه الألذ أحيانا.

الشروط الموضوعية للثورة أكثر من متوفرة وأكثر من ناضجة. ولكن الثوار في الشارع العام لا يجمعهم حتى الآن سوى "لام ألف" أما البدائل، أما الأولويات... فإنه لا حصر لعدد ولنوع ولدرجة التناقضات... التي تفرق في ما بينهم. وهم قبل اليوم وحتى اليوم، لا يجالسون بعضهم، ولا يتحاورون حولها. ما يعني موضوعيا، إمكانية سرقة ثمار الثورة من بين أيديهم، وذلك عندما تستهدف ذلك أية قوة منظمة متجانسة واعية بمصالحها وذكية التدبير... هذه القوة قد تكون داخلية وقد تكون خارجية وقد تكون الاثنين معا في تحالف تليد أو طريف.

ليس في الأمر جديد ومفاجئ على هذا المستوى في التاريخ المعاصر للعرب وللعالم.

1) في بداية القرن الماضي، وخلال الحرب العظمى الأولى، قامت ما سمي لاحقا بالثورة العربية الكبرى، وكانت ذات طابع وطني وقومي، تحالف فيها مسلمو المشرق مع مسيحييه، وبدعم وتحالف مع أوربا الليبرالية ضدا على دول المحور. وضدا على الاستبداد العثماني... لم يكن المولود كاذبا (كما هو محتمل اليوم) بل شائها: اتفاقية سايكس –بيكو الإجرامية تقسيم المقسم (=الولايات العربية) / واصطناع "دول" لا مقومات لاستمرارها إلا بتبعيتها (=لبنان-الأردن...) / وأخطر ذلك تهجير وطرد وتجميع اليهود في "غيتو" دولي. عبارة عن معسكر ثابت مكتف ذاتيا، على رأسه تجار حرب، في صفة "رجال دولة"، ولا دولة، لأنه لا شعب هنالك، بل فقط مجتمع من المرتزقة، وهذا نمط عريق في التاريخ البشري، وقع استدعاؤه من قبل "الحداثيين" للحاجة، وكم استرجع الاستعمار أساليب ومنطق أنظمة وايديولوجيات قبلية أو إقطاعية أو حتى عبودية عتيقة وبالية لأجل خدمة أهدافه "الحديثة".

نذكر وعلى سبيل المقارنة، إنه في المقابل، اختارت شعوب وقوميات أخرى، النضال الديمقراطي في صيغة الحكم الذاتي، وذلك في إطار سوق أوسع سمح به نظام إمبراطوري إقطاعي كان موحدا على أسس إيديولوجية دينية، وكان المنتوج ما عرفناه (روسيا) ونعرفه اليوم عن الدولتين العتيدتين في الصين والهند بقومياتهما المتعددة. أما الثوار العرب، فلقد خسروا الأتراك ولم يربحوا أوربا.

2) في المغرب الحديث، ومنذ أواخر القرن 19، التجأت الطبقة الوسطى المغربية إلى "حمايات" فردية من قبل الدول الرأسمالية الغربية، في مواجهة ظلم ومصادرات "المخزن"، كانت النتيجة أن التجأ هذا الأخير إلى الدفع بالوطن جميعه نحو "الحماية" (=الاستعمار) وخسرت الطبقة الوسطى من ذلك أكثر مما خسر الاستبداد الإقطاعي المخزني، ذلك لأنه وبتحالفه (=المخزن)، أو بالأحرى قبوله التبعية للأجنبي، أعاد إنتاج وجوده واستمراره، وحتى اليوم (؟!) 

3) ومنذ ثلاثة عقود فقط وفي أوربا الشرقية، وباستثناء ألمانيا (لأنها كانت أساسا مطلبا وطنيا توحيديا) فإن موجة ما سمي بالإصلاح انتهى إلى ما نعرف: توقف التنمية المطردة – التفتيت الذي لم يتوقف بعد – سيادة المافيات أو ما يرتبط بها من فساد (تهريب الثروة – المخدرات – القمار- الدعارة المنظمة...إلخ).

وحدهم الشعبويون لا يطرحون على أنفسهم ولا على شعوب"هم" الأسئلة الحرجة، في ظاهر خطابهم، الشعوب مقدسة في عفويتها، وهي لا تخطئ، إلا إذا كانت وراء قيادة حزبية أو نقابية مثقفة (؟!) هم ضد التنظيم وضد التأطير وضد الوعي، الشعبوى فوضوي إذن، ولذلك هو في العمق يخدم قضية أعدائه، ولذلك يسهل ملاحظة كيف أن الشعبوى سرعان ما تنتهي مواقفه إلى نقيضها، وتجده يحتقر الجماهير ويسبها، وينتهي ليجلس بين صفوف أعدائها، نكاية كما قد يدعي، وهو على كل لم يلتزم بشيء، ولم يلتزم مع أحد، فكيف يحاسب(؟!) إن قضيته في عمقها تجارة بالسياسة والثقافة، وانظروا أمامكم وانظروا جنبكم إلى أين انتهى بعضهم في الصحافة وفي ما يسمى ب"المجتمع المدني" مغربيا وعربيا.

-2-

واليوم، فإن الغرب الرأسمالي عموما، والأمريكي خاصة، يكاد لا يخفي اغتباطه بل وتدخله، في إثارة وتوجيه حوادث الأيام الراهنة، لقد دبر الأمر في وضح النهار وعلى المكشوف، وذلك على الأقل منذ تأسيس "الجزيرة" وشقائقها، فضلا عن: 

1-عشرات المثقفين الذين اشتري ولاؤهم بالتعويضات المجزية في حضور المؤتمرات والندوات والمقابلات والجوائز... وتدبيج المقالات في الصحف إياها.. ولقد ساهمت إمارات الخليج جميعا في هذا البرنامج.

2-إغراق السوق الثقافية (كتب – مجلات – صحف – قنوات – إذاعات..) بفوضى لا حدود لها وتمييع للمبادئ وتشويه للمفاهيم ونشر لقيم الأنانية والوصولية والانتهازية والعدمية والشكلية واللاأدرية وتبخيس الذات واحتقار الوطنية والقومية والايديولوجية (=المقصود القومية والاشتراكية) وخلط الحريات الديمقراطية بالحريات البورجوازية (الجنس – المخدرات – القمار...إلخ) كل ذلك باسم "الحق في الاختلاف" ونهاية عصر الايديولوجيات.. مع أن هذه، هي أيضا ايديولوجية (؟!) ولكنها بئيسة.

3-مضايقة، وحتى تشطيب الميدان من جميع الهيئات السياسية والمؤسسات الثقافية وتفتيت النقابات والرموز.. المعارضة، أو بالأقل التشهير بهم وتحييدهم، إن لم ينفع شراؤهم أو قمعهم، والمفارقة المفجعة، أن يتم تنفيذ ذلك من قبل نفس الإدارة السياسية والثقافية المستبدة والفاسدة التي يقع الارتداد عليها اليوم من قبل نفس الغرب الذي اصطنعها واحتضنها وحماها من معارضاتها.

4-تأسيس مبتكر لتنظيم نخبوي (=حزب) أمريكي.. عن طريق ما ينعت زورا في شروطنا ب"المجتمع المدني" وهي عموما جمعيات حقوقية – إنسانية – تنموية.. وصحف، مؤطرة وممولة وموجهة... من قبل رأس قيادي مدبر ومنسق.. في الخارج، والأمر لم يعد سرا مكنونا، بل حركات سفر معلنة ولقاءات ، وتلقي مساعدات بالملايين، وبما يتجاوز ميزانية الأحزاب والنقابات الوطنية نفسها، وضدا عليها وعلى حسابها طبعا. في المغرب أضحى هذا الحزب يكافئ في القوة الاجتماعية والثقافيبة حزب فرنسا (الفرنكوفوني) وتنظيمات المخزن. وهو مثلها كذلك "سري" من شدة شفافيته، مثل الشمس، تلاحظ أثرها ولا تستطيع التحديق فيها، وهذه على كل بعض من "فضائل" القوة، وهي اليوم أمريكية، فهي لذلك تكشف عن أوراقها وعن نواياها دون خوف، وربما أيضا بدوافع الترهيب أو حتى الغرور والتبجح، وفي جميع الأحوال فمن يستطيع مصارحة الضبع بأن رائحة فمه كريهة (؟ !).

هذا الحزب يجد في النخبة، طابورا خامسا لا بأس بعدده، سـواء مـن المتوهمين أو الفاشلين علميا أو المتأسلمين أو المتساقطين من اليسار... فضلا عن بعض خريجي المعاهد الأمريكية والمستثمرين الجدد... ممن "يتعاقد" معهـم علـى مصالح مشتركة أو متبادلة، تحول معها البعض إلى مستشرقين مغاربة أو حتى إلى محض تجار" وتحول معها "العلم" السياسي خاصة، والمجتمع المدني والصحافة... إلى سوق تجارية محمية، مربحة ومذرة...

5-تلكم ممهدات ووسائط، ولكن ما الدوافع ؟  وما الأهداف.

-3-

أ-الرأسمالية تجدد نفسها: إن للأزمات "فضائل" كذلك أهمها تجديد الذات والكيان. ولا يتم ذلك بغير التخلص من قديم أضحى معرقلا، وتبني جديد أمسى حيويا، وأخطر وسائط ذلك: تصدير الأزمة.

يتم ذلك أولا بين القطاعات الرأسمالية في البلد القائد (أمريكا)؛ الأبناك (في ما بينها أولا) بحيث يأكل قويها ضعيفها الذي يفلس، والحقيقة أن الذي يفلس ويؤكل من قبل الرأسمال المالي هم المساهمون والمودعون الصغار) / الصناعة (كبيرة صغيرة – جديدة قديمة – مدنية عسكرية...إلخ) / التجارة (داخلية خارجية...) / العقار.. / الفلاحة...إلخ.

وبعد الحسم أو شبهة، تصدَّر الأزمة خارج البلد نحو الدول المنافسة (أوربا والصين واليابان...) في هذه الحالة.

وبعد ذلك يكون على دول وشعوب ورأسماليات.. أقطار الجنوب أن تؤدى عن الغرب الرأسمالي الفاتورة كلها. وهنا بعض مما يقع التمهيد له وممارسته خفية في إطار "الفوضى الخلاقة" نظير لعبة الساحر الذي ينشر بخورا كثيفا حتى يخفي عن الأنظار "سره المهني".

ب-وفي سياق تجديدها الذاتي وضمان ملاءمتها مع التطورات العلمية والتقنية ومع المنافسات فيما بينها وخاصة مع الصين، تعمد أيضا إلى تجديد الرأسماليات والبيروقراطيات التابعة، والتي أضحت تقليدية أكثر وفاسدة أكثر وأقل شعبية وأكثر إنتاجية للفوضى "غير الخلاقة" (=الهجرة – التطرف – كراهية أمريكا والغرب...) ولكن أيضا، وبحكم طول "العشرة" المشتركة معه (=الغرب)، أصبحت على دراية بأساليبه وبأطماعه وبنفاقه وبضعفه... فلم تعد لذلك تستجيب لجميع مطالبه منها. ومن ذلك في الحالة المصرية مثلا، 1-الامتناع عن رفع اليد مطلقا عن القضية الفلسطينية، حسب مقتضيات وهدف اتفاقية "كمب دافيد"، وترك وإطلاق يد العدو في "الشرق الأوسط الجديد" حكرا عليه، والالتفات عوض ذلك نحو شرق ليبيا أو عمومها وعموم الشمال الإفريقي، ومضايقة أوربا فيه. 2-رفضهم تنظيم الوالدية، والتي هي في نظر الغرب القنبلة المستعملة فعلا. 3-رفضهم خوصصة الأبناك (بنك القاهرة)، أو ربما تأجيلهم الأمر، إلى حين تأهلهم ب"الفساد" طبعا لإنجاز ذلك لمصلحتهم، أي في سياق التمصير وليس العولمة وهنا يكمن الصراع اليوم (=مصير القطاع العام المذر).

ت-ذلك يعني أن العدو الألذ والمباشر والراهن للإمبريالية هو القطاع العام والساهرين عليه من الإداريين والتقنيين وأحزابهم ورموزهم وأعلامهم... والذين هم فاسدون فعلا (وهل تمة رأسمالية غير فاسدة في الحاضر وفي التاريخ؟!) ولكن احتكارهم وفسادهم هو أهون وبما لا يقاس من فساد وخراب الاستعمار الذي لا يبقى ولا يذر، والذي لا يخرج إلا بعد أن يخرب كل شيء وأخطره الإنسان... والأمثلة على ذلك فاقعة من الجزائر وحتى فلسطين والعراق...إلخ.

ث-التدخل السياسي والإعلامي... الأمريكي في الثورات... كان يتقصد أيضا استباق نضجها وتوفر الوعي الحزبي أو الجبهوي لقيادتها. وهو أمر كان قد بـات قريبا، لولا الاستعجال والنفير الإعلامي والبلبلة والإرباك المقصودين. الأمر الذي أخر أو حتى منع، التحاق القوى المؤهلة للثورة ولقيادتها. لقد "تزببت قبـل أن تتحصرم" كما يقول المثل.

ج-وفي سياق صراع الامبرياليات، ومنافساتها على الأسواق والسيطرة، تستهدف أمريكا: 

1-منافسة أوربا في الشمال الإفريقي، وحتى إزاحتها (تونس وليبيا ضدا على فرنسا وإيطاليا) 

2-إصابة تركيا في مقتل اقتصاديا، ومن تم العمل على إفشال، أو بالأقل إخضاع الرهان الإسلامي الديمقراطي فيها (خربت فرنسا جميع استثماراتها فيها (17 مليار دولار) وأجلت حوالي 30 ألف تركي) وذلك فضلا عن الاستثمارات الليبية والتي كانت تقوم عليها مقاولات تركية / وفي سوريا أيضا ومع مصر وفي الطريق إيران طبعا..).

ح-استباق الزحف الصيني والاحتياط لقدومه. والمثال السوداني فاقع في هذا الخصوص حيث اضطرت أمريكا للاكتفاء بقضم جنوبه..

خ-فرض الإقناع والاقتناع بثقافة وسياسة وسيكولوجية الهزيمة. والاستعاضة عن التحرر ب"الحرية" وعن الديمقراطية ب"الحكامة" وعن حقوق الأوطان ب"حقوق الإنسان" (بدل المواطن) وتمسيح الإسلام وأمركة حركاته.. واستكمال السيطرة على الضمائر والمشاعر والعواطف والأذواق وعلى الذاكرة والخيال... كما حصل ويحصل في جميع الدول المهزومة (اليابان – أوربا بشقيها بل وروسيا الأرتودكسية) ووحدهم العرب لم يرضخوا لمنطق الحرب الامبريالية وهو أمر لا تستسيغه ثقافة الغرب، لقد صرفوا الوقت والمال وماء الوجه.. وقتلوا وأعدموا واغتالوا... الرموز (ناصر – صدام – عرفات...) ومع ذلك تستمر هذه الأرض المباركة تلد الممانعة والمقاومة وتنشرها في أرض الله وتشغل بها الامبرياليات عن انبثاق وانتصار الديمقراطيات في شتى أقطار المعمور اليوم، والتي ما كان لها أن تتم وبنفس السرعة واليسر... لولا المقاومات العربية.

هدفهم الراهن والمباشر، هو الإقناع بأن الاستعمار هو البديل الممكن للاستبداد، وضرر الأول أهون من فساد الثاني (؟!) هذا مع أن الأخير هو منتوج الأول وداعمه ولا يمكنه في الحالتين أن يسيطر ويستغل (الاستبداد) إلا بواسطته (الاستعمار).

د-وتستمر الأهداف الأصلية والتقليدية لكل استعمار مستمرة ما تزال قبل وخلال وبعد الانتفاضات الثورية العربية، أهم ذلك: 1-تسييد حالات اللااستقرار والفوضى وحتى الاقتتال، لأجل تقليل البشر وتخريب العمران وإفراغ الأوطان من نخبها بالهجرة والتهجير.. 2-تعميق القطرية. والمزيد من تفتيتها بالانفصال أو التمهيد له باسم الفيدرالية أو حقوق "الأقليات" الدينية واللغوية...إلخ 3-ضرب أو بالأقل إنهاك أنظمة وحركات الممانعة والمقاومة. 4- فتح الأسواق على سلعهم من جميع الأنواع بما فيها خاصة "القمار – المخدرات – العهارة – العمالة – تهريب الثروة... وكل ذلك طبعا باسم "الحرية". 5- التطييع مع الاستعمار الصهيوني. 6-وبالنسبة للحظة الراهنة، إنقاذ اقتصاديات الثلاثي السياحي الأوربي (اليونان – إسبانيا والبرتغال) على حساب الثلاثي السياحي العربي (مصر – تونس – والمغرب).

لأجل الرد والوقاية من جميع ذلك، ولأجل إنقاذ وتنمية وترشيد الانتفاضات الشببية العربية. يحتاج الأمر إلى تمييز صوت الشعوب وشعاراتها عن أصوات وشعارات أعدائها. لقد اشتغلت المختبرات "العلمية" في الجامعات ومراكز البحث والاستشراق الغربية. منذ زمن طويل من أجل هذه اللحظة، واستعجالها بل والمساهمة في التمهيد لها لأجل توجيهها قبل اكتمال نضجها. وساعدهم على ذلك العديد جدا من "الخلعاء" من صفوفنا، مستعملين جميع التراث السياسي القمعي والإجرامي للإقطاع وللاستعمار: التعميم في الوصف والأحكام والتزوير والدس والتدليس ونشر الغموض والبلبلة والتغليط و"السم في الدسم"... وأخطر ذلك التخذيل.. خاصة عن طريق الإعلام والشراء المجزى للمثقفين والإعلاميين، أو بالأقل تحييدهم وشراء صمتهم وذلك بأساليب وطرق لا حصر لها. وأغلبها يحفظ لهم "كراماتهم" ولا يحرجهم.. ولكنه يبلغ الغاية منهم (؟!).

من ذلك كأمثلة: 

أ-الحديث التعميمي عن "الثورات" وكأنها شأن واحد. مع أنه شتان ما بين إصلاح في مصر ومراوحة في تونس وإرادة تقسيم في ليبيا.

ب-التدليس والخلط: 1-بين الحرية والديمقراطية، مع أن الأولى قد تحضر دون حضور الثانية، (لبنان والمغرب مثلا) 2-بين الحريات الديمقراطية (الضمير – التعبير – التنظيم – الأحزاب والتظاهر...) وهذه تأسيسية ولا ديمقراطية ممكنة بدونها. وبين بقية الحريات التشريعية. والتي تصل عندهم حد الجنسية المثلية مرورا بالتعهر والقمار والتخدير...إلخ في إطار "حرية" السوق الرأسمالية.

ت-الكرامة والسيادة الفردية، ممتنعة موضوعيا إذا كانت الأمة مجزأة، وأراضيها مستعمرة، واقتصادها تابع، وهويتها ممتهنة، ومصيرها مهدد. المهمة حينئذ هي التحرير وهي الوحدة القومية والحريات المطلوبة لتحقيق ذلك هي تلك الضرورية له، أي الحريات الديمقراطية بحصر اللفظ والمعنى.

ث-يتحدثون عن "حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا (=رأسماليا في الحقيقة). ذلك يعني في الملموس ،حماية : الخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي وترويج المخدرات ونهب وتهريب الأموال العامة... من الإعدام... والحال أنهم هنالك غير مهددين ولا هم متضررين من تلك التهم أو الآفات.. بل إنهم هم من ينتجها ويستفيد من ريعها.

ج-مناهضة "الفساد" بالمفهوم "الأخلاقي" غالبا للمصطلح. ودون تدقيق والحال أن: 

1-مفهوم الرأسمالية الغربية للموضوع، وتصريفها له سياسيا وإعلاميا، لا علاقة له بما يخدم مصلحتنا. فأمريكا توظفه ضدا على أوربا التي تسمح أنظمتها القانونية والأخلاقية بممارسته، والتي بدون الالتجاء إليه (إرشاء مسؤولي دول الجنوب خاصة) لا تستطيع منافسة الشركات والأبناك والتقنية الأمريكية.

2-ما كان للغرب الحديث أن يتأسس بدون "التراكم الأولي لرأسمال" وهو عينه ما يوصف اليوم من قبلهم ب"الفساد" بعد أن تجاوزه هم وأضحى معرقلا لازدهارهم.

3-إن جذر كل فساد أخلاقي أو سياسي، هو الاستغلال، وأقبحه إطلاقا هو الربا، فهل يحق لنا اليوم المطالبة بإلغائهما؟ والمرحلة لا تشترط ذلك، بل فقط وأساسا تحقيق "الانتقال الديمقراطي" لجميع الطبقات الوطنية بما فيها الرأسمالية (؟ !) 

يجب إذن تحديد المقصود بالفساد، مثلا: نهب المال العام – تزوير الانتخابات – الرشوة – والقول أيضا كذلك بالأحرى، إن السفه مثلا، هو أسوء من الفساد بل هو اليوم ما يجسده.

4-وجود مجتمع لا يعني بالضرورة وجود شعب، وقيام إدارة لا يعني قيام دولة... وبدون ذلك يستحيل الحديث عن الديمقراطية بالمعنى الليبرالي للمصطلح. المعضلة عندئذ تكمن في الموضوع لا في الإرادات أو الرغبات، وتحتاج لحلها إلى اجتهاد وابتكار لا إلى تقليد بالأحرى (الطائفية في لبنان والقبلية في اليمن وليبيا مثلا).

5-محاولات تسييد المنطق الحدي الإقصائي والصوري، "من ليس معنا فهو ضدنا" ونظرية "الفسطاطين" (بوش وابن لادن) مثلا: أنت ضد الاستعمار والتدخل الأجنبي (ليبيا مثلا) أذن أنت مع القدافي أو وحتى: أنت مع الاستبداد. والأمثلة كثيرة في اليمن ومصر وغيرها (؟!).

6-يجري الحديث "الأيديولوجي" المضلل عن "الديمقراطية" بالتعريف. ويقصدون "الليبرالية" منها، والحال أن هذه أسوؤها، والحال أن ثمة ديمقراطيات، والحال أن العبرة لا تكمن في أشكالها وحسب بل وفي مضامينها بالأحرى. فهذه أميركا (أو حتى إسرائيل) يخفي نظامهما "الديمقراطي" إرهابيتهما، بل وهذه سويسرا "مرحاض" الرأسمالية العالمية، تأخذ ب: "الديمقراطية المباشرة" وعندما يستعيرها منها بلد عربي، يعتبر مستبدا (؟!) 

7-تمة خلط مقصود بين مرحلتين وحالتين.. من الديمقراطية، مرحلة "الانتقال الديمقراطي" وهذه تشترط التوافق الوطني والحوار الأهلي. لا الإقصاء الذي ينسجم مع حالات "التحول الديمقراطي" (سواء بالصناديق، بالشارع أو بالعنف) وجميع أقطارنا تعاني من مخاض "الانتقال" لا "التحول" وفرق كبير بين المقاصد في الحالتين، وبين الوسائل نتيجة لذلك.

تلكم فقط، أمثلة متفرقة وغير مرتبة، للتدليل على دور الوعي في تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر، إذا كان موضوعيا وواضحا، والعكس إذا كان مضببا ومغلوطا. والاستعمار اليوم يستثمر أسلحة تضبيب الرؤية والبلبلة والتعميم وخلط المفاهيم... لأجل السيطرة على الأذهان، مقدمة للسيطرة على الأوطان وعلى الأبدان. وجدارة النخب بالنسبة لشعوبها هو قيادتها على هذا المستوى، لا النيابة عنها في النضال، فهي أولى به وأقدر. ولذلك فلقد كان الأنبياء والصلحاء والزعماء... الناجحون في التاريخ، هم بالضبط أولئك الذين أنجزوا، وفي كل حين ومنعرج، هذه المهمة بكفاءة ودون يأس أو وجل عن المراجعة والنقد والاجتهاد، ودون انفعال أو شعبوية، ومتابعة تطورات الواقع ومكر الأعداء فيه، والجواب على أسئلتهما وتحدياتهما..

-4-

إنه لا يجوز بحال أن ننسى أننا في شروط حرب، وهي مفتوحة على جميع الجبهات وفي جميع الساحات، استراتيجيتها هي نفسها، وتاكتيكاتها مختلفة، حسب المكان وحسب الظرف، عدونا الرئيس فيها هو الاستعمار أساسا وبجميع أشكاله، وما الاستبداد والظلم والفساد سوى مظاهر له وأدوات لاحتلاله واستغلاله. وإذا كانت الحرب خدعة فهو أثبت دائما إتقانه للخدع، ولعل من أخطرها، سرقته لأسلحتنا السياسية واستعماله لها ضدا على أوطاننا وعلى جماهيرنا.

وكما أن الاستخبار لم يعد يقتصر على الإدارة والسياسة والاقتصاد، بل توسع نحو الايديولوجية والثقافة... فكذلك، الدس والاختراق... لم يعد بالأشخاص بل أيضا بالمفاهيم والأفكار والشعارات... لا تشبه الحالات والساحات العربية بعضها. التعميم والأحكام المطلقة في هذا الصدد خطأ جسيم وتشويش للرؤية وللتحليل والتقويم... خطير، لا تشترك تحركات الشارع العربي الراهنة سوى في القليل مقارنة إلى اختلافاتها. ومن ذلك: دور الخارج في التوجيه، وحتى المساهمة في التدبير، واقتصارها على المدن، وضعف مشاركة العمال ونقاباتهم، وكذلك وهو الأهم، تأثير الوعي الشعبوي والصيغ الفوضوية في التنظيم والتفكير...

إن موروثنا الفكري، الايديولوجي والسياسي عن ماضي العرب وعموم الإنسانية المناضلة في تاريخها الحديث والمعاصر... لم يعد يجدي كثيرا في فهم وقائع الراهن، وأحرى فهم مكر وخبث ودهاء الرأسمالية الامبريالية اليوم، وتابعيها من الامبرياليات الصغيرة والرجعيات الذيلية. لم تتغير الأهداف كثيرا، ولكن الوسائل تكاد تكون قد انقلبت... ولأن الاستعمار في طور الاحتظار.. فإن عنفه يتضاعف وحقارته تزداد.. فعلينا لذلك انتظار الأسوء والاحتياط للأخدع.

لاشك في الطابع العفوي والشبابي لحركات الشارع العربي الانتفاضية، ولكن من يستطيع أن ينكر أن ذلك كان، بعض منتوج قمع، بل وقتل العمل الحزبي والحياة السياسية وتفتيت النقابات... وكل ذلك وغيره تم برعاية من يتحدثون في الغرب اليوم عن "الإصلاح" (رمتني بدائها وانسلت) إن ما يعطي الدلالة والمعنى لخطابهم اليوم، هو سلوكهم بالأمس القريب. إن عفوية الحركة، بل وفوضويتها مرغوب فيه من قبلهم. ولنتذكر في هذا الصدد أن "الخط التحريري" لإحدى قنواتهم الأشهر، لم يكن سوى ذلك: الهجوم على الأحزاب والرموز "التقليدية" وتشجيع الرفض لكل قائم... ونشر العدمية و"الفوضى الخلاقة".

بدأ نشر "الفوضى الخلاقة" في الفكر والثقافة والمفاهيم أولا... وذلك بوسائط وأدوات "علمية" كثيفة ومتعددة وطويلة النفس... ثم وقع تمريرها نحو الإعلام بجميع أنواعه وخاصة منه في مصر. وذلك قبل أن تتجسد في الشارع ايديولوجيا وسياسيا، طاقة جبارة، ولكن بدون قيادة حكيمة ومحنكة، وتضحيات حسيمة ومردود متواضع حتى الآن... بل والأخطار جد محتملة في الردة.

لا يتصل الأمر بتقاطع، وأحيانا حتى ،بتطابق عفوي... بين الإرادتين، بل بأمر مدبر وعقل موجه، تمة قيادة إذن للحركة ولكنها خفية وذكية وسابقة التحضير والتمهيد الفكري.. ولم يظهر منها سوى أداوتها الإعلامية المتعددة قنواتا، الموحدة خطابا وتوجيها.. حتى الآن فلقد خسئوا في مصر، وارتد على أعقابه الخيار الأمريكي كبديل (=البرادعي...). ولكن المعركة ما تزال مستمرة، حول من سيقطف ثمار التضحيات، الشعب أم أعداؤه المتقنعين بشتى الأقنعة، وقد يكون من بينها "الإسلام السياسي". وكما يقول المثل الفرنسي "يضحك كثيرا من يضحك أخيرا".

لقد وقعنا في أخطاء كثيرة، أقصد المناضلين الديمقراطين بجميع تياراتهم، ويجب لذلك التحضير لنقد ذاتي عميق وشامل. لقد كانت وما زالت الجماهير تردد في الشوارع شعاراتنا، ولكن ذلك تم ويتم في غياب هيئاتنا وتأطيرنا، أهم الأخطاء في هذا الصدد:

1-قصور العناية بالبعد الفكري – النظري والأيديولوجي... في الثورة التحريرية الوحدوية والديمقراطية... كما في وعي خصومها وأعدائها... بل منا من يسقط في ايديولوجيات وأحضان الأعداء والخصوم...

2-سيادة الانتظارية وعدم المبادرة، بل والوقوع في أنواع من الاستنوام والغفلة وضعف التوقع...

3-استمرار الحلقية والانغلاق... وضعف الانفتاح والحوار بين التيارات العربية الديمقراطية، رغم وجود الإطار.

4-الوقوع في شراك استراتيجية "الفوضى الخلاقة" بل والمساهمة فيها، خاصة من خلال قنوات "السم في الدسم"، الأمر الذي زكى خطابها جميعه لدى الشبيبة العربية واكتسبت بذلك "صدقية" ماكرة.

وبعد، 

فإذا كان الاستبداد من جذام، فإن الاستعمار طاعون و"أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا" (درويش) فـ )اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون(

مراكش 22/05/2011

Share this content:

*)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: