انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
"مقتطف من مذكرات العربي مفضال "زهرة العمر
في حوار: بوعشرين

والرد على <<البوعشرينية>>

لطالما ترددت في الدخول في نقاش، أو حتى سجال، مع السيد توفيق، وذلك على كثرة المناسبات، ذلك لأنني اعتبر في الموضوع أمريين: 1- تقديري لإسهامه في إعادة الاعتبار للفكر والثقافة للصحافة المغربية. 2- ان اختلافاتنا في الداخل الوطني هي تانوية جدا. فلا يجوز لذلك إضاعة سهام النقد في من لا يستحقه (؟!)

غير أن افتتاحية <<انه مغربي يا سيادة القاضي>> (ع: 2509) حرضتني لحسم ترددي في اتجاه الحوار والرد أحيانا.

أولا: حول مسألة الوطن والوطنية. وأخطار تطرفها نحو: العنصرية والشوفينية والفاشية؟ 

  1. 1-1-  يعتبر الاستاذ الوطنية: إحساس / ويستصغر لذلك هذا البعد "العاطفي" (؟!) مقارنة في نظره إلى البعد "العقلي" وكأن تمة تناقض (؟!) والحال أن الأمر ليس كذلك ضرورة. وفي محاولته الابتعاد عن <<الدلالات الفلسفية للمفهوم>> (؟!) يقتصر على المعطى الجغرافي. (الأرض والحدود) والمعطى الثقافي المشترك. وهذا صحيح وحيد. غير أنه لا يقف عند بعد المصالح المشتركة. والأهم، البعد التاريخي. العدو الرئيس لجميع <<الفلسفات المتالية>> إقطاعية كانت أم بورجوازية...

ليست الأوطان وليست الوطنية بالحدث النفسي ولا بالأحرى الثقافي. بل هي منتوج اجتماعي – تاريخي حديث، بل هو مظهر من أهم مظاهر الحداثة.

في النظام السياسي السابق على الأوطان والدول الوطنية، كان السائد هو النظام الامبراطوري غالبا. وذلك سواء في العصر القديم (العبودي) أو الوسيط (الاقطاعي) وكان الرابط للولاء والانتماء في هذا الاخير من طبيعة عقدية لا سياسية، لا حدود جغرافية بل ملية.  اقطاعيون يحكمون امارات، وعلى رأس الدولة الإمبراطورية، تحالف بين سلطتين: رجال الدين من جهة وملك الملوك (= الامبراطور) من الجهة الثانية .

في التجربة الاوربية المكتملة تاريخيا والمدروسة أكثر. حدث أن التأسيس التدريجي للطبقة الوسطى، التجارية أولا ثم الصناعية لاحقا. لم يكن ذلك الاطار السياسي، يلائم صعودها ومطامحها. فثارت عليه، وحطمت أسسه العقدية وحدوده الاقطاعية، وثقافته (= المثالية) التي أضحت رجعية. مقارنة إلى منجزات العلم والتنوير والآداب الفصحى القومية الحديثة. وانتهى الأمر بتأسيس الأوطان والدولة المركزية والعلمانية ثم الديمقراطية الحديثة، ومن تم تأسيس المواطنة... والتي من مظاهرها الاحساس الوطني، والاعتزاز بالوطنية، والاستعداد للتضحية من أجل حمايته وحمايتها. وهي عواطف غاية في النبل، وغاية في العقلانية في شروطها التاريخية. والممتدة اليوم في شروط الأوطان المستعمرة أو شبه المستعمرة. مثل حالتنا المغربية والعربية وعموم الإسلامية.

  1.  أما بالنسبة لشروطنا الاجتماعية التاريخية الخاصة. فهي مختلفة كثيرا عن شروط التأسيس للأوطان وللوطنيةفي الغرب الرأسمالي عموما. ومن تم فلا معنى للحديث عن أخطار التعصب أو التطرف وأحرى السقوط في: العنصرية أو الشوفينية أو الفاشية بالنسبة لنا (ولا مقارنة حيث الاختلاف). وهي الجريرة الأكبر لجميع أنواع الاستشراق ؟!

شعوبنا ودولنا ما أن بدأت الحبو نحو النهضة ثم الحداثة، حتى غزاها الاستعمار. لقد مثل فجر الحداثة بالنسبة للشمال الأوربي. ليل الاستعمار بالنسبة لجنوب الأبيض المتوسط، ولا يمكن لذلك فهم (أو إصلاح) أحدهما دون إدخال الآخر في الاعتبار سلبا وإيجابا.

لقد تأسست أوطاننا ووطنيتنا بحدود مصطنعة وغير موضوعية (= جغرافيا طبيعية وبشرية وثقافية وتاريخية...) ونتيجة موازين القوى بين الامبرياليات في القرن 19م وما تلاه وحتى اليوم.

وأيضا فإن شرط تأسيسها (الوطنية) الذي هو تأسيس المجتمع المدني أولا. لم يتم عندنا ضدا على <<المجتمع التقليدي>> (= الاقطاعي) ولا في مواجهة الإدارة والإيديولوجيا... التقليدية، كما حدث عندهم. بل بتوظيفهما، والتحالف معهما أو إصلاحهما،... لا الصراع معهما، وهو الأمر الذي ما يزال مستمرا للأسف. وذلك خاصة بسبب استمرار التدخل الأجنبي، والعدواني غالبا.

وإذن، فنحن، شعوبا وإدارات دول، في شروط دفاع ومقاومة، لا هجوم وعدوان وتوسع كما حدث بالنسبة للرأسمالية الغربية. التي تحولت من الحدود الوطنية إلى النزعة الاستعمارية ومنها الشوفينية والفاشية والنازية. التي حذرتنا من أخطار السقوط فيها، (؟!) فما ابعدنا عنها نحن الذين لا نطالب اليوم سوى بما حققوه هم منذ قرنيين على الأقل الا وهو: الاستقلال والوحدة القوية والثمينة والديمقراطية.

  1.  تمة في <<الافتتاحية>> خلط ضار بين تلك النزوعات والايديولوجية الاستعمارية (الشوفينية، الفاشية...) وبين الوطنية، ذلك لأن الرأسمالية الأوربية ثم الأمريكية عندما "اضطرت" للتوسع، تخلت عن صفتها الوطنية لتصبح ذات طبيعة عدوانية استعمارية، ليس فقط في مواجهة الخارج. بل والداخل الوطني أيضا. لقد أضحت في حالة تنافي مع شرطها التأسيسي ومع خطابها الوهمي والتوهيمي (ايديولوجيا التفوق والتمسيح والتحديث...) يقول ماركس بهذا الصدد <<إن أمة تستعمر أخرى، لا يمكن أن تكون هي نفسها حرة؟!>> وذلك عمق ما حدث ويحدث لشعوب الغرب جميعا، وإن لم يكونوا يعلمون. وذلك بفعل التضليل <<الثقافي>> والإعلامي... الايديولوجي المكثف و<<من المهد إلى اللحد>>.        

والحال ان اكتساب حقوق ومزايا <<المواطنة>> بالنسبة لشعوبنا نحن، ارتبط بالنضال الوطني ضدا على الخارج الاستعماري. أي أنه ارتبط بالوطنية، أي بالنضال ضدا على الرأسمالية الاستعمارية وأمراضها الإيديولوجية (شوفينية– فاشية...) أكثر منه ضدا على التقليد والمجتمع التقليدي (اقطاعي – قبلي – ديني...) والتقليدانية، وهو الأمر الذي لا يزال مستمرا في المرحلة الجديدة للاستعمار والامبريالية. ؟!

  1. 1-4-                 وعلى سبيل التدقيق في المفاهيم والمصطلحات، فإن الفاشية والنازية ليستا <<وطنية، متعصبة ومتطرفة أو <<رد فعل>> على "كبرياء وطنية جريحة" (؟!).

ذلكم محض خطاب ايديولوجي لتضليل الشعوب وتعبئتها وتحريضها للتضحية <<الانتحارية>> ضدا على مصالحها وعلى حاضر ومستقبل أوطانها (؟!) وعلى حساب أوطان ودول وشعوب أخرى بعيدة أو حتى أحيانا في الجوار الجغرافي والثقافي... منها.   

إنه إذا كان النظام <<الديمقراطي>> وقواعده وقيمه ومؤسساته... هو منتوج تاريخي لوضع اجتماعي تكون فيه علاقات فئات الطبقة الوسطى القائدة للمجتمع ولإدارة الدولة ذات طبيعة متكافئة (بورجوازية: تجارية/ عقارية/  فلاحية / صناعية / مالية... الخ). بحيث لا سبيل إلى تلافي اصطدام مصالحها المتباينة وحتى المتناقضة. بغير ما تسمح به آليات الديمقراطية من صراع دون دماء وذلك في ما يشبه <<اللعب>>أو ما يسميه التجار المغاربة "العداوة ثابتة والصواب يكون". وهذا هو المعنى الاجتماعي – السياسي للحدث التاريخي المنعوت ب<<الديمقراطية>> ومن تم دخول الحداثة والعصر الحديث. وهو أمر لا علاقة له مطلقا، إلا بالاستعارة اللغوية بما سمي ب<< الديمقراطية>> في العصر القديم (اليونان).

في المقابل فإن حالات الديكتاتورية (الفاشية – النازية – المكارتية – الإرهاب والتوحش اليوم...) هي منتوج هيمنة فئة رأسمالية (المالية غالبا) على بقية الفئات الرأسمالية. وسيطرتها عليها. بحيث تكاد تتطابق مصالحها جميعا في برنامج الفئة الطبقية القائدة. وعندئد فما الحاجة إلى التعددية أو الحريات أو التناوب... الخ والذي لن يستفيد منها حينئذ سوى الشعوب (؟!) لذلك يقع حجبها جميعا، كليا أو جزئيا. وتسود الرأسمالية بالديكتاتورية لا بالديمقراطية، التي تصبح آلية متجاوزة ومعرقلة لمصالح البورجوازيات بجميع أو أغلب فئاتها. غير أنه يقع العمل الحثيث على الاستمرار الشكلي لما لا يضر مصالحهم من قواعدها وقوانينها ومؤسساتها... خاصة على مستوى "الحريات" العامة والخاصة، وليس الديمقراطية (= النموذج الأمريكي) بالأحرى... 

إن الديكتاتورية هي دائما، الوجه الآخر للديمقراطية. ولا يتصوران لذلك وجودا إلا متلازمين. فهما معا إنتاج الرأسمالية ونظامها السياسي. والمنطق المثالي أو الصوري المبتذل، هو وحده يتصور حالة التنافي بينهما. هما متناقضان نعم، غير أن بينهما وحدة في الحضور كما في الغياب. ذلك لأن كل نظام رأسمالي هو ديمقراطي وديكتاتوري في نفس الوقت. والفرق هو فقط في نسبة حضور كل منهما مقارنة إلى حضور الأخرى، وأيضا فعندما تسود الديكتاتورية الرأسمالية على المجتمع أو على خارجه (في صيغة استعمار) فإن ذلك لا يعني بحال أن الطبقة الرأسمالية السائدة، بمختلف فئاتها، لا تخضع ولا تمارس الديمقراطية بين أطرافها ومكوناتها الفئوية الداخلية. متقنعة أو متسترة غالبا...

والأمر بالمناسبة يشمل ديكتاتورية بقية الطبقات الحديثة (العمال / البورجوازية الوطنية...) فهي أيضا تكون ديمقراطية بين مكوناتها. وهذه كانت حالات الناصرية والبعث مثلا و<<الديمقراطية الجماهيرية>>والصين الاشتراكية وروسيا وفنزويلا وايران وتركيا... الخ اليوم.

 التاريخانية والوعي الجدلي للأفكار وللأحداث... وحدهما يستطيعان راهنا فك تعقيدات الواقع وتراكم تناقضاته وصراعات مكوناته، ومن تم استيعابها وحلها بشكل سلمي وتقدمي، لا عدواني استعماري ولا بالأحرى أرهابي ومتوحش... وهو ما انتهى إليه الوعي الليبرالي في ظل توظيفه الرأسمالي. ولا مستقبل اليوم لليبرالية بعيدا عن رهان الاشتراكية وهو ما لا يستوعبه، بل ويحاربه، الوعي المثالي الرجعي وإيديولوجيا الطبقة الوسطى بجميع درجاتها ومستوياتها. وأكثرها بؤسا ومأساوية وشقاء، "البورجوازية الصغرى" من شاكلة أغلبية الأحزاب والقيادات النقابية وخطوط تحرير الإعلام والصحافة المنتشرة في الأقطار المستعمرة وشبه المستعمرة. ومنها المغاربية والعربية خاصة. وهي اليوم ما يتمظهر، أو يتقنع بأقنعة متعددة، ترقيعية وتلفيقية، من مثل ما نحن بصدد الحوار معه. 

  1.  أما مسألة العنصرية ك <<مرض>> أو <<انحراف>> أو <<تشوه>> ايديولوجي. مرتكز على أوهام وأغاليط. فهي مختلفة عن سوابقها السياسية (الفاشية – الشوفينية...) تماما، ولهذا وجب التمييز في العبارة. لا الخلط والغموض والتلفيق كما في <<الافتتاحية>> إياها.

العنصرية ظاهرة قديمة جدا، هي ليست تاريخية، بل هي تعود إلى <<ما قبل التاريخ>> وبهذا فإنه لا تصلح لفهمها أدوات علم التاريخ بل علوم أخرى. غير أنها فعلا تتجدد ويعاد إنتاجها وتوظيفها في كل حين وحسب الحاجة الاجتماعية – التاريخية لموظفيها. سواء باسم الدين أو <<العرق>> (الذي لا وجود ولا معنى له مفاهيميا) أو الطائفة... الخ.  

يبدو في الغالب، أن الاعتقاد أو الإحساس بالتفوق العنصري، كان حالة عامة لدى جميع التجمعات البشرية البدائية، ثم خاصة في مرحلة الانتقال نحو فجر التاريخ. وهي في تلك الشروط، كانت حالة إيجابية. تعكس تفوق جماعة على أخرى أو أخريات. وحقها (بالتالي قدرتها) على التحكم في <<الاغيار>>. ومن تم تعميم وسيادة ما تمكنت بواسطته من تحقيق تفوقها على الآخرين (= الأغيار)، وذلك خاصة باختراع (أو اكتشاف) الأدوات والإشارات الرمزية والرسوم... الخ 

الحالة التاريخية الأكثر نموذجية وخطورة في آن معا، والتي تحولت جذريا من الايجاب إلى السلب. هي التجمعات (=الطوائف) اليهودية (ولا أقول الشعب اليهودي) والتي كان اعتقادها بأنها <<المختارة>> من قبل الله. مبررا ومفيدا وإيجابيا عند التأسيس. ذلك لأنها كانت أول من اعتقد ب <<التوحيد>> والذي يعني في الأرض وحدة البشرية ومساواتها.  في مقابل تعدد الآلهة، الذي كان يعني في الأرض سيادة العنف والفوضى والهمجية... لقد كانوا فعلا وعند التأسيس مثالا يفترض أن يحتدى ويقتدى من قبل جميع <<الاغيار>> (=الآخر). ومفهوم "الآخر" لذلك هو اليوم، مفهوم رجعي عنصري وفاسد (؟!)

التجار اليهود الذين كانوا هم أنفسهم رجال الدين (= الاحبار) حرفوا الأطروحة الأصلية، وارتدوا نحو الوثنية (من عبادة البقر إلى عبادة المال ومن عبادة الموتى إلى عبادة الأحياء والأشياء) وعلى أيديهم تحولت <<المختارية>> أو <<الخيرية>> إلى عنصرية مقيتة. وانتقلنا من الفضيلة إلى الرذيلة. ومن الدين إلى التدين ومن الفطرة إلى الإيديولوجيا الدينية (؟!)

ترى ما هو المقصود من هذا التوقف؟ المقصود :

  • أن الاعتقاد ب <<المختارية>> أو <<الخيرية>> لا يصيب إدارات الدول وحدها، وبالتالي الأقوياء، بل يمكن أن تسقط في وهمه <<أمراض>> المجتمعات أيضا وبالتالي الضعفاء. وذلك كنوع من الاحتماء والدفاعية والانعزالية والتقوقع على الذات (= الملاح والقبيلة مثلا) بوهم حماية قيمها وتقاليدها (= مصالح تجارهما في الحقيقة).
  • إن جدل <<السيد والعبد>> يشتغل دائما، وفي الاتجاهين معا، ومن تم فإن النازية، والتي ليست هي سوى ايديولوجيا <<الرأسمالية المالية>> الألمانية. وقد احتكرت وتحكمت في الطبقة جميعا، بغض النظر عن فئاتها وتعدد وحتى تنوع مصالحها الاقتصادية، بل وعلى بقية الطبقات في الشعب الألماني. بايديولوجيا شوفينية (=بعث واسترجاع كرامة الأمة الألمانية) بالعدوان على الحقوق القومية لشعوب أخرى (؟!). هذه الرأسمالية ستجد أمامها منافسا، بل ومعرقلا عتيدا وعنيدا. هم تجار المال اليهود، ولأنهما معا من طبقة واحدة، والصراع بينهما هو من قبيل المنافسة (أو المدافعة) لا التنافي أو التلاغي... ولأن قانونها (= البرجوازية) الرئيس يتمثل في <<التقليد>> لا في التجديد والابتكار (=نظرية ابن خلدون ثم خاصة المفكر الفرنسي المعاصر رونيه جرار: "المنافسة عن طريق التقليد" ؟!) فإن الرأسمال المالي الألماني لم يعمد فقط إلى سلب أموال من رفض من التجار اليهود الانخراط في مشروعه (وهم قلة هربوا إلى أمريكا) بل عمد أيضا إلى تقليد <<اليهودية المحرفة او العنصرية، وذاك في صيغة <<النازية>> والعديد من أولئك التجار والأحبار <<اليهود>> لم يجدوا غضاضة في التحالف، بل وحتى الاندماج، في المشروع النازي وعقيدته العنصرية. وكانوا هم بالذات من يدلوه على ضحاياه من اليهود الأتقياء أو المناضلين (شيوعيين واشتراكيين) وكانوا الأغلبية. وما كانت المخابرات الألمانية لتميزهم عن غيرهم من الشعب الألماني إلا بوشاياتهم (الرأسماليين اليهود) ذات المراجع الإيديولوجية – الطبقية، لا الدينية بالأحرى (؟!)   

<<المحرقة>> لذلك، هي أضخم أسطورة في عصر الحداثة الاستعمارية. لم تكن موجهة أساسا لليهود بصفتهم الدينية، بل الاجتماعية – الإيديولوجية. لقد كانوا مستهدفين ككادحين من جهة، وكمناضلين يساريين من جهة ثانية، ومن أجل التغليط وتضبيب الرؤية على الشعب الألماني وتحريف بوصلته... وقع الترويج للخطاب العنصري – الديني، وما يزالون، لأجل توحيد مصطنع لمجتمع (اسرائيل) هذه المرة، وذلك بعد تجريبه بنجاح في توحيد <<الأمة>> الألمانية لمصلحة رأسماليتها، وعلى حساب صراع طبقاتها الكادحة وذلك بتصريف طاقاتها ومطامحها النضالية نحو شعوب مضطهدة هي الأخرى لا نحو الطبقة الرأسمالية السائدة.

  • وإذن، فإن القديم في المجتمع والثقافة والتاريخ (العنصرية مثلا في حالتنا) لا يموت بمجرد انتصار الجديد عليه. بل يستمر متشبثا بالحياة، يحتضر ولكنه يقاوم. رجعي، غير أنه يتلبس ويتقنع ويخادع ويتمظهر بغير حقيقته ووظيفته (أو وظائفه) الجديدة. وهذا بعض ما يعنيه مفهوم <<إعادة الإنتاج>> للأفكار والإيديولوجيات والمجتمع... 

في المغرب الحديث والمعاصر، نجد الكثير من ذلك. إن القانون الرئيس لإدارة الدولة والتوجه العام لمسيرة المجتمع. هما ترسيخ الحدود الحقة للوطن، وتعميق وتوسيع قيم وأخلاق الوطنية والدولة المركزية (لا الجهوية) والديمقراطية، وما يعرقله موضوعيا في هذا السبيل، هو مخلفات وبقايا النظام المخزني الموروث وبعض قيمه وتقاليده. والوجه الثاني لذلك (=القفا) هو وضع التبعية وسيادة الفرنكوفونية. وعواقب صراعات الأمبرياليات على سوقه وعلى عقول ووجدان وأخلاق مواطنيه. وبالطبع فإن المنتوج المحتمل لكل ذلك، هو فشل رهان <<الانتقال>>، والردة نحو الاستبداد ودولة الأمن، أما حديث <<الافتتاحية>> عن أخطار العنصرية والشوفينية والفاشية... فهو من قبيل <<حديث خرافة>> (= حديث رأسمالية الدولة الجزائرية وضحاياها من مضللي الجنوب المغربي، عن المغرب ؟!)    

في المقابل، ونقيض خطاب <<الافتتاحية>> إياها. فإن المهدد موضوعيا بالعنصرية. وما يرتبط بها من انعزالية وتقوقع وإحساس بوهم التفوق (قبلي أو جهوي أو لهجي – فولكلوري...) هو المجتمع لا إدارة الدولة، وذلك عندنا أو عند غيرنا من أمثالنا. وما حالة <<بوليزاريو>> إلا نموذج لاستغلال خارجي رجعي وتوسعي، لوضعية استعداد انعزالي وعنصري (قبلي وجهوي) لدى بعض ضحايا <<حداثة>> تقليدانية و <<وطنية>> قبلية (؟!). وهو نفسه ما نجده قائما، وبإرادة رجعية واستعمارية في مشيخات الخليج العربي، وفي النظام الطائفي اللاديمقراطي في لبنان. وما يراد تعميمه في العراق وعموم الشام وفي الشمال الافريقي ومنه المغرب (= حديث الدستور عن المكونات... الثقافية <<للمغرب وللمغاربة>> / <<مجلس اللغات...>> / الجهوية <<الموسعة>> و <<المتقدمة>> نحو الفدرالية: القبلية والجهوية... الخ) مما يعتبر الغاما، بعضها موقوت وبعضها غير موقوت.

الظاهرة الاستعمارية لا تشجع مستعمراتها على الاندماج والوحدة الوطنية، بل على العكس، تعمق فروقات مكوناتها، وتشجع خطاباتها العنصرية والاستعلائية والانعزالية والقبلية (ماقبل وطنية) (قاعدة فرق تسد).

لنتذكر أنهم سبق لهم أن قسمونا إلى 7 مناطق سياسية (موريطانيا / الصحراء الغربية / الصحراء الشرقية/ الوسط المخزني / الشمال / المدينتان والجزر / ثم طنجة الدولية). فكيف سيتردد الاستعمار الجديد اليوم عن اقتراف ما هو أجرم وأخطر. خاصة وأزمته (= أزماته) هي اليوم، أعمق وأشمل من سابقتها التي دفعته إلى تنقيلها (= تصديرها) في النمط الاستعماري القديم لاحتلاله أراضينا وثراوتنا، وانتزاعه سيادة إدارة دولنا.

لقد علمتنا تجربة الاستعمار القديم أنه يقتحم حصون الدولة من أضعف حلقاتها. ذلكم هو المجتمع نفسه وبالذات، وذلك لقلة انسجامه وكثرة ىتناقضاته، وسيادة المظلومية على الكثير من مكوناته. وافتقاده عموما إلى نخبة عالمة وخبيرة وواعية ووطنية تحميه وتحصنه وتقوده. وذلك مقارنة إلى الإدارة (المخزنية في حالتنا) والتي تعتبر أكثر انسجاما في بنيتها، ووعيا لمصالحها، وخبرة بالسياسة الدولية، وهذا هو ما يفسر كون الحماية اقتحمت المجتمع المغربي (شيوخ القبائل والزوايا والتجار...) قبل وفي سبيل سيادتها على إدارة الدولة المخزنية نفسها وذلك بوهم <<حمايتها>> من <<فتن>> المجتمع التقليدي، والعصيان الضريبي للمجتمع المدني (؟!) مع أنه هو من كان وراء الموقفين والسلوكين اللاوطنيين لتجار المدن وشيوخ الزوايا والقبائل (؟!)

  1.   أنه لا يجوز بحال أن ننسى أو نتناسى، أن بالجوار منا دولة استعمارية ما تزال. بل هي فعلا تستمر بصفاقة في احتلال أطراف عزيزة وثمينة من مدننا وجزرنا، وتوظفها في ابتزازنا تجاريا وماليا، وفي تشجيع الفساد في أوساطنا (المخدرات)، ورأسماليتها الهجينة تعتبر الممول الرئيس للمهجرين – المحاصرين، وللعصابات المسلحة منهم في مخيمات العار... بل ويجب القول أن اسبانيا اليوم، هي قرينه <<اسرائيل>> في كونهما آخر مظاهر نمط الاستعمار القديم استمرارا في عصرنا. وهو ما يفسر كذلك أن<<انتقالها الديمقراطي>> لم يكتمل بعد في الداخل الاسباني نفسه. وأحرى خارجه (؟!)   

إن مسألة جنوبنا الصحراوي الذي يستنزف اقتصادنا ومجتمعنا ويعطل معركة الديمقراطية في وطننا، هي صنيعة الرأسمالية الاستعمارية الاسبانية، والتي حاولت في الأصل، متحالفة مع أمريكا، تأسيس كيان سياسي يلعب في المغرب أدوار كيانات المشرق القزمية بالنسبة للدول الوطنية هنالك (مصر، العراق وسوريا...) وآخره دويلة "جنوب السودان".

بل وان الوثائق الامريكية التي رفع عنها الحجب مؤخرا، فاجأتنا بأن المخطط الاسباني إياه، شمل شمالنا الوطني أيضا، وباتفاق مع الخليفة السلطاني نفسه آنذاك، وذلك خلال أزمة (1953) مستغلين مناخ المؤامرة الفرنسية– الاقطاعية ضدا على المرحوم محمد 5 (اعتقاله ثم نفيه) ولولا المقاومة الوطنية الشجاعة والحاذقة، لقضى الأمر حينها، ولكنا اليوم نطلب التأشيرة في ما بين المنطقتين (؟!) ترى، ما الذي يمنعهم في زمن الاستعمار الجديد من تكرار نفس المحاولة (؟!) إن الاستعمار هو نفسه، حديثه ومعاصره ولا سبيل للتحرر منه، سوى بمقاومته وعيا وموقفا ونضالا 

في الحاضر الاسباني تمة قوتان رجعيتان متحالفتان في إدارتي الدولة والمجتمع:   

  • بقايا الفرنكوية في الجيش والأمن والمخابرات. يحنون إلى زمن الديكتاتورية والاستعمار، وهم أنفسهم من حاولوا الانقلاب مرتين على الانتقال الديمقراطي الاسباني الهش (1975) لولا المراقبة والمناهضة والدعم الأوربيين.
  • ب‌-    إعادة إنتاج التراث الرجعي العريق للكنيسة الاسبانية و <<وصية ايزابيلا>> التوسعية، ولعلها بالمناسبة، تعتبر الكنيسة الوحيدة في العصر الحديث، التي لم يمسسها إصلاح حتى يومه (خلاف امتداداتها في أمريكا الجنوبية طبعا). 

في المغرب الراهن لا يجوز للمواطنين، وأحرى الوطنيين منهم، أن تحجب عنهم المخططات الاستعمارية الفرنكفونية أو الامبرياليتين الأمريكية والألمانية... الحضور اليومي للمئات، بل ربما للآلاف، من المبشرين والمخبرين وعملاء اسبانيا في المجتمع الوطني المغربي، من السذاجة أو الغفلة (أو الغرض) عدم اعتبارهم في التحليل، وعدم الحذر منهم، بل وعدم مواجهتهم على جميع المستويات. وأولها الأمن. وهو مشكور على احتياطاته واستباقاته على هذا الصعيد التهديدي الخارجي. ويجب لذلك مراعاة الكثير من تصرفاته وسلوكه وعدم إحراجه، وبالأحرى استفزازه والتشكيك في مهنيته والتي هي جزء من وطنيته، وهي شرط جميع أجهزة الأمن الخارجي في التاريخ وفي العالم. وذلك حتى بالنسبة لدول العدوان، وأحرى بالنسبة لوطنيتنا نحن، وهي في حالة مقاومة ودفاع عن المجتمع وعن إدارة دولته، (وذلك حتى ولو لم تكن ديمقراطية). فما بالك ونحن ما زلنا بعد في تجربة إنجاح الإنتقال الديمقراطي على تعثره وعلى ارتباكه. وذلك غالبا بسبب الاستعمار الجديد ومصالحه ونفوذه. وليس المخزن وحده (؟!).

  1.  إدارة الدولة (جامعات وإعلاما وفقهاء...) والأحزاب والأساتذة <<المختصين>> في الأثرولوجيا وعلم الاجتماع و <<الثقافة الشعبية>> والأدباء (الرواية والمسرح) والفنانين (السنمائيين خاصة) لا علاقة لهم عموما بمجتمعاتهم، ولا يهتمون لذلك بالتعرف على <<أدوائها>> الثقافية والإيديولوجية والأخلاقية... وتحليلها ومكافحتها بالتوعية والتنوير والإصلاح، وذلك من خلال هيئات المجتمع التي لا يمكن أن تكون... مدنية>> بحق وليس فقط <<غير حكومية>> إلا إذا هي قامت ببعض ذلك (؟!) لقد <<ضعف الطالب والمطلوب>> ولم يعد <<المسؤول أعلم من السائل>> و <<استوى الماء والخشبة>> و <<لا حول ولا قوة إلا بالله>>. لقد انشغل (أو شغل) "المثقفون" المغاربة عموما بخويصيات ذواتهم وأسرهم وترقياتهم وبلغو "الكلام" وجمالياته <<الأدبية>> أو حتى بعلومه (= الكلام)... عن وظيفتهم التاريخية وجدارتهم الثقافية. الارتباط بالشعب والعمل معه وإلى جانبه بالقدوة وبالتوعية وبالانخراط... الحزبي والنقابي أو المدني – الثقافي... الخ وذلك كما كان أمر السلف الصالح: بلعربي العلوي والخطابي والفاسي والمختار... ثم المهدي والبصري وعمر والجابري والعروي...
    1. 1-8-  إن تحرير الشعب من الرجعية ومن الاستبداد والاستعمار و"الفساد" يشترط تحريره أولا مما ورثه أو طرأ على وعيه وسلوكه من معيقات إيديولوجية متعددة ومتلونة، ليست الشعبوية والفوضوية والإرهابية... أخطرها. بل أيضا أوهام الحل في الانعزالية العنصرية، قبلية كانت أو جهوية أو فلكلورية أو تكفيرية إرهابية ومتوحشة.

إن نقد الذات، لا يقل أهمية في الحركة السياسية التقدمية. عن نقد الموضوع (= نظام الحكم...) أما مجاراة المجتمع حتى عندما يكون على خطأ. متأثرا بالإيديولوجيا السائدة للنظام وللاستعمار... فهو عين الشعبوية، وهي انحراف أدلوجي لا يقل سوءا عن الفساد وعن الاستبداد (؟!) في عرقلة مسيرة التحرر والاستقلال والتقدم.

  1.  ولأن الشيء بالشيء يذكر، فيجدر بي التوقف، ولو عابرا. عند مسألة سؤال القاضي للمتهم <<هل أنت مغربي؟>>. إن الافتتاحية أولت دلالته في اتجاه <<الاستفزاز>> تأثرا بالمناخ العام الحزبي والحكومي السابق، والذي كان يطرح على حركة الاحتجاج في الشمال أسئلة تشكيكية حول الأهداف وحول الخلفيات وحول احتمالات وجود أيدي سياسية مغرضة وأجنبية (= استعمارية) (؟!). من قبلي، وليس دفاعا عن <<قضاءأعرف سلفا درجات فساده. أطرح أسئلة أخرى>> انطلاقا من حسن نية في تأويل سؤال القاضي: 
  2. لم لا نتصور أن هدف القاضي <<الاستفزازي>> قد يكون هو الحصول على ذلك <<الرد>> الجماعي والمتحمس من قبل المتهمين. دفاعا عن مغربيتهم وغيرتهم عليها. انها قد تكون فرصة لتبرءتهم على هذا الصعيد المطروح كسؤال لدى البعض، عن حق أو عن باطل (؟!)    
  3. مناسبة للتمييز في أوساطهم هم أنفسهم كمهتمين، ان كان تمة تمييز على هذا الصعيد لا يتمناه مغربي.
  4. مناسبة للرد على العدميين في الداخل، وعلى الخصوم والأعداء في الخارج. بأن المغاربة جميعا مهما تعددت أو اختلفت مصالحهم ومواقعهم... لهم غيرة وطنية على مغربهم. 
  5. ب‌-       إنه لا يجوز بحال، ومن قبل الجميع. وخاصة إدارة الدولة، إهمال الاهتمام ببعض مظان الشبهة والالتباس، أو حتى الانحراف في الموقف من بعض رموزها أو شعاراتها (إذا صحت) والتي تثير حق السؤال على الجميع، وليس فقط شخص القاضي، والذي قد تكون لديه معطيات لا يعلم بها إلا هو، وليس مناسبا إعلانها صراحة من قبله، غير أنه لا يجوز السكوت عنها في صيغة <<سؤال>> يبدو ساذجا، غير أنه قد لا يكون كذلك.

وإلا فما معنى بعض التصريحات "العنصرية" ضدا على العرب وعلى العروبة (؟!) وإذا لم تكن صحيحة، فإن المحاكمة مناسبة للتبرؤ منها.

ونفس الأمر بالنسبة ل <<الراية>> إياها، والتي رفعت وحدها. دون الراية الوطنية الواحدة والموحدة، والتي وقع الترويج بأن بعض المتظاهرين (= المندسين) منعوا رفعها، ولم يردعهم أحد من قادة الاحتجاج (؟!)

إن خطاب البعد "الثقافي" لتلك الراية تغليط. ولطالما استعملت <<الثقافة>> إياها مقدمات ل <<السياسة>> إياها. ولم يحدث في التاريخ وحسب علمي، أن ادعى أحد ما يشبه ذلك، السياسة رمزيات. ومن أهم رموز وحدة الدول واستقلالها وسيادتها، هو تميزها ب <<راية>> خاصة تفرزها عن غيرها، ويضحي الجيش بل والشعب بحياته من أجل إعلائها، ويكفيني في هذا الصدد أن أورد نص الحديث الشريف في موضوع <<الاشتباه>> أو الالتباس هذا (؟!) يقول (ﷺ) <<... "من قاتل (= تظاهر في حالتنا) تحت راية عمية (= غامضة، فيها شبهة...) يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة (= جهة أو قبيلة...) فليس من أمتي (= الجماعة الوطنية اليوم)">>.

بالمناسبة فإنني أقدر أن من أهم أسباب انحسار الحركة الاحتجاجية في الحسيمة (لا الريف؟)، وعدم امتدادها، وحتى ضعف نسبة التجاوب معها شعبيا، وأحرى الالتحاق بها، بل والتشكيك فيها من قبل بعض <<المغاربة>> هو تلك <<الراية>> بالذات. وبعض ما رافقها من تصريحات أو حتى شعارات، لم يقع استنكارها، أو بالأقل توضيحها من قبل المعنيين بقيادة الحركة (؟!). (والملاحظة إياها، تشمل حركة <<20 فبراير>> الملغومة هي أيضا)

ثانيا:  بقي في الحوار مع السيد بوعشرين، بعض القضايا الفكرية والتاريخية العارضة في افتتاحيته، غير أنه لا بأس من مطارحتها، على الرغم من عدم سياقيتها. 

فكما وقع بعض الخلط في ما أوضحت رأيي في ضرورة تفكيكه وتمييزه. فكذلك الأمر في الجمع بين حالة نابليون و <<شوفينيته>> والظاهرتين الفاشية والنازية... الخ (؟!)    

إن شرط تحقيق البعد العلمي في كل معرفة، هو أولا التمييز والفرز والتصنيف في المفاهيم، وهو ما تعكسه وتعبر عنه <<المصطلحات>> في كل حقل معرفي، في حين أن سبيل الإيديولوجيا دائما هو الخلط والتعميم...

إنه لا علاقة لذلك، وأحرى تطابق، بين الحالتين والمرحلتين. لقد كان نابليون كما لخص حالته ودوره، مؤسس الحداثة والتاريخانية على مستوى الوعي والمنطق، الفيلسوف هيجل، معتبرا نابليون "تجسيدا لروح العالم/ وتشخيصا لجوهر الحرية" هذا مع أنه غزا ألمانيا وطنه. ونفس الأمر بالنسبة لبتهوفن وسمفونيته 5 التي تحاكي في أصواتها، وقع حوافر خيول جيش نابليون الفاتح وليس المستعمر.

في آخر مؤلف له حول نابليون (4 أجزاء) يقف عضو الأكاديمية الفرنسية المعاصر (ماكس غالو) عند منجزاته التاريخية، أهمها في ما يخصنا، وضع حد للفوضى والإرهاب الذي أعقب الثورة الفرنسة. وتأسيسه إدارة دولة الثورة (بنك فرنسا – القوانين المدنية – الإدارة الترابية الجديدة...).

 لقد استخلص نابليون أن شرط الدفاع عن قيم الثورة ومؤسساتها، هو المبادرة إلى فتح قلاع الرجعية الاقطاعية المحيطة بها في إيطاليا وألمانيا والنمسا وروسيا واسبانيا... وأيضا فإنه لا سبيل لمنع الحروب بين دولها المستبدة والتي امتدت لعشرات السنين، سوى توحيدها (وهو ما حصل لاحقا).

لم تكن الرأسمالية الفرنسية في حينه، في شروط التوسع الاستعماري أساسا، بل في شروط الدفاع ونشر أفكار التنوير والثورة، وتحقيق الوحدة القارية على حساب أنظمة الاستبداد والرجعية الإقطاعية، وما أبعد ذلك عن <<الشوفينية>> والتي إذا كان لها حضور حينها فعلا، فهو ثانوي عارض، لا رئيسي فاعل. 

وحتى في الحالة العربية (مصر ولبنان) فلقد كان لحملته عليهما إيجابيات الصدمة الحضارية الموقظة ولم يتحالف مع الاقطاع المملوكي. كما عمد إلى ذلك الاستعمار الفرنسي لاحقا، بل هزمه عسكريا، وسمح موضوعيا لبدائله بالتأسيس أو بالاستقواء.

وعلى سبيل التشبيه والتمثيل لأجل التوضيح، فلقد كان هجوم قبائل الشمال الأوربي <<الهمجية>> على روما ذات النظام العبودي (القرن 5) فتحا تاريخيا وتقدميا جبارا (لا استعمارا) وانطلاقا منه، تأسست ثقافة وحضارة العصر الوسيط الاقطاعي المتقدم بما لا يقاس مقارنة إلى العصر العبودي قبله (الفلسفة المدرسية والآداب الكلاسية...) 

ونفس الأمر بالنسبة للفتح العربي اللاحق عليه، والذي استأنف نفس المهمة التاريخية العظيمة لقبائل الشمال الأوربي. وذلك بتحريره شعوب الشرق (فارس وبيزنطة) والأبيض المتوسط، من العقائد الوثنية والمانوية والسحر والأسطورة والخرافة... ومن نظم الاستعباد التي كانت سائدة عليها جميعا قبل الفتح الإسلامي (الذي لم يكن هو أيضا استعمارا بحال).

توضيح: الاستغلال هو غير الاستعباد وغير الاستقطاع، وهو لا يتصور حضورا وسيادة، بدون وجود <<فائض القيمة>> وهو ما يشترط وجود "القيمة" أولا (= مجموع العمل المصروف اجتماعيا في إنتاج سلعة). وهذا أمر لم يحدث قبل القرن 17. ولذلك فلا استغلال بالمعنى العلمي، قبل هذا التاريخ (؟!)    

أما الاستعمار، وهو استغلال "الفائض الاقتصادي" فهو لذلك لا يتصور وجودا قبل القرن 19، فلا يجوز لذلك الخلط بين الاستغلال (ومنه الاستعمار) وبين الأنماط الأخرى من <<الاحتلال>> والتوسع الاقطاعي أو العبودي الامبراطوري ( وهو غير الامبريالي) ان الخلط في المفاهيم، وعدم التدقيق والتمييز في المصطلحات. يفسد التحليل ويحبط من تم التدبير السياسي والثقافي وغيرهما...[    

ثالثا:  إن مناط فهم الاختلاف، وبالتالي احتمال تقريب الخلاف، مع السيد بوعشرين وأمثاله كثير. يكمن في الأهم التالي من المفاهيم والتصورات والاقتناعات ذات الطبيعة الإيديولوجية، وليس أساسا المعرفية. مع ان هذه تعتبر فاعلة ومؤثرة.

  • الوعي التاريخاني وما يقابله ويواجهه، فمنذ ابن خلدون على الأقل، مرورا بمنظر ومؤسس حداثة الفكر والوعي... (= هيجل)... أضحى ممكنا الحديث عن المفاهيم "العلمية" في حقل الانسانيات، وإطارها الأهم والأشمل علم التاريخ. الذي وضعت له قواعد موضوعية (نابعة منه هو نفسه) لفهم حركته، وتفسير سلوك المجتمعات والدول داخله. ومن تم تجاوز التفسيرات النفسية (المزاجية- البطولة) أو الدينية أو الثقافية... الخ. والحال أن الافتتاحية تمتح من جميع هذه المراجع الأخيرة المتالية والمتجاوزة. وكان الله في عون العروي، فلطالما نبه وجأر بالتاريخانية سبيلا للفهم ومن تم للإصلاح والتغيير، ولكن دون طائل (؟!).
    • الوعي الثنائي - المانوي، والسابق لوعي وعقيدة التوحيد <<الجدلية>> (= وحدة التناقض). وهو تفكير مطلق ميكانيكي وحدي، يضع الخير والفضيلة والحقيقة... في جهة، والشر... في الأخرى، ويفسر كل حدث أو أمر أو شيء... بتصارعهما الأبدي (= ملائكة وشياطين) والحال أن تعقيدات الوقائع وتناقضات مكوناتها لا تفيد ذلك، ولا تسمح بفهمه وأحرى تغييره، ومن ذلك في حالتنا، اعتبار إدارة الدولة شر مطلق، والمجتمع نقيضها. وهذا غير صحيح طبعا، ويكفي لتسفيهه، ان الإيديولوجيا السائدة في المجتمع نفسه، هي غالبا إيديولوجيا الطبقة السائدة (أو حتى التي قبلها، والأكثر تخلفا ووثنية... عنها) وذلك فضلا عن الإعلام الاستعماري المتوحش <<وثقافته>> الرجعية... السائدتين.

 وفي المقابل فإن إدارات الدول عموما، هي على علاتها، تهمها وحدة التراب الوطني مثلا (الصحراء في حالتنا) واستمرار القطاع العام وسيادته (فوسفاط – سكك – خطوط – بنوك...) ذلك لأنها تستفيد منه أكثر طبعا. غير أنه يفرض عليها التشبث ببعض قيم الاستقلال والسيادة الوطنيين وذلك فضلا عن تمويل صناديق الدعم (التعليم– الصحة – بعض السلع) ومن تم تنفيس الصراع الاجتماعي (الجهوي والطبقي والفئوي...). ويبقى خلافنا معها (الإدارة) طبعا في قضايا الديمقراطية والحكامة والنزاهة... الخ 

  • مثل ذلك "الوعي" وغيره يسقط في ما هو أسوء... <<الشعبوية>>. اعتبار كل ما يصدر عن <<الشعب>> سديدا وصائبا، وهذا خطأ جسيم. فالشعوب طبقات وفئات وهوامش... ومن تم مصالح، منها المشتركة (الوطن–الديمقراطية) ومنها الخاص، والذي قد يكون متناقضا مع بقية مكوناتها. والشعب هو فضلا عن ذلك، يحتاج إلى تأطير وإلى توعية بل وإلى تربية تأتيه من خارجه (نخبه) (في المغرب 3 مليون قمار مثلا ؟!) ونحن نعرف ما آلت إليه النقابات والأحزاب وارتزاقية بل وعمالة الكثير من جمعيات المجتمع وانتهازية وجبن الكثير من <<المثقفين>>... الخ فكيف يجوز لنا تصور شعب لا يخطئ ولا ينخدع ولا يخترق ولا يوظف، ليس من قبل الرجعية وحسب، بل والاستعمار الجديد فوق ذلك (؟!).

إن أسوأ خصوم الشعب، هم الشعبويون، لأنهم يزكون سلوكه ومعتقداته كيفما كانت. ولا يصارحونه ولا يساهمون في تنبيهه وتربيته وتوعيته ولا يمارسون معه <<النقد الذاتي>> الصريح والمستمر؟ أليس<<بوليزاريو>> مثلا هم جزء من الشعب (؟!) غير أنه مضلل وموظف... لغير مصلحته (؟!) 

وما بالكم بالمساهمة الرجعية والقذرة التي <<اضطر>> إلى اقترافها بعض "المغاربة" المعدمين وغير المؤطرين فكريا (دينيا) وساسيا. اتجاه الشعب الاسباني ومقاومته المجيدة في ثورة (36-1939). وعلى أيديهم وبقيادة "المارشال" محمد امزيان. تم اغتيال غارسيا لوركا والمذبحة المريعة التي عمت ساكنة مدينته، لقد كانوا هم أيضا جزءا من الشعب المغربي. ولكن بوعي ديني وايديولوجي بائس، متخلف عائلي – قبلي– جهوي... رجعي واستعماري (؟!)   

  •  والأخطر من كل ما سبق، هو السقوط في <<العدمية>> الوطنية باسم <<العولمة>> وعن طريق قضايا الحريات / وحقوق الإنسان / والحكامة / والديمقراطية (؟!)

منذ بروز الظاهرة الاستعمارية، تراجعت في الأهمية والأولوية العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية... لمصلحة الوطنية وتحرير الأوطان واستقلالها وسيادة إدارات دولها، وهنا مفترق الطرق في التاريخ المعاصر جميعه (الفاسي / الوزاني - مصالي الحاج / بو ضياف مثلا) وكما لا تتصور التنمية الشاملة في ظل الاستعمار (ما عدا إذا كانت استعمارية وظيفية) فكذلك لا تتصور الحريات والديمقراطية إطاره، وهذه هي اليوم جوهر معضلة غزة والسلطة الفلسطينية مثلا. وبالتبعية، فإنه لا يتصور ديمقراطي حقا وهو عولمي عدمي وغير وطني. وهذه عندنا معضلة المتياسرين (= التروتسكيين بوعي أو بدونه) وبعض الإسلاميين، وهو أيضا ما يفسر تقاطعهما وأحيانا تطابقهما سياسيا، رغم وهم اختلافاتهما، أو حتى تناقضاتهما <<الإيديولوجية>>. إن كل خطاب متضخم (متورم) عن الفساد والاستبداد و... وحدها، يخفي موضوعيا وبالضرورة الحديث عن الاستعمار وفضحه، والحال أن هذا الاخير، هو المسؤول عن جميع مفاسد عصرنا، ومنها الاستبداد والمخزنة... فهي فروع منه لا أصول، (؟!). وهذا هو بعض أسرار فشل <<الربيع>> إياه، وعدم التحاق الشعوب بحركته. وانكشاف عوراته وانحرافاته لاحقا وأصابع الخارج الاستعماري في بعض مساراته، ثم تشوهاته وهزائمه المتلاحقة بما في ذلك من أطلقه أولا (تونس).

  • لعل من درر <<نيتشه>> على قلتها، مقولته الأشهر <<إن كل خطاب أخلاقي، هو في حقيقته، لا أخلاقي>> (= أخلاقوي) وهذا أمر يثبته التاريخ وتثبته الوقائع، ومن ذلك خلط التدين (=الأخلاق) بالعمل السياسي لدى البعض. ما عدا إذا كان النضال السياسي وطنيا (حالة حماس والجهاد، وسلفيتنا عندما تأسست وطنية).

إن الصراع السياسي، يفترض أن يخاض بمنطقه ومفاهيمه وأدواته، والخلط بين ميادينه ضار جدا، ومن ذلك مثلا خطاب <<الصدق>> مقياسا للحكم على المواقف والسلوكات.

  • إن الصدق صدقان: الصدق مع النفس، وهذا لا ينقص أحدا قط، حتى المجرم (إلا إذا اتصل الأمر بمجنون). أم الصدق مع الواقع قوانينه وضرائره وحاجياته، وهذا موضوع المعرفة (علمية وإيديولوجية) ومن تم برامج السياسة للإصلاح والتغيير.
  • ب‌-     إن "القواعد" ومنهم "الدواعش" لا ينقصهم الصدق، بل ولا الإخلاص والتفاني والاستعداد للتضحية بالنفس فوق ذلك (يعتبرونه استشهادا ونعتبره انتحارا). غير أن وعيهم مغلوط وفاسد، وفهمهم للدين وللتدين منحرف وتكفيري، وسلوكهم تخريبي، ومعتقدهم وثني، وفي الأقصى يهودي منحرف (= إسرائيليات). فبماذا نأخذ في التحليل. ونؤاخذهم في التدبير هل بصدقهم النفسي (= المصداقية) أم بمدى وعيهم للحقيقة والواقع وممارساتهم العملية (؟!)

ذلك لا يعني بحال، احتقار المشاعر والأحاسيس والعواطف، شرط ألا تكون متناقضة مع العقل والوعي: الديني– العلمي أو الإيديولوجي - الوطني والديمقراطي... في شروطنا الراهنة.

الوطنية إذن ليست <<إحساسا>> ولا <<مشاعر>> ولا حتى فقط <<ولاء>> و <<أخلاقا>> كما تحدثت واختصرت الافتتاحية: الوطن والوطنية. كل ذلك وغيره (المشترك الموروث) ضروري ويجب توفيره وإعادة إنتاجه في كل حين. غير أن شرطه الأسبق، هو الوعي بالمصالح الوطنية المشتركة، ومن تم مواجهة أعدائها، وهم اليوم الامبرياليات الأطلسية وبعض أتباعها وعملائها في الداخل (الفرنكوفونيون اليوم خاصة، أعداء القطاع العام وصناديق الدعم والأسرة واللغة العربية الموحدة والموحدة (= الفصحى)).

  •  وأخيرا، وليس مطلقا من قبيل التعريض وأحرى اللمز. فإن الافتتاحية تتحدث بغموض ودون أن تسمي أو تشير... عن (جوقة الصحافة <<الشوفينية>>) وتحذرها من أخطار ذلك (؟!) وأنا أقول بأن هذا الخطر غير ماثل موضوعيا. أما الخطر الحال والمهدد فعلا، فهو <<الصحافة العميلة>> موضوعيا وحتى ذاتيا للخارج وذلك ما عدا إذا كان المقصود ب<<الشوفينية>> هو:
  • رفض تفكيك الأسرة والدعوة إلى التحلل والتهتك وقتل الحب والمحبة والألفة والتيتيم الإرادي للأطفال وللطفولة...
  • تفكيك وحدة الوطن والمواطنين وجهاتهم وألسنهم... وذلك عن طريق الدعوة إلى العامية وتسويقها بالدعوة إلى تدريس <<الملحون>> في التعليم الثانوي.
  • اعتبار <<العبرية>> مكونا لغويا و"ثقافيا" للمغاربة، مع أنها لم تكن مطلقا لغة للطائفة اليهودية المغربية وعموم العربية (؟!)  
  • الدعوة إلى الجهوية <<الموسعة>> نحو الثقافة واللغة (= الفلكلور واللهجات) و"المتقدمة" نحو الفدرالية وربما الكنفدرالية... سبيلا لتفكيك الكيان (الشعب وإدارة دولته). 

فإذا كان المقصود ب<<الشوفينية>> هو هذا، وما في معناه، فأهلا وسهلا بها. وبحماتها والمنافحين عن قيمها ومؤسساتها وتراثها الوطني والوحدوي (؟!)  

د. عبد الصمد بلكبير

مراكش في: فبراير 2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *