ع. الصمد بلكبير
س1: لاشك أن خطاب 9 مارس يعتبر تاريخيا مقارنة إلى استعدادات إدارة الدولة في المغرب وليس بالنسبة إلى حاجيات المغرب والمغاربة؛ إن التأخر في الإصلاح يحول الإصلاح إلى "ثورة" كان الأب أشجع وأسرع، عندما غير دستور 92 في 96، أي فقط بعد أربع سنوات، وأدمجه في سياق سياسي يؤطره ويعطيه معناه، أقصد ما سمي حينها بالتناوب التوافقي. وسلم جزءا من الحكم إلى معارض عتيد وذي ثقل ومصدوقية وثقة.
لا يبدو أن النقاط السبع في الخطاب والموجِّهة للإصلاح الدستوري المرتقب، جديدة تماما. وعلى كل فالمسألة الجهوية اشتغلت عليها لجنة مختصة منذ شهور، والخبر عن تقديم بعض الأحزاب مذكرات في الموضوع معروف كذلك. هذا فضلا على أن ثمة تصرفات "دستورية" عدلت واقعيا وعمليا بعض بنوده خلال الخمسة عشر عاما الفارطة.
ليس نص الخطاب وحده الذي نواجه، بل الأهم منه ربما أشخاص اللجنة المشكلة لتنزيله وتقنينه... والحال أن بعض مكونيها هم مخزنيين أكثر من المخزن.
مطالب حركة (20 فبراير) مازالت بعد جنينية وغير متبلورة، والتحاقات المتأخرين عن مسايرتها أخيرا، قد يستدرك الأمر. ومن ذلك:
أ-مسألة الجهوية المتقدمة أو الموسعة.. الحركة لم تطرحها، والحدود المعلنة لها حتى الآن تبدو قاصرة.
ب-من يشرف على الانتخابات وهو بيت القصيد اليوم وغدا، ولو لم تكن الانتخابات فاسدة لما احتجنا أصلا إلى دستور ممنوح. إذ المفروض حينئذ أن يتولى الأمر مجلس النواب نفسه. استمرار "الداخلية" في الإشراف على الانتخابات، يعني استمرار التدخل في نتائجها. وذلك حتى قبل إجرائها. فهي تتدخل في الأحزاب وفي النقابات... وفي المرشحين... إلخ والذين لا يطرحون هذا الأمر كأولوية هم إما غافلون أو مغرضون مستفيدون من التزوير. ونحن نعرف أن "عناصر" الداخلية تخترق وتندس في الوقفات، وتحرف شعاراتها عن المساس بها، مع أنها قائدة ما يسمى بـ"جيوب" مقاومة الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
ت-أما مسألة "الاستغناء" عن طريق السلطة، فإنه لا أثر لها بالطبع في الخطاب. كما لا ينتظر لها معالجة في اللجنة، هي مسألة سياسية، يفترض لها أن تندرج ضمن جدول عمل لجنة وطنية أخرى، اقترحتُ لها موضوع: استدراك الانتقال الذي أجهض مع الانتخابات 2002 وحكومة 2003.
س2: لعل من أهم شروط الإصلاح أو التغيير، بروز التناقضات في صفوف خصومه، وهو ما حدث في تونس مثلا ويحدث الآن في اليمن. وفي المغرب هنالك اليوم ودائما تناقضات بين فئات ومصالح الطبقة السائدة، غير أن هذا لم يظهر له بعد أي أثر حتى الآن، بل على العكس، فإدارة الدولة منسجمة ومتماسكة حتى بالمقارنة إلى ما قبل 20 فبراير. لقد لجم الخطاب الملكي والإجراءات اللاحقة عليه والمنتظرة... كل صوت نشاز في جبهة الحكم.
وأحزاب الأغلبية نفسها، تمكنت من تجاوز تناقضاتها بين المشاركة و"المعارضة" نتيجة ذلك....
أما الخارج، المتمثل في الصراع، أو بالأقل، التنافس الأمريكي-الفرنسي، فيبدو أن تصريح نائب وزيرة الخارجية الأمريكية قبيل الخطاب مباشرة، والتجاوب القطري (=القرضاوي) معه. والتحاق المغرب بمعسكر الحرب على ليبيا، مع أنه المتضرر اقتصاديا واجتماعيا من احتلالها المحتمل... كل ذلك وغيره، يثبت أن جبهة المتنفذين موحدة، وبالتالي فإن سلوكهم القمعي للوقفات.. لا يعكس تناقضا، بل تدبيرا مقصودا وتفسيرا عمليا لحدود الحديث عن الحريات في خطاب 9 مارس، وإعلانا للنوايا في خصوص المستقبل المنظور.
س3: التفاعلات والتذمرات وحتى الانتفاضات، داخل قواعد وأحيانا قيادات الأحزاب التي تستحق هذه الصفة. سابقة لحركة 20 فبراير. بل لعل هذه الأخيرة تكون بعضا من أهم نتائج وعواقب تلك التحركات التي لم تجد بعد تجاوبا حقيقيا معها.
إن توقف، بل ردة "الانتقال"، قد أثر ويؤثر على الجميع: إدارة الدولة وإدارات المجتمع (الأحزاب والنقابات..). ولأنها في أغلبها مرتبطة بإدارة الدولة، فإن مواقف هذه الأخيرة سينعكس عليها ضرورة، وهذا ما لاحظناه فعلا، فحالما تأكدت، أو استجابت الإدارة لمطالب "لعبة الأمم" واطمأنت بذلك على مصير الحركة وحدودها، وغيرت لذلك موقفها منها، لاحظنا كيف أن الموقف انعكس على الأحزاب جميعا(؟!).
أما عن مصير "الأصالة والمعاصرة" فلا أتصور أنه ولد لكي يموت أو يتوقف، إنه جزء رئيس من اللعبة "الديمقراطية" القادمة، بل هو من سيستمر محركها الرئيس، متحالفا بالطبع مع من يماثله في مفاهيمه عن "الأصالة والمعاصرة" ومن يقترب من استراتيجية "المفهوم الجديد للسلطة" (خطاب 2003 بالبيضاء). وذلك ضدا بالطبع على بعض رموز ومؤسسات وطرق عمل... الحرس الموروث عن "المفهوم القديم للسلطة".
ثمة تناقض فعلي في إدارة الدولة. بين مفهومين وحول أسلوب مواجهة "التهديد" الإسلامي، وحزب الأصالة هو انعكاس وتعبير عن ذلك. هو نوع من انقلاب أبيض أي غير دموي (على نقيض محاولتي انقلاب 71 و1972).
التغييرات المحتملة جدا في إدارة الدولة وبنيتها...، لابد ستنعكس على الجميع، ولاشك أن من بين هذا الجميع سيكون "الأصالة والمعاصرة"، ولكن لا بالتخلي عنه، بل فقط في تعديل بعض تاكتيكه، وأهم ذلك تقليص جبهة مواجهاته الواسعة والمتعددة راهنا.
ومن المثير في هذا الصدد، أن تردد الوقفات شعارات ضد هذا الحزب وبعض رموزه، ولا تصنع نفس الأمر مع أحزاب ورموز "الداخلية" الآخرين السابقين، والمعروفين جيدا (؟!)
س4: الدساتير مواثيق سياسية، تقنن وتضبط توازنات العلاقة بين مكونات مجتمع وطني، بما في ذلك، في شروط الشعوب المستضعفة، توازنات القوى الأجنبية الفاعلة والمؤثرة (في حالتنا أمريكا وفرنسا). وهي لذلك تعكس وتعبر عن موازين القوى بين الأطراف تلك، ولا يبدو لي لذلك أننا أصبحنا مؤهلين لـ"ملكية برلمانية" بالمعنى المتعارف عليه في تجارب الملكيات المعاصرة في المجتمعات الرأسمالية. غير أننا مع ذلك نغُذ السير نحو ذلك. فالخطاب الملكي يفتح آفاقا واعدة. وضغط حركة الشارع مازال ممكنا، والموقف الأمريكي وحزبه في المغرب (في الصحافة خاصة) يصب في نفس الطاحونة. المنتظر، ولأول مرة في تاريخ المغرب، سيتحقق نوع أو مستوى من تقاسم الحكم بين إدارتي الدولة والمجتمع. وهذا سيعتبر تقدما بالمقارنة إلى الحاضر وأحرى بالمقارنة إلى تركة الماضي.
أما المؤكد تحققه، فهو توسيع الحريات (الصحافة خاصة) وضمانات حقوق الإنسان. وهو الأمر الذي ستركز عليه أمريكا راهنا بالنسبة إلى المغرب (=الفرنكوفوني) بالنسبة إليها. وسيكون أكثر المؤطرين للاستفادة من ذلك. الحزب الأمريكي في الصحافة وفي بعض ما يصف نفسه بـ"المجتمع المدني" فضلا بالطبع عن الحركة الإسلامية المحاصرة.
س5: منذ فترة طويلة يردد الجميع عبارة ماكلوهان عن القرية العالمية، غير أن القليل من يعمل بمقتضياتها عند التحليل.
يصعب اليوم التمييز بين داخل وخارج بالنسبة للأوطان والدول، إذ أن الشركات المتعددة والمتعدية الجنسيات "وحدت" الجميع عمليا، وأضحينا معها في نظام رأسمالي عولمي موحد وموحد.
وكما يفترض، فإن الجميع يعرف بأن الرأسمالية ارتبطت بتعاقب الأزمات منذ نشأتها. وأن فئاتها (مالية – عقارية – صناعية – تجارية...) تتقاذفها فيما بينها قبل أن تتقاذفها كامبرياليات (الحربان العالميتان وأكثر من 70 حربا أخرى) وذلك قبل أن تتوافق فيما بينها على تقسيم أو إعادة تقسيم للشعوب والدول المستضعفة، ومن تم تصدير أزماتها نحوها، الأمر الذي تنتج عنه حتما اضطرابات وقلاقل وحروب أهلية وأخرى حدودية وانقلابات وثورات... وبالتالي تفتيتات للكيانات واستعمارات جديدة وإعادة تخريط للجغرافيا السياسية للعالم.
هذا ما نعاين بعض عواقبه اليوم. ذلك لأنه في الوقت الذي تغرق فيه رأسماليات المركز في أزمات طاحنة ومن جميع الأنواع (عقارية – مالية – نقدية – تجارية – سياسية – ثقافية وأخلاقية...) نلاحظ كيف أن رأسماليات وطنية فتية ديناميكية أقل استهلاكية... تنهض في دول الجنوب. وهو أمر يتم سواء عن طريق دول (الصين – أمريكا اللاتينية – تركيا – إيران...) أو عن طريق طبقات أهلية وبلبوس وتعبئة دينية غالبا: الهند – الشرق العربي (مصر خاصة).. إلخ.
لنتذكر في هذا الصدد المصير المحزن لما كان يوصف بـ"النمور الستة" باستثناء ماليزيا (بسبب حنكة وشعبية قيادتها). لقد تحولت جميعا إلى قطط بفعل مضاربات "سوروس" ولنتذكر ما فعلوه بالعراق وأيضا بالكويت خلال ذلك (نهبوا من صندوق أجيالها أكثر من 400 مليار دولار) وسوق المناخ والأبناك الإسلامية في لندن وجنيف وشركات "توظيف الأموال" بمصر... إلخ بل وصل الأمر عندنا إلى تزاحمهم على جمع أزبالنا فضلا عن توزيع الكهرباء والماء (؟ !) وخوصصة الأبناك هدفهم الأسمى.
ترى هل يعتبر (T.G.V) أولوية لنا؟ كلا، ولكنه كذلك بالنسبة للاقتصاد الرأسمالي الامبريالي الفرنسي. وإلا خذلونا في مجلس الأمن (؟ !) وإذا أعلنا استعدادنا للشراء منهم، وتشغيل مصانعهم، وتوفير السيولة لهم، ولكن بقطار نحو الجنوب المغربي... لم يقبلوا(؟ !) وهذا نمط من تصدير الأزمة لنؤدي نحن فاتوراتها.. ومع ذلك، وربما لأجل ذلك، لا نسمع بعد في الوقفات، شعارات مناوئة للاستعمار والامبريالية... بل إننا لنردد أحيانا بعض الشعارات التي نبتلعها من خلال إعلامهم بالعربية (الجزيرة خاصة) تشبه "الفجل" حمراء من الخارج بيضاء المحتوى.
الحركات الإسلامية وهي تردد بعض شعاراتهم، تعرف ما تريد، وهي مؤهلة للاشتغال على تناقضات الامبرياليات. وعلى كل فلقد سبق لها أن تحالفت أكثر من مرة مع الغرب الرأسمالي (أفغانستان – العراق...) السؤال مطروح على بعض "اليسار" الذي تياسر حتى انتهى إلى مواقع اليمين (؟ !)
إنها بعض من مظاهر "الفوضى الخلاقة" القانون الرئيس للأزمة الرأسمالية الراهنة، والذي يصدر إلى شعوبنا لتحريف وإفشال ثوراتها...
لا تشبه الانتفاضات العربية بعضها، إلا على مستوى محاولات الخارج التدخل في مساراتها، وإلا فإن الثورة التونسية جاءت عقب (انقلاب أبيض) أنجزه نفس أولئك الذين أنجزوه سابقا لابن علي ضدا على بورقيبة.
أما مصر، فالمستهدف من قبلهم (=الغرب) هو الجيش لأنه:
1-يرفض رفع يده عن القضية الفلسطينية وعموم المشرق العربي، حسب استراتيجية "الشرق الأوسط الجديد" (بريز) والذي يقضي بأن تتجه مصر جنوبا وغربا (ليبيا) والحال أن هذا يعتبر مقتلها الاستراتيجي.
2-رفض خوصصة أكبر بنك في المشرق "بنك القاهرة"
3-ضايق كل محاولات التسرب "المدني" الأمريكية لإحداث انقلاب في القمة وبإخراج "شعبي" يأتي بمن هم أحط وطنية من "مبارك" من أمثال: سعد الدين إبراهيم – أيمن نور – البرادعي – زويل... ممن هم مستعدون لإطلاق يد إسرائيل في المنطقة والتنازل عن جميع مقتضيات "الحل السلمي": القدس / اللاجئين / الدولة / الحدود / الماء...إلخ.
ولأن العولمة في صيغتها الأمريكية لا تقبل للجنوب دولا ذات سيادة، ولأن شرط السيادة هو الجيش لا (أمن النظام) ولأن لمصر جيشا عريقا وعتيدا ومهنيا ووطنيا وصاحب عقيدة واستراتيجية حربية. وخاض حربا (أكتوبر 73) سخر فيها ولأول مرة، من مخابرات الغرب وأسلحته وخططه.. فلقد كان هو المستهدف في خططهم (لا مبارك والذي هو منهم وإليهم) وما يزالون... لولا فطنة الشعب المصري وحكمته ونضاليته. لقد كانوا في سبيلهم إلى التلفزيون لإعلان البرادعي رئيسا مؤقتا للجمهورية عندما بادر مبارك لتسليم سلطاته إلى المجلس العسكري الأعلى (؟ !) وحتى الآن، فلقد انتصرت شعوبنا في معاركها.. غير أن الحرب مع أعدائها مستمرة ما تزال وتحتاج لذلك إلى قيادات حزبية ونقابية... ذات حنكة ومصدوقية ورشد... تقلل الخسائر وتعظم الأرباح ولا تنزلق إلى تحالفات مشبوهة.. وعندئذ سيلتحق بها بقية من لم يلتحق بعد الطبقة العاملة والفلاحون الفقراء. فهم جنود الثورات الوطنية والديمقراطية... الضامنون حقا لنجاحها واستمرارها وسلامتها، والملاحظ أنهم حتى الآن، هنا وهنالك... لم يلتحقوا بعد.. وفي ذلك أكثر من دلالة يجب التفكير فيها والتدبير لاستدراكها من قبل الشباب كما من قبل الأحزاب الديمقراطية المناضلة...
2011