ع. الصمد بلكبير
لعل من أهم الأعياد التاريخية العريقة، والمحافظ عليها من قبل الديانات الكتابية، هو عيد الأضحى المبارك. ذلك لأنه أكثر شعيرة تعبدية تؤشر في الوعي والسلوك وفي التاريخ البشري، إلى تخلص البشرية من جهالاتها، وبداية انفصالها من تم عن بؤس وعيها واستلابها واستعبادها، لمظاهر الطبيعة الحية والجامدة أو حتى المتوهمة، ذلك لأنها لم تكن، في فجر وعيها، قد تقدمت في تغيير المحيط الطبيعي حولها، وتركيم الوعي التدريجي بقوانينه. فخضعت له (=خضعت لجهلها به) وتوسلت إليه وتقربت منه وذلك باستجدائه والتمثل به والتضحية بأفضلها (بواكيرها) على قربانه، من أجل استدرار بركاته (=حليب الأبقار) أو قوته الجنسية (=الكبش والضأن..) أو التشبه به أو درإ شره وضرره... (فيضانات الأنهار-الأنواء..).
في هذا السياق، ومنذ نشأة البشرية الأولى (6 ملايين عام) عبد البشر، كل ما لهم به علاقة ويجهلون سره (لم يتحكموا به بعد)، واعتبروه لذلك إلها، فكان العالم في وعيهم البدائي (الأسطوري-الخرافي والسحري) بمظاهره المتعددة والمختلفة، هو آلاف الآلهة، تتناقص عددا، كلما تقدمت ممارساتهم في التحكم بها، ووعيهم في التعرف على حقيقتها، بالتالي تأنيسها أو تهجينها أو تدجينها أو استنباتها...إلخ.
لعل من أواخر ذلك المسار، كان تقديسهم، ومن تم عبادتهم لبعض الأشجار (الزيتون) والحيوانات (الثور والديك والكبش) في محيط الأبيض المتوسط خاصة.
كل ذلك كان في عصور ما قبل التاريخ، ولأن التاريخ هو: فعل (لا، وعي) الإنسان في الزمن (≠انفعاله)، فلقد كان حدث الانقلاب الثوري على الكبش-الإله، من أعظم الأحداث التي هيأت البشرية لدخول تاريخها وصناعته. لم تتخلص من الكبش وعبادته، بل تخلصت بالأحرى من جهلها وأوهامها عنه. وعن بقية المعبودات الوثنية (الأحجار-منابع المياه-الفئران...) لقد انقلبت بالأحرى على نفسها وثارت على وعيها البائس. وتخلصت أساسا، من أكل بعضها البعض، بعد أن تذبح أبكارها قربانا، وتنثر بواكيرها الفلاحية وتسكبها للأكباش. (قرونها الشبيهة بمعبودها: القمر/الهلال) وأيضا تحتفل لأجل التأكيد والترسيخ (وربما الانتقام) حيث أضحت تضحي بالكبش الذي عاد إلى حقيقته الطبيعية، ولم يعد إلاها (في الوهم) وتذبحه قربانا للإله الجديد الواحد المجرد والمخلص من أوهام الوعي الوثني-الهمجي ما قبل تاريخي، إنها تحتفل بذبح جهلها وأوهامها وبؤس وعيها وهي بعد في الغابات.
[جميع الاحتفالات البشرية القديمة والموروثة، رقص وغناء... كما الرسوم والوشم... (=الفلكلور) هي في الأصل تقليد وترسيخ وتربية وتعليم... للحظة انتصار لها على وحيش (على جهلها به في الحقيقة)].
ألا يستحق هذا الحدث العظيم والتاريخي، احتفالا سنويا وعيدا تذكيريا، ينتقل أفقيا في المكان (في الهند مازالت الأبقار والقرود تقدس...) وزمانيا بين الأجيال، حتى لا ترتد نحو الوثنية كما يحدث في راهن عصرنا في ظل الرأسمالية الاستهلاكية... والمتوحشة..
لم يحدث ذلك في "ما قبل التاريخ" فجأة، بل امتد في الزمن آلاف السنين، قبل أن يستقر انقلابا في الوعي (انتصار الدين على الوثنية) وشعيرة تحتفل بها البشرية دوريا (سنويا) كل بمعبوده القديم، وكل بطريقته وخصوصيته (الثور في إسبانيا، والديك عند الفرنسيين والمغاربة في رمضان مثلا)، غير أنها من أجل تذكرها والتذكير بها، ومن تم تكريسها، في زمن "ما قبل الكتابة". عمدت إلى تلخيصها في حكاية (=أسطورة) محددة في المكان والزمان والوقائع والأشخاص. وذلك لأن الأهم هو المعنى والدلالة والاعتبار، وهو نفسه ما يستهدفه مؤرخ التاريخ في زمن الكتابة...
ثلاثة أطر معرفية متداخلة كانت تؤطر معارف أجدادنا الهمج 1-الخرافة: وهي حكاية حكمية للعظة والاعتبار ولتوجيه العلاقات وسلوك الحياة 2-السحر وهو تقنيات نفعية عملية 3-والأسطورة ووظيفتها تفسير ظواهر الكون، وتتم دائما، بالبحث عن "أصلها" اعتقادا منهم أنه ما يفسرها ويسمح لذلك في التحكم بها (؟!)
[فنون الشكل والحركة والصوت، لم تكن منفصلة بحال عن تلك الأطر، لم تكن بعد مسألة جمالية أو إيديولوجية) خارج ذلك، فإن ما كان يجهله، فهو يتقرب إليه ويستعطفه عن طريق عبادته].
إذن، فإن ما كان، ولا يزال، مهما في الأسطورة، هو المعني والمغزى، الدائمين وغير المنقطعين، وليس الشكل الحكائي الذي هو صيغة تاريخية عابرة ومتجاوزة (ليفي شتروس).
هكذا يفترض من الحداثي أن يفهم الوقائع والأحداث في التاريخ وما قبل التاريخ، إذ لا قطائع في التاريخ، ثمة استمرارية وتجدد دائمين، القطيعة تكون في التأويل والتوظيف. ولذلك فإنه فلا تحديث بدون تقليد والعكس صحيح أيضا. بهذا سيرتبط (=الحداثي) بحركة الواقع والتاريخ، ومن تم أيضا بشعبه وقضاياه، ولا يجد نفسه معزولا مهمشا وبدون تأثير... كما هي أحواله راهنا.
إن تصور أن ذلك ماض انتهى وانقضى... وهم كبير، ستوفر الوقائع دائما دواع لإعادة إنتاج الماضي، فضائله ورذائله، وكم عاينا من حركات دينية هرطوقية في الغرب المعاصر نفسه، وليست وثنية وهمجية "داعش" بالمنتهية بعد. وهذا دون التذكير بالهند وشعبها المقدس ما يزال للبقر والقرود والفئران... وعواقب ذلك الفاحشة على حيواته جميعا (؟!).
رمزية هذا العيد ودلالاتها، أعمق وأشمل من غيره من الأعياد الدينية والتاريخية. بما في ذلك رأس السنة الميلادي. والذي لا يتوانى الحداثيون عن المبالغة في الاحتفال به.
ليس المطلوب طقس الذبح ضرورة، وإنما مشاركة الشعب في الاحتفال، والحضور معه فيه، وتعميق ارتباطه بالتوحيد والوحدانية... ضدا على الوثنيات والأساطير المعاصرة، وعلى التأويلات المتطرفة والهمجية للمنجز الديني العظيم، الإنساني المتحضر، المتسامح والراشد... وأيضا وبالأحرى، ضدا على الردة نحو التفتيت والتقسيم... العقدي والمذهبي والقبلي والطائفي واللغوي والجهوي...إلخ.
فهم وتفهم الممارسات الشعبية أيا كانت، شرط لتقويمها وإصلاحها إذا انحرفت، لست مع الشعبوية، ولكنني أيضا ضد الانعزالية النخبوية... قد لا يكون الشعب واعيا لمختلف ممارساته، غير أنه يحس ويحدس ويحافظ على الجيد والأبقى والأفيد من تراث آبائه وأجداده.
أما على مستوى التعليم والإعلام والوعظ... فإن سبيله الأقوم هو هذا أيضا، يفترض في الدرس أو الخبر أو العظة، ألا تتناقض مع الحقيقة التاريخية. يجب دمج التربيتين الدينية والمدنية (الوطنية)، وتدريسها بوعي تاريخاني يتجاوز التطرفين الايديولوجيين الرجعي المتأسلم والعلماني المتياسر.
وعلى مستوى المضمون، فإن عمق أزمة المدرسة الرأسمالية السائدة، هو ميتافيزيقيته (= لا تاريخانيته) ومسؤولو التوجيه والتدبير فيه، من الأعلى إلى القاعدة أغلبهم كذلك، فكيف سيصلحون وهم في حاجة إلى إصلاح لوعيهم المتجاوز حداثيا وتاريخيا. لذلك فإنهم ينشرون الأباطيل والخرافات في صيغة معرفة بما في ذلك "الدينية" منها، والميتافيزيقا "المعتدلة" لا يمكنها أن تكون "حداثية" وأحرى أن تنتصر على الميتافيزيقا الدينية المتطرفة والإرهابية.
ذيل: هذه المقالة، هي امتداد لسابقة عليها في موضوع: الحج، تحت عنوان "موسم الهجرة إلى الشرق" منطقها المعتبر هو: التاريخانية كمرجع والتحديث كإستراتيجية.
Share this content: