د.ع. الصمد بلكبير
لعل من أكثر المسكوكات الفكرية العربية المعاصرة شيوعا، والتي كادت تصبح مثلا سائرا، مقولة السيد مالك ابن نبى حول "قابلية الاستعمار" بالنسبة للشعوب المستعمرة، وهي تكاد تشكل لدى الكثيرين، خاصة في الصفوف الإسلامية، "بديهية" لا تحتاج أو لا تحتمل النقاش، والحال أن الأمر ليس كذلك:
1-ثمة غموض في المصطلح وفي التعبير عنه، فهل القابلية أو التهيؤ
أو الاستعداد... يختص بالبعد الفكري أو النفسي أو الأخلاقي... أم أنه يشمل غير ذلك من الجوانب المادية (الاقتصاد...) والاجتماعية (الفروق في "الاستعداد" إياه، بين مصالح مختلف الطبقات في المجتمع المعني...؟).
2-هل هذه القابلية أو الاستعداد، ما تزال مستمرة وممتدة في زمن "الاستعمار الجديد"، وهي الحالة السائدة في راهننا العربي–الإسلام والعالمي، أم أنها تخص الاستعمار القديم فقط ولا تمتد إلى جديده القائم (؟!) أم أن خلفية هذه الأطروحة، لا تقتضي، أن الوضع الحالي هو استعمار أيضا (؟!)
3-وبالنسبة لوضعية الاستبداد السياسي وغيره، هل تشملها هذه المقولة، أم أنها خاصة بالاستعمار السابق، هذا مع العلم أو المفترض أن الاستبداد، اليوم على الأقل، هو فرع عن الاستعمار القائم (؟!)
4-ذلك يقتضي أيضا ويفهم منه، أن الاستعمار القديم، كما الجديد، سادا دون مقاومة، والحال أن التاريخ ووقائع الحاضر، يثبتان أن جميع القبائل والشعوب، قاومت أولا وانهزمت، ثم نهضت وقاومت، وما تزال، وذلك قبل حصولها على استقلالها الأول، وهي اليوم بصدد الاستقلال الثاني الذي يشمل الثقافة والوحدة والديمقراطية...
5-وهو أمر (=المقاومة) بالمناسبة، حصل حتى بالنسبة للقبائل والشعوب التي لم يسبق تمهيدها وتحضيرها نفسيا وفكريا، للقبول بالاستعمار والاحتلال، كما هو حال القبائل والشعوب الهندية الأمريكية مع الاستعمار الاقتلاعي والاستيطاني الرأسمالي الأوربي لها.
6-ثم، ما علاقة القابلية أو الاستعداد بمفهوم الإيديولوجيا؟ فإذا كانا متطابقين، بمعنى أن المستعمِر، تمكن أولا من اختراق العقول وتسميم الأذهان وتشكيك النفوس وتفجير التناقضات... في صفوف القبائل والشعوب التي يخطط لاستعمارها، وهو ما قام به استشراق الأمس ويقوم به الإعلام المغرض اليوم... وبهذا المعنى يكون "الاستعداد" إياه، جزءا من مخطط الاستعمار ومرحلة أولية فيه، أي أنه هو نفسه شكل من أشكال الاستعمار، وليس صيغة تمهيدية له فقط، وهذه بالضبط هي حالتنا الراهنة في ما يسمى بالاستعمار الجديد، والذي هو غالبا وأساسا، اصطناع حالة القبول والاستسلام وحتى الرغبة والتماهي مع الاحتلال، وذلك عن طريق غزو لغوي واختراق ثقافي – تعليمي وإعلامي، وتوظيف عملاء محليين ومرتزقة "وطنيين" لا حصر لأعدادهم وألوانهم... يستحيل مفهوم "القابلية" إذن، إلى مفهوم "الإيديولوجية" الاستعمارية في هذه الحالة.
7-وسواء بالأمس القريب للاستعمار القديم أو جديده اليوم، فإن الطبقات الاجتماعية وفئاتها المختلفة، لم يكن ولن يكون لها نفس العلاقة مع الرأسمالية الاستعمارية، إن الإقطاع والوسطاء من التجار وتجار الدين والتدين... كانوا، وهم اليوم أيضا، أقرب في مصالحهم إلى الرأسمال الأجنبي، لا الوطني (الخاص أو العام) ولذلك فلقد كان لهم استعداد بل ورغبة في التبعية، تمكنوا من إشاعتها في أوساط الأقربين لهم والمحيطين بهم ومن لهم عليهم تأثير ونفوذ... أما عموم القبائل المستقلة والشعب الكادح، فلقد كان، وهو اليوم، ضد الاستعمار، ذلك لأن مصالحهم ومطامحهم تتناقض جذريا معه، وتتنافى مع أهدافه الاستغلالية ومصالحه الاحتلالية... وجرائمه الثقافية-اللغوية...
8-إن القهر المضاعف والفتنة والتعذيب والتفقير... قد تصل بضحاياها درجة التمثل والتماهي والتقمص... للعبودية، ويتصور المقهور لذلك، أنه بالاستخذاء والاستسلام، سيخفف الآلام عنه وعن أسرته.. غير أن هذه حالات (المخبرين مثلا) خاصة طارئة وعابرة (مثل بعض السجناء الذين يرفضون إطلاق سراحهم/ أو العبيد الذين يرفضون تحريرهم لأنه لا ملجأ لهم ولا معيل) ولا يمكن بحال أن تكون حالة شعب أو أمـة.
9-خطورة العبارة أيضا، أنها توحي بأن:
أ-القابلية استعداد "طبيعي" (غريزي – فطري...) لا اجتماعي – تاريخي وإيديولوجي – سياسي (؟!)
ب-وكذلك فهي قد تشجع على تفسير ثقافي أو نفسي للمجتمعات وللتاريخ، ومن تم تراهن عليهما (الثقافة والسيكولوجيا) لإصلاحهما (المجتمع والتاريخ)، وتغييره بديلا عن أسلوب المقاومة ومتطلباتها السياسية والشعبية...
ت-والأخطر، ألا تقتصر على "تفسير" ظاهرة الاستعمار، لتتحول لدى البعض إلى "تبريره" ومن تم "تفهمه"، وتكون بذلك إعادة إنتاج لعبارة قديمة وسابقة عليها، أنتجها الاستبداد الإقطاعي الوسيط، والتي تدعي زورا وتحريفا وقلبا للحقائق، ومنها العلاقة بين الضحية والجاني، حينما تدعي القول (تبرر): "كما تكونوا، يولى عليكم" (؟!) فيصبح الجلاد ضحية والضحية مسؤولة عن مآسيها، فهي الجاهلة والمنحرفة والمارقة... ولذلك استحقت العنف والقهر والاستبداد، هذا مع أن بؤس وعيها، ناتج في معظمه، عن بؤس أوضاعها وعن التغليط والإفساد الإيديولوجي لحكامها في أوساطها بالتعليم والإعلام والمسجد والمخابرات الثقافية والإعلامية...
10-إذا كان ثمة "قابلية للاستعمار"، فهي بالذات، سمومه الإعلامية وأغاليطة الإيديولوجية، يمررها مباشرة، أو خاصة من خلال عملائه المحليين، والذين يمكنهم من السلطة ومن النفوذ الاقتصادي – الاجتماعي – الإداري – الثقافي والإعلامي... وذلك حتى يقوموا نيابة عنه، وقناعا له، بالمهام التي يوكلهم القيام بها وكأنها صادرة عنهم، لا توكيلا من قبله (؟!)... وهذه في حالتنا بعض دلالات وأخطار "الفرنكوفونية" و"الفرنكوفونيين" الذين يمثلون حالة الاستعمار الجديد السائدة.
مراكش يوليوز 2014
Share this content: