انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

“حالة” أمريكا: مفتاح للفهم

عبد الصمد بلكبير

    يكاد يسود انطباع عام إعلاميا وعالميا،بأن الإدارة الأمريكية مرتبكة/مترددة، بل ومتناقضة في سياستها الخارجية، ويرتبط بذلك وينتج عنه، تفكك وصراعات في معسكر حلفائها وأتباعها من الدول والأحزاب والاعلام ممن يشتغلون ضمن استراتيجياتها.

  هذا أمر واقع وعميق في بنية النظام الرأسمالي الأمريكي، وهو لا يعود إلى مسألة كفاءات شخصية في القيادة، أو معطياتها الاستخبارية،ولا إلى الطارئ الشامي المعجز، في وجه العدوان الإرهابي الأطلسي – الصهيوني والرجعي ..

  تفسير ذلك وغيره في المسار والمصير الأمريكي، يكمن في تفكيك تناقضات نظامه الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي.

                                               *  *  *

  تناقضات الأنظمة الرأسمالية لا حصر لعددها وأنواعها ،منها الذي يحييها ومنها الذي يميتها، غير أن مايخص أمريكا منها ويفسر مسارها ومآلها، هو الصراع بين مجمعيها الصناعيين:المدني والعسكري وذلك باعتبارها دولة قومية ودولة تحكم العالم الرأسمالي في نفس الوقت.

  في الشروط والأحوال العادية، غير الخاصة أو الاستثنائية، فإن التناقض بله الصراع اياه،يجد حله التعاقبي والتكاملي ،طبق الصيغة التالية:

  1. يسود الانتاج المدني الاقتصاد الأمريكي لفترة، مايسمح " بفائض اقتصادي" وفير فتعم الرفاهية الاستهلاكية إلى حد السفه، ويصعد رئيس ملائم وسيم ومؤدب وطيب (كندي- كارتر – كلينتون ... وأوباما) وتقل جبهات الصراع العسكري، الأهلي والحدودي ويتضخم الحديث عن نزع السلاح وفضائل،السلام العالمي ... إلخ غير أن قانون:( العرض والطلب) يكون بالمرصاد ،

كثرة العرض السلمي المدني، تخفض الثمن ،إذن فوائض القيمة ،إذن الأرباح .. فيأتي الكساد والافلاسات والبطالة والجريمة المجتمعية بأنواعها.

  • ينسحب الجزء من الرأسمال الملائم للتحول نحو الصناعة العسكرية وما يرتبط بها ( شركات الأمن الخاص والنعوش مثلا) ويوجه الاعلام لاختلاق" رأي عام" مرتعب من أخطار محدقة بسلامته ونمط حياته، وكذلك تصنع الآداب والفنون ( السينما مثلا) بدور الإنتاج والنشر والجوائز"العالمية" لدعاة الحرب وتجارها من عقالها وتنطلق الخطابات العدوانية والعنصرية و"الدينية" عن صراع الملائكة البيض، في مواجهة الأشرار في الشرق والجنوب من الشعوب والدول المارقة.

هي الحرب إذن، مباشرة أو بالوكالة ،على الحدود بين الدول أو بالفتنة والحروب الأهلية... والاقتصار من تم على بيع السلاح للطرفين أو الأطراف جميعا في أسواق تعقد في الظلام.

أما الرئيس القائم، والذي يعكس بشخصه وخطابه، المرحلة المدنية السابقة، فهو بين حلين     ،إما التكيف، إذا كان بدون شخصية (ريغان مثلا) أو التصفية (كنيدي) أو التآمر (نكسون-كلينتون).

تنغلق الدورة مجددا، أزمة جزئية وعابرة مثل السابقة، ناتجة عن استنفاذ الفائض الاقتصادي المتخلف عن السيادة السابقة للمركب الصناعي المدني .. يبدأ الانسحاب الجزئي أو الكلي    الأمريكي من ساحات الحروب، يقل الطلب على الأسلحة وجوارتها .تم يعيد رأسمال انسحابه من القطاع الحربي إلى المدني وهكذا دواليك.

  •  الجديد هذه المرة ،يتمثل في أن المنافسين ( أوربا واليابان ..) والذين تتم الحروب دائما على حساب مصالحهم ،يكونون قد طوروا ورخصوا الصناعات المدنية ،الأمر الذي يضغط أكثر على أمريكا كي تنسحب من الحروب وتعرقل المنافسين: منع الكونكورد من التحليق فوق أجوائها تقييد التجارة الدولية بقوانين تلائمها ( الجودة – محاربة الغش والفساد – الحكامة) وتبحث لها عن أسواق جديدة وبديلة ( الصين سابقا وإيران حاليا) 
  • 4-    خلال جميع ذلك، لا يتوقف، ولا يمكن أن يتوقف البحث العلمي والتطور التقني، ولكن تلافيا لانعكاساتهما الاجتماعية السلبية على أنظمتها ،تصرفها غالبا نحو حقول غير منتجة مباشرة: الفضاء/ السلاح/ والعلم المحض، غير المرتبط بأهداف إنتاجية.
  • بحصارهم، ثم اقتحامهم قلعة الاتحاد السوفياتي وعموم أوربا الشرقية ،تمكنوا من تعطيل وتأخير منافسة غير منضبطة مقارنة إلى اليابان وألمانيا، غير أن:

أ-النهوض اللاحق، المتدرج والمتواصل لكل من روسيا والصين خاصة علميا وتقنيا.

ب- الهزائم الأمريكية ومرتزقتها ( اسرائيل ...) المتلاحمة، في العراق و الشام خاصة، وصمود المقاومات وانتصارها ( أفغانستان،الصومال ...) 

ت- تكافؤ الميزان العسكري،مع الشعوب والدول المستضعفة وذلك خاصة بتطوير سلاح الصواريخ وتقنياته ( كوريا – إيران-سوريا ...) 

  •  كل ذلك وغيره، لم يعد يسمح باستمرار دورة التناوب المعتادة بين المركبين الصناعيين (المدني والعسكري) في أمريكا، وعندما حلت بها الأزمة، كانت شاملة هذه المرة: مالية-نقدية-تجارية-صناعية-عقارية... ولا أفق منظور لتجاوزها،فهي أزمة عميقة وبنيوية وعالمية ... 
  • 7-    تلك الشروط العامة، ستعمق الصراع بين المركبين، وتكاد تفجره وذلك حول من منهما          سيؤدي أكثر من غيره، فاتورة الخروج من الأزمة، وهذا هو مايفسر عموما، تناقضات وارتباك السياسات الأمريكية وعلاقاتها الخارجية، بما في ذلك مع حلفائها وأتباعها،إن القانون العام في هذه الحالة، كما في أمثالها، هو تصدير الأزمة نحو الخارج، وذلك حتى لا تنفجر بالداخل مثلما حدث في الحرب الأهلية 1860، وهو مايسمى بالاستعمار والامبريالية.
  • 8-    سيبقى السؤال مع ذلك مطروحا ،حول من من المركبين سيقود العملية؟ وبالتالي، أي قطاع يجب أن يخرج أولا من الأزمة وذلك حتى يقود الاقتصاد والمجتمع ككل نحو الحل، والذي سيلائمه هو أولا وقبل غيره،ذلك كان موضوع ومضمون الصراع الانتخابي حول برنامجين، انتصر فيه ،ربما مؤقتا، القطاع المالي (مشترك) والمدني(الضمان الاجتماعي والصحي مثلا) ثم شرعوا في تصدير الأزمة نحو العالم جميعه،أوربا واليابان أولا ،ثم البقية جميعا بما فيها خاصة الشعوب والدول المستضعفة (مايسمى الشرق الأوسط خاصة:بنك القاهرة مثلا ...)
  • 9-    لم تنحسر الأزمة، وبالتالي لم يتوقف الصراع أو يخفت،الجديد فيه، هو التوافق الموضوعي بين الطرفين(المدني والعسكري) على حل لمعادلته الصعبة على الصيغة الراهنة لتصديره وتفجيره في البلاد العربية وذلك عن طريق:
  • إرضاء حاجيات ومطالب المركب العسكري في سوق لتصريف منتجاته ،وذلك باصطناع حروب واثارة فتن... ولكن شرط أن تبقى محدودة ومتحكم فيها اقليميا ودوليا/ألا تصرف عليها الخزينة والمواطن الأمريكيان وهو الجيل الرابع من الحروب ويصطلح عليه بالحرب الناعمة أو الذكية (الثقافية و الإعلامية...) تعطيل التنمية- تقليل الأفواه.. تفكيك الدول(الجيوش) ... وبيع السلاح في نفس الوقت،انتحار الضحايا بالتشويش على أفهامهم وتفجير الألغام المصطنعة والمبثوثة سلفا في علاقات مكوناتهم المجتمعية (لا الاجتماعية)

    وحول هذه الاستراتيجية لمن يسمون "بالمحافظين الجدد"، توافقت وتوحدت إرادة الرأسمالية العالمية .مراكزها وأتباعها ( أكثر من 100 دولة) ووزعت بينها الخرائط والمنافع والمطالب .. في قسمة "ضيزى" غالبا.

  • بقية التناقضات والصراعات الناتجة عنها بين المركبين،لا تلغى،بل فقط تجمد داخليا،وتشتغل وأحيانا تنفجر، خارجيا بين أدوات واتباع كل مركب (تركيا وإسرائيل مثلا) ،وبعد ذلك فقط تنعكس على الداخل الأمريكي في تعديل تدريجي لميزان القوة بين المركبين ولكن سلميا.
  • إن هذا هو مايفسر اليوم ظواهر الارتباك والتردد وحتى التناقض والصراع التالية:
  • في الإدارة الأمريكية: الصراع حول العدوان العسكري المباشر على سوريا / الارتباك في الساحة اللبنانية/العلاقة مع السعودية(الاطاحة ببندر) الموقف من حكومة نتنياهو/المواقف من مصر/ كيري بديلا عن كلينتون.
  • الصراع داخل الحلفاء الرأسماليين والدبلوماسي الخفي أكثر من الفاضح ( التنصت، خاصة بالنسبة لألمانيا)/الموقف من اوكرانيا والعلاقة مع روسيا/الإجهاز على إيطاليا لحساب فرنسا ساركوزي ( الغنيمة الليبية) /بروز اليمين العنصري في عموم أوربا والنازي في شرقها 
  • احتدام تناقضات بل وصراعات الاتباع، وهي لاحصر لعددها:اسرائيل وتركيا/بين السعودية وكل من تركيا وقطر وجزئيا عمان والكويت/ونفس الوضع بينهما مع مصر  
  • وداخل كياناتها نفسها، وهي عديدة أيضا :في إسرائيل ( اعتقال ألمرت ) في السعودية (إقالة بندر ).في مصر:الإخوان والجيش/في قطر (الانقلاب الثاني في القصر)/في تونس والمغرب(بين فرنسا وأمريكا و سقوط العثماني مثلا) في الأردن... وكلها اليوم حول الموقف من العدوان الأطلسي على سوريا.
  • أغلبية تلك المواقع، أو المعارك السياسية والدبلوماسية والمخباراتية الخارجية، حقق المركب المدني فيها انتصارات صغيرة، غير أنها متراكمة، وأهمها كان بالسلب أو الدرأ فقط     وأهم ذلك، النجاح في عدم التورط الأمريكي المباشر في العدوان على سوريا، وهو نجاح لم يتحقق وحسب، بسبب ميزان القوة. الداخلي الأمريكي، بل أيضا بسبب:
  • 12-                  الصمود السوري المعجز وحكمة وذكاء حلفائه في البريكس والذين يعون حقيقة وطبيعة الصراع الرأسمالي العالمي بين توجهيه العسكري والليبرالي،ورهانهم جميعا (خاصة روسيا وإيران والصين) على دعم الثاني، وتفهم إكراهاته، وتمكينه بما به يواجه إحراجات الأول وضغوطاته الاستفزازية (وهي للحقيقة، استمرار لنفس فلسفة واستراتيجية " التعايش السلمي" التي وضعها لينين ومارسها استالين في الحرب العظمى 2 وبريجنيف في الباردة، وذلك باحتساب أن حياة الرأسمالية في مرحلة الإمبريالية رهينة بالحروب ومقتلها في السلام، والذي يعني عمليا حرية وتحرر الشعوب جميعا، سواء منها التي تعاني من الاستغلال فقط، أو من الاستعمار أيضا)
  • في المحصلة وبعد أكثر من ثلاثة أعوام،حضر لها في أكثر من عقد من الزمان، ومن قبل عشرات الجيوش ومخابراتها ومثلها من ملايير الدولارات والمؤسسات الإعلامية المختصة ومئات "العقول" التآمرية فإن كل القرائن تدل على هزيمة المعسكر الأطلسي –الرجعي، وانتصار حلف مقاوماته القرينة على ذلك، أن جبهة العدوان تتفكك وتستنزف على جميع المستويات وخاصة منها الأخلاقية، وتحتد من ثم تناقضاتها، وذلك في مقابل، أن جبهة الممانعة والمقاومة صامدة متماسكة عاقلة ذات استراتيجية، ولا تقتصر على ردود الأفعال، رأس حربتها وقيادتها التاكتيكية: الدولة السورية شعبا وإدارة والاستراتيجية (إيران وروسيا ) والحضارية (الصين) اشتراكية السوق و"طريق الحرير" الجديد.
  • جميع ذلك يذكر، بشبيه له في التاريخ القريب للرأسمالة:

     مع أزمة 1929 ،التي تشبه هذه من حيث الشمول والعمق،اطلقت مارد اليمين الديكتاتوري وذلك باحتكار رأسمال المالي الحلول لمصلحته..وبالتالي صناعتة للايديولوجية العنصرية النازية والفاشية ... مرفوقة بقناع (هتلر)يقود حملة التسليح والعسكرة والعدوان والتوسع.

ومثل اليوم، يستسلم الجميع لإرادته وينساق (هتلر) لاستراتيجيته ،ذلك لأن رأسمال جبان غالبا، ولم يمانع سوى شخصين ليبراليين ووطنيين واستراتيجيين هما :تشرشيل ودوغول، ووجدا اشتراكيا مناضلا غير انتهازي، هو ستالين، فضلا عن الأحزاب الاشتراكية .وانطلقت المقاومة، ثم التحقت أمريكا (روزفلت) مبدئيا أو تحت الضغط أو انتهازا أو خوفا، سيان (؟ !)    المهم هو انتصار العقل على الجهل والديمقراطية على الاستبداد والشجاعة على الجبن، وتقدمت حقوق الشعوب خطوات، بما في ذلك خاصة شعوب المستعمرات وأشباه المستعمرات، ودولها الفتية.

     ترى هل يحق لنا أن ننتظر استيقاظا للعقل وللضمير الغربي الليبرالي والديمقراطي ضدا على يمينه المحافظ والمغامر و السفيه، ومن تم يتغير الميزان فجأة ،ويتحقق التحول الديمقراطي المنشود في الغرب وينعكس على علاقات دولية فتصبح أكثر ديمقراطية وعدالة وتكافؤا، ومن تم تسهل وتدعم برنامج الانتقالات الديمقراطية في دول الجنوب(؟ !).فهذه بعض من تلك،والعكس صحيح أيضا ..

  1. علينا ألا ننسى، أن التناقض الرئيس في الراهن، هو نفسه في التاريخ، صراع الجديد المنشود ضدا على القديم المتجاوز والمعرقل،إن نهضة وعي الشعوب ومطالبها المشروعة تاريخيا ،وبانسجام مع التقدم العلمي والتقني والذي أضحى يسمح بتحقيق الكثير من تلك المطالب وعلى جميع المستويات :العمل والسكن والصحة والحرية والرفاهية .. في مقابل بنيات اجتماعية قهرية سفيهة ومتخلفة ،إن على مستوى الغرب، أو في علاقاته الظالمة مع بقية شعوب الأرض، هذا التناقض والصراع، هو الذي يشتغل موضوعيا، وإن كان يختفي غالبا عن قصد وتدبير خلف تناقضات مزيفة وصراعات مصطنعة (دينية- قومية-لغوية ...) وتتصدره اليوم كما في القرن الماضي،شعوب الأمة العربية ودولها الوطنية المقاومة، فضلا عن حلفائها الأقربين (إيران) ودول البريكس، وجميع شعوب الأرض ضدا على أعدائها من اليمين الرأسمالي العدواني –الاستعماري والعنصري والمعرقل للتنمية وللتقدم وللحرية والتحرر وللاستقلال والسيادة الوطنيين للشعوب المستضعفة.
  2. يجب أن نتذكر دائما أن القاعدة الاجتماعية لجميع أمراض حركات الشعوب المناضلة:   ،الشعبوية ،الفوضوية،الانتهازية ... وحتى الإرهابية،هي في الغالب: فئات الفلاحين الذين أفقروا         ماديا وثقافيا، واضطروا إلى الهجرة نحو هوامش المدن،فعاينوا حدة التناقضات ودرجات الأنانية والسفه والاستهلاك الرأسمالي،وعانوا من عواقبه جميعا، فأحياؤهم السكنية غير الانسانية تعتبر مدرسة وجامعة لانتاج جميع أنواع الضحايا والمجرمين الذين تحتاج إلى خدماتهم المختلفة الطبقات السائدة : خدم المنازل والمهربين وتجار المخدرات والانتخابات والعاهرات ...إلخ وفي الأقصى وعند الحاجة التنظيمات الإرهابية بمختلف الايديولوجيات المناسبة في الزمان والمكان وهي اليوم إسلاموية غالبا،وقد توظف اليسروية غدا (؟ !).

إنهم ضحايا مرتين وبؤسين:اقتصادي-اجتماعي وثقافي-سياسي (أخلاق العبيد) ينظمون ويستثمرون من قبل تجار حرب ووكلاء لجميع من يدفع أكثر ويشجعون في أتباعهم الاستسلام العقلي والانضباط المطلق والإيمان بالفكر ماقبل الديني:الخرافة والأسطورة والسحر .

إن الرأسمالة المتوحشة هي من يحفر على هذا الإرث والتراث العميق والمختزن في غرائز الجنس المنفلت والعنف الدموي والتخريب الشامل .        

Share this content:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: