انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

تعقيب واستخلاص

د.ع. الصمد بلكبير

هذا العدد، يوثق لـ"المؤامرة" التي دبرتها جامعات ومراكز بحث والأجهزة.. إياها في الغرب، الذي أضحى يتوحش أكثر فأكثر، ويوما عن يوم، متشبثا بالماضي خوفا من المستقبل، يبدو مهاجما، والحال أنه في دفاع استراتيجي، وحركات الشعوب تمارس العكس(هجوم استراتيجي ودفاع تاكتيكي)، هي حرب إذن و"الحرب خدعة" ومن آليات الخداع، التدبير الخفي، طويل النفس والمتعدد المداخل، وفي المكاتب المغلقة وبين فئات محدودة العدد فائضة العدة. 

يخطئ ويخفق، من يراهن على فهم صراعات الحاضر وأساليب الاستعمار فيه، بناء على الذاكرة، على ماضيه، الاستعمار لا يتردد في استعمال بعض تراثه منه، ولكن ضمن مخططات مبتكرة، وأقنعة مزيفة ومخادعة جديدة ومفاجئة، لا يكشف ظاهرها عن بواطنها، ولا أساليبها وطرقها عن أهدافها الحقيقية والأبعد مدى... 

هو يملك أن ينتج ويتصرف، حسب استراتيجية، رغم أنها دفاعية في العمق، ذلك لأنها (الاستراتيجية) هي في آخر التحليل، ليست سوى القوة، وهو اليوم يمتلكها، على حساب التاريخ والتقدم، وعلى حساب جميع الشعوب، في حين لا تملك هذه الأخيرة، سوى استراتيجية واحدة مؤقتة وانتقالية، هي المقاومة بشتى صيغها وأشكالها. سيادة الاستعمار تكمن أساسا في ضعف واستضعاف الشعوب، وذلك لا يتم بغير تفريقها وتفتيتها. خاصة، بتعميق وتفجير تناقضاتها الداخلية الجغرافية الطبيعية (الإقليمية والجهوية) والدينية والمذهبية والقبلية والطائفية واللغوية... 

جديد استراتيجية الحرب في راهن البشرية، هو واقع التكافؤ والتوازن في الردع الناري أو الخشن، وذلك خاصة، بسبب انتشار الوعي الوطني والديمقراطي الشعبي من جهة، وتطوير سلاح الصواريخ، إن من حيث التكلفة أو الفاعلية أو سهولة الاستعمال... وهو ما يفسر أن أمريكا، ومنذ الحرب العالمية الثانية، لم تنتصر مطلقا في أية حرب خاضتها، وما أكثرها (حوالي 300) ولذلك نجدها تعمد اليوم إلى اعتماد الجيل الرابع من الحروب، هي ما يوصف بـ"الناعمة" بحيث تكون وسائلها الثقافة والإعلام والدبلوماسية والمال.... وجنودها، المخابرات والأساتذة والصحافيون... ورهانها التشويش على المفاهيم وقلب الحقائق وتشويه الأفكار والأذهان... ومن تم تحريف الإرادات، بحيث ترتبك وتتردد وتتضارب، وتخلط بين الصديق والعدو والحليف والخصيم... وشرط ذلك حرمان الجماهير من قياداتها الواعية والمخلصة ومن الإعلام المناضل. وهو ما أنجز تدريجيا وخلال عقدين، لليسار في العالم العربي جميعه، ثم تنصيب قيادات بديلة، مزيفة ومغشوشة وخائرة وحتى عميلة... وذلك خاصة من خلال أحزاب ونقابات وجمعيات... إدارية أو "ليبرالية" مزيفة أو إسلاموية أو حتى صوفية شعوذية...

لم يعد هدف الاستعمار الجديد، هو تغيير الأنظمة، كما بالأمس، بل القضاء على كيانات إدارات الدول نفسها، ومجتمعاتها التقليدية والمدنية سيان، (وأهمها الأسرة) ونشر الفتنة في مقومات وحدتها الدينية والثقافية واللغوية... والهدف هو فك ارتباط المجتمع عن إدارة دولته، بل وتوظيفه ضدا عليها، ما يؤدي إلى تفكيكه هو أيضا وبالأحرى، ذلك لأنه لا تتصور دولة وطنية حديثة بدون مجتمع مدني، وبالعكس، بحيث يفترض ألا تناقض ولا تعارض بينهما ، بل تكامل بالنقد والملاحظة والمراقبة والاقتراح، فالتناوب على الحكم في إطار ذلك يقوم به العمل السياسي الحزبي، لا الجمعوي المدني، والحال أنهم يوظفونه (المجتمع) خارج سياقاته، ويخلطون الأدوار والمهام ويحدثون الفتنة والفوضى في الحقول جميعها.     

**************

الفوضى اليوم، هي قانون ومضمون أزمة النظام الرأسمالي العالمي، وحيث يحاول التخلص منها عن طريق تنقيلها أو تصديرها نحو شعوب ودول الجنوب. فها نحن لذلك نعاني من ويلاتها التخريبية والتقتيلية والتفكيكية الشاملة...

الفوضى تعني اللانظام، إذن اللادولة، إذن لا جيش يحمي الحدود، ولا أمن يحمي القانون، ولا إدارة تدبر المرافق العامة... إذن تيسير السيطرة من قبلهم على الأسواق، وعلى ممتلكات الدولة في القطاع العام (أبناك- صناديق- معادن- نقل جوي وسككي- تعليم وإعلام...) ذلك لأنها تمسي بدون إدارة، وبدون حراسة، وبذلك يوفرون لأنفسهم ما به يساهمون في الخروج من الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية ومن تم السياسية المحدقة.           

توظيف المجتمع ضدا على دولته، ليس بالأمر الجديد في تاريخ الاستعمار في القرنين الماضيين، لقد اشتغلوا أيضا بنفس الأسلوب. وذلك عندما استعملوا بعض شيوخ "الدين" وشيوخ القبائل والتجار... ووفروا لهم "الحماية" من "ظلم" الإدارة (الضرائب) فاستضعفوها (الدولة) بذلك، وألجؤوها إلى الاقتراض منهم، ثم إلى الاحتماء بهم (؟!). 

مجتمع غير موحد، ولا منظم في ظل قيادة وطنية وديمقراطية، لا يكون متماسكا ولا وطنيا ولا محصنا من الاختراق، يسهل توجيهه والارتداد به على نفسه في انتحار جماعي... وهو عينه "المأساة". 

إن أخطر تناقضات وصراعات الرأسمالية في ما بين مكوناتها، ومن أجل تحديد من يؤدى منها "فاتورة" الأزمة. هي أولا، في ما بين دولها الإمبريالية من جهة، ثم في ما بين قطاعاتها، خاصة منها العسكرية من جهة والمدنية من جهة ثانية، وما صراعات "دولنا" سوى انعكاس لتلك، بعد تصديرها نحونا، وذلك حتى لا تنفجر بين أطرافها، أ وفي ساحاتها الأهلية الوطنية.  

ولأنه ليس من "شيم" الإيديولوجيات الرجعية، أن تسمى المسميات بأسمائها الحقيقية، لأن ذلك سيفضحها، فإنها تعمد، عندما تستهدف نظام دولة وطنية ما، إلى التشخيص من جهة، وإلى التعميم والغموض من جهة ثانية. تتحدث مثلا عن "النظام" وتقصد إدارة الدولة، وتختصر "النظام" في شخص رئيس الدولة، وتشيطنه بحملات تشهير وتشنيع وتشويه، حتى يسقط في ضمائر المواطنين ووجداناتهم، فيسهل عندئذ إسقاطه المادي في الميادين (مبارك- ابن علي- القذافي- بشار...). 

وفي المقابل، تبحث عن "بديل" له، تكون قد هيأته لذلك، وتضخم في إبراز "شمائله" العلمية والأخلاقية... طالبة منه: تصريحات أقل وابتسامات أكثر... ولا شيء غير. ثم توحد "الجموع" حول شعار مختصر، مركز، بليغ في بساطته، جذري، موحد وموحد للميادين ولتناقضاتها الفكرية والسياسية، وبذلك تؤجل حلها (انفجارها) إلى ما بعد سقوط "النظام". الشعار إياه كان في الغالب هو "ارحل" الذي رددته الإدارة الأمريكية، أولا، ثم سوقته قنواتها العربية، وخاصة منها "الجزيرة". 

لقد سبق لمخطط القوى الناعمة هذا، أن اختبر بنجاح في ساحات أوربا الشرقية، وذلك في الثورات "الملونة" إياها، والتي خالطها لون الدم غالبا رغم ذلك، وذلك فضلا عن تفكيكها (يوغسلافيا- روسيا- التشيكوسلوفاكية)، وعن استضعافها واستتباعها ووقف مسيراتها... وتحكيم المافيات في مقدراتها ومصائرها، وإشاعة الرذيلة ومؤسساتها، في أوساطها: مخدرات- عهارة- قمار- سرقة- تبييض - تهريب...إلخ.

وكما في تجربة أوربا الشرقية، حيث وظف الدين (الكنيسة) واخترق المجتمع (النقابات...) ثم إدارات الدول نفسها، فكذلك في العالم العربي، حيث لا يفسر ما حدث في كل من مصر وتونس خاصة. سوى بـ"انقلاب" أمني وإداري، سوغه، وأخفى حقيقته "انقلاب" مدني، عبر عنه شارع، قاعدته العريضة كانت شعبية، عفوية وتلقائية (شعبوية) وقيادته خليط، أكثره كان مصطنعا (الفايسبوكيين) أو متحالفا مع السيد الأمريكي، مباشرة أو عن طريق قطر (الإخوان). 

لا تتصور، سواء نظريا أو تاريخيا، حركة جماهيرية عفوية وممتدة في الزمن، بدون قيادة، فإذا لم تكن هذه الأخيرة معلنة ومعروفة ولها مراجع وقواعد وبرنامج... فهذا لا يعني بحال، أنها غير موجودة، حاضرة وفاعلة، ولكنها بالغة السرية، بحيث توجه وتقود ولا تبين، ومن تم تكتسب فاعليتها ونفوذها، الأمر الذي يضفي على حركة الجماهير في الميادين، صبغة التلقائية والصدق.. بل والسحر والعبقرية (؟!) وتبقى "اليد الخفية" متسترة، إلى حين، وذلك ببروز أدوار جديدة، في المراحل المدبرة اللاحقة، من الفوضى العارمة. 

لقد كان الخطأ النظري والاستراتيجي، للعديد من المناضلين القياديين في جمعيات المجتمع، ممن اندمجوا، وأحيانا قادوا الحركة في الميدان. متمثلا في التالي: 

  1. إن حصادا ثوريا لا يمكن أن يأتي دون حرث ودون زرع، إن حركة ثورية حقة لا يمكن أن تحدث، دون حزب قائد، وتحالف طبقي، في ظل برنامج وطني إنقاذي وإصلاحي وانتقالي. توهم غير ذلك، هو نوع من الطمع لا الطموح بالأحرى(؟!). 
  2. أن تنتظر من شجر الشوك ثمارا، إذ هل يمكن لمشيخات الخليج أن تدعم ثورة إصلاحية وديمقراطية، بل ومن الإمبريالية الأم في الولايات المتحدة وأوربا، أن فاقد الشيء لا يعطيه كما هو معروف (؟!)
  3. إن المرحلة التاريخية الراهنة هي مرحلة إصلاح لا ثورة، وذلك بالرغم من أن الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي، أضحى لشدة تأخره، في حاجة إلى ثورة من أجل تحقيقه، غير أن التوسل بوسائل ثورية لا يجوز بحال أن يفهم منه أو تترتب عليه أوهام "برنامج ثوري". الممكن والمطلوب موضوعيا وتاريخيا هو "الانتقال الديمقراطي" لا "الديمقراطية" ولا بالأحرى "التحول الديمقراطي" و"الانتقال" يتحقق بالتوافق بين الطبقات الوطنية، لا بالإقصاء، سواء أكان ذلك عن طريق العنف الخشن بالشارع، أو الناعم بالصناديق إياها. وهو ما تأكد في جميع الساحات العربية لاحقا، خاصة من ذلك مصر وتونس حيث عادا أدراجهما إلى نقطة الانطلاق. (؟!) 
  4. إن مهام "الانتقال الديمقراطي" عندنا، ترتبط بمهمة "التحول الديمقراطي" في الغرب الرأسمالي، وأن ما يعرقل انتقالنا، هو نفسه ما يعرقل تحولهم. إلا وهو الليبرالية المتوحشة والاستعمار الجديد، وجدل العلاقة مؤكد في هذا الصدد. فكل تقدم في انتقالاتنا الديمقراطية (حالات أمريكا الجنوبية مثلا) يساهم في إنجاز تحولهم الديمقراطي، والعكس صحيح أيضا. وإذن، فإن خصيم الديمقراطية عندنا وعندهم هو نفسه، أقصد الاستعمار الجديد. وفي المقدمة منه أمريكا، وليس الاستبداد وليس الفساد وليست العسكرة وليس التخلف... سوى انعكاس له ومنتوج منه ومظهر من أخطر مظاهره. فالرأسمالية الاستعمارية هي أول وآخر وأهم من يستثمر تأخرنا وحالات الاستبداد في أوطاننا، وذلك لخدمة تكريس الأوضاع لديهم، والاستجابة لحاجيات مجتمعاتهم، والأهم نكوصهم عن تحقيق إصلاحات "التحول الديمقراطي" في بنياتهم، فلا مصلحة لهم إذن في "انتقال ديمقراطي" لدولنا ومجتمعاتنا، بل إنهم أضحوا متضررين من الأنظمة التي فرضوها على شعوبنا على علاتها، ذلك لأنها تضمن على الأقل، استمرار القطاع العام من جهة، والصناديق والخدمات الاجتماعية (التعلم المجاني، السكن، الصحة...) والوحدة والنظام، والحال أنهم في حاجة إلى تفكيك جميع ذلك، والتهامه، للخروج من أزماتهم، وعدم اضطرارهم إلى تقديم تنازلات لمجتمعاتهم في اتجاه ما تحتاجه من "تحول ديمقراطي" في حقوق الثروة والسلطة والعمل والمرأة والشباب والجهات والأقليات... إلخ. 
  5. إن المظاهر المتعددة لتهويد الإسلام، كما وقع للنصرانية قبل ذلك، والعنف المتأسلم، بل والهمجية التي تسترجع ماضي البشرية، عندما كانت بدائية، وعبارة عن تجمعات شبه حيوانية (لا مجتمعات) وقطعان بشرية متوحشة. أي مرحلة ما قبل التاريخ والدين والأخلاق والأسرة والعقل والمنطق والنظام والدولة... جميع ذلك وغيره، ليس سوى بعض إفرازات تدهور الرأسمالية في مراكزها الاستعمارية نحو الاحتكار والفساد والعنصرية والحروب والتوحش...أي كل ما تختصره عبارة أو مصطلح "ما بعد الحداثة": التخلي عن الأسرة وتفكيكها، وفصل الجنس عنها، والاهتبال بالغرائز والحدوس، على حساب العقل والفضيلة والأنانية وحرية التصرف في الجسد بيعا وتشويها وانتحارا، والجنسية المثلية والعودة إلى عبادة الأحياء من بشر وحيوانات (الكلاب خاصة) وتهميش للعقل واحتقار للمنطق وإشاعة للفوضى وللعنف والعبث والعدمية والجريمة المنظمة والشعوذة والسحر، وتحقير المعتقدات والإيديولوجيات الكبرى وذات المعنى والهدف... كل ذلك وغيره، نجد له حضورا شاملا وإعادة إنتاج في جميع وسائط الاتصال والتواصل و"الثقافة" الإعلامية والفنية، وفي القنوات الإذاعية والتلفزية وفي الصحافة المكتوبة وفي الغناء والرقص والرياضة وفي السينما خاصة في الغرب الراهن. 

"القواعد والداعشيات" بجميع فصائلها وأنواعها.. هي منتوج غربي في الأصل، صنع محليا في المغرب والمشرق، هو اختراق من قبلهم لشبيبتنا وبعض نسائنا وعموم مجتمعاتنا وديننا... من خارجها، تخطيطا وتأطيرا وتوجيها وتمويلا.. أكثر منه منتوجا محليا، فإذا انتهى كل ذلك، انتهى هو الآخر، إلى محض ظاهرة جزئية هامشية وعابرة...كما كان أمرها في تاريخ جميع المجتمعات القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة...  

  • ليس ما نعاينه ونعيشه اليوم، من تغول الرأسمال، وتوحش في أساليبه، جديدا مطلقا على الإنسانية المعاصرة، لقد عشنا نظائر له مع الاستعمار القديم، وحربه الأوربية الأولى (14-1918) ولكن خاصة، مع الحرب العالمية II حيث برزت الرأسمالية العسكرية المتوحشة (النازية)، وتصرفت تقريبا نفس التصرف (هتلر) وانفجرت تناقضاتها وصراعاتها في ساحة الغرب الاستعماري نفسه، وألحقت به قسرا شعوبنا، واصطلينا لذلك بنيرانه: بشرا وحجرا وأسواقا...

لقد تمكن الرأسمال المدني، وتمكنت الرأسمالية الليبرالية الوطنية والراشدة، (تشرشل وديغول ثم روزفلت) متحالفة مع الاشتراكية والاشتراكيين في أوربا دولة (روسيا) ومجتمعا (الأحزاب والنقابات الشيوعية والاشتراكية في فرنسا- إيطاليا- اليونان- يوغسلافيا...) وتمكنوا لذلك جميعا، من الانتصار، وفرض الهزيمة على همجية المجمع الصناعي العسكري (الألماني- الإيطالي- الياباني...) وحاضنه الرأسمال المالي الربوي، ومن تم القضاء، إلى حين، على إيديولوجيته العنصرية والديكتاتورية... النازية والفاشية... وهو ما سيكون أيضا مصير التوحش الأمريكي السائد راهنا.  

البشرية اليوم، بالمقارنة، هي في شروط إيجابية أكثر بكثير من تلك السابقة، فالليبرالية المتوحشة اليوم هي في أزمة شاملة وقاتلة، وفي مواجهتها تنتصب قوى أكبر وأعظم بكثير من تلك السابقة، غير أنها ترعوي، وترفض مسايرة التوحش الرأسمالي الراغب في الحرب، والذي يحس بان نهايته في السلام، وانتعاشه وخروجه من أزماته، يتحقق مؤقتا في نشر أسواق الحروب والفتن في العالم. 

إن أمريكا الجنوبية من جهة، ونهوض إفريقيا، والتجمعات الجديدة، خاصة منها "البركس" و"شتغهاي"، والمقاومات العربية الرسمية والشعبية، فضلا عن تململات أوربا نفسها (اليونان والتوابع لواحق) كل ذلك بقيادة المارد الصيني-الروسي، ثم القوة السابعة في العالم الجديد (إيران)، إذن فلا خوف على المستقبل، رغم المظاهر التي توحي بالعكس، ذلك أن ضجيج الانهيار هو أقوى دائما من أصوات البراعم والأجنة المتخلقة بعد، ماتزال.. 

***************

تمة في التدبير السياسي الرجعي والاستعماري، ما يعرف بـ"استخراج (أو استدراج) الشبل من عرينه قبل أن يستأسد"، وهو نوع من الاستباق في المواجهة والحرب. لقد كانت نضالات الشعوب العربية في مختلف أقطارها، في حالة تراكم وتعاظم ونمو قبل "الربيع" إياه، وضدا على أوضاعها وعلى أعدائها، وقرائن ذلك ومظاهره أكثر من أن تعد، خاصة في تونس ومصر... ولذلك فلقد كان الإسراع بها، ومن تم توجيهها وتوريطها في شعارات غير مناسبة للمرحلة، ولا ملائمة للمطالب وللإمكانيات، هو بمثابة مغامرة وإجهاض من قبل الرأسماليتين معا، الاستعمارية- الأجنبية والمحلية الكميرادورية. فلم يكن ما سمي بـ"الربيع" من قبل أوباما، سوى استباق وإجهاض لممكنه، والذي كان قابلا ومحتملا جدا. ولذلك فلقد خسرنا ولم نربح. لسبب رئيس، هو الافتقاد لقيادة راشدة وحكيمة وذات استرايتجية وبعد نظر. ومن لم تكن له استراتيجية، فمصيره أن يشتغل ضمن استراتيجية غيره، وقد يكون هذا الغير، خصما له أو حتى عدوا، وهذا هو بالضبط ما حصل للجماهير الشعبية العربية، ولنخبها القائدة. 

لقد كان أكثر من تحدثوا عن "الثورة" إياها، هم ممن لا علاقة لهم بفكرها وأحرى بممارستها، بما في ذلك الابتدائية منها، ككتابة شعارات، أو توزيع منشورات، أو تنظيم وقفات أو تجمعات أو إضرابات ومظاهرات...إلخ. لقد تحدثوا عن أمور لا علم لهم بها ولا علاقة ولا تصور. ولهذا تخللت أحاديثهم العواطف والرغبات والتمثلات والآمال الرومانسية... "الثورة" بمختلف مراحلها ومستوياتها وتنظيمها وتأطيرها وقيادتها... تدبير يقتضي تحضيرا ومعرفة علمية، لضمان الاستمرارية والتراكم والتصاعد والمراوحة والمناورة والمفاوضة وضبط التحالفات والتحييدات و"اللعب على البيانو بعشرة أصابع"... وليست هي مطلقا، بالأمر العفوي والتلقائي أو المزاجي... وفي مواجهة قوة، ليست غاشمة وحسب، ولا ظالمة ومسلحة فقط، بل ذات معرفة عالمة، وخبرة وخبث ودهاء وأموال لشراء الذمم وتعطيل المترديين وتحييد الانتهازيين وإرشاء الوصوليين...إلخ. ولذلك فلو كانت الثورات، بما فيها الاستقلالية الوطنية أو الديمقراطية، وأحرى الاشتراكية... محض رغبات شعبية..لما بقيت على وجه الأرض قوة غاشمة، أو دولة ظالمة، أو فساد مستشري أو استغلال طاغ أو استعمار سائد(!؟) 

وبعد،

إن من يتصور في المغرب والمغارب عموما، أن قوس (الفوضى العارمة) قد أغلق بسبب هزائمه المتلاحقة، هو على خطأ كبير. إن رهان المخططين والمدبرين للفتنة والفوضى، ما يزال قائما، ولن ينتهي سوى بانتهائهم، قد يتوقف مؤقتا، وقد يعدل من مخططاته وذلك بالدمج، أو التقديم والتأخير، أو تغيير الأقنعة من الشخوص والمؤسسات والشعارات.. ولكنه أبدا لا ييأس، ولا يستريح، ولا يتراجع، إلا إذا هو انهزم ماديا وفي الميدان. ومن تم، فإننا ما نزال بعد في مرمى سهامهم، وصعيدا للصراع بين أطرافهم، خاصة منها الأمريكية من جهة، والأوروبية (الفرنسية- الاسبانية) من جهة ثانية. وفي الواقع والأحداث التي تتعاور على المغرب الراهن وفي جميع ميادينه: السياسية- الاقتصادية- الثقافية- اللغوية... مظاهر من ذلك. نخص بالذكر منها كأمثلة: الأزمات الحكومية المصطنعة وتعديلاتها المتلاحقة/ أزمات العلاقة مع الحليف الأوربي العتيد والتاريخي (فرنسا – اسبانيا)/ قضايا الصراع حول القطاع البنكي، وذلك في صيغة ما يسمى بـ"البنوك الإسلامية" (التشاركية) المدخل الأمريكي- الخليجي للقطاع/ الصراع حول اللغة الثانية في "المجلس الأعلى" ومسألة التدريج... وخوصصة التعلم كأفق لـ"الحل"/ التشوهات التي تلحق بالأحزاب الوطنية الديمقراطية، وتكييفها تنظيميا في اتجاه العسكرة، احتياطا، من قبل الإدارة، للأخطار الإرهابية المحدقة، والمنتظرة/ حالات تشقيق "الاتحاد" ومأساة مقتل السيد الزايدي، ثم لاحقا وفي نفس المكان (لتأكيد المعنى السياسي والرمزي للوفاتين) حليفه الاستراتيجي (السيد "أ. باها")...إلخ.

الأهم إذن في الوقوف عندما حدث، وعن دلالاته وعن عبره... هو بالنسبة للحاضر والمستقبل، أكثر منه درسا أو بحثا في "التاريخ الراهن" العربي المعاصر.                             

أخيرا، فإن قرائن انتصار "الربيع" الحقيقي القادم، هي أكثر من أن تعد، سواء من ذلك استقلالية ودمقرطة دول أمريكا الجنوبية، أو النهوض التنموي الملموس والمتدرج لشعوب إفريقيا، أو تململات شعوب أوربا نفسها وأول الغيث قطر (اليونان).. ولكن الأهم والأخطر، هو تحالف "البريكس" و"شنغهاي"، اشتراكية السوق الصينية والرأسمالية الوطنية الناهضة في روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وإيران... 

ولأننا، نحن العرب، رأس الحربة في كل ذلك، فقرائن ربيعنا العربي القادم بارزة، أهمها أن معسكر الثورة المضادة، والذي لم يكن يقبل بحال عن مئة وعشرين "دولة" مثلت أصدقاء الإرهاب في سوريا. انتهت لليوم إلى التفكك، ثم إلى الاندثار، ولم يعد في ساحة المواجهة الفعلية سوى دولة (تركيا) ومشيختان (السعودية وقطر) مآلهما إلى الاضمحلال تدريجيا في السيناريو الأخير (رقم 20)، ملتحقين في ذلك بسوابقهم من كلينتون إلى العثماني، مرورا بَحَمدي قطر، ومرسي وبقية إخوانه. أما "القاعدة" و"داعش" وغيرهما، فليست سوى أسماء سموها، لمسمى واحد، هو عينه دائما: الاستعمار الأطلسي. 

نظام قديم ينهار، رغم إصراره على البقاء، ونظام جديد ينبثق من خلال المقاومة، يراكم انتصاراته، خلاف جميع المظاهر التي توحي بغير ذلك (؟!)  

Share this content:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: