نص مقدمة لكتاب حول ديوان: نـجوم في يدي
للشاعر محمد الحبيب الفرقاني
د.ع. الصمد بلكبير
تميزت أواخر الستينيات وبقية السبعينيات مغربيا، وربما عالميا أيضا، بمد يساري، شبيبي خاصة (التلاميذ والطلاب) فضلا عن نهوض عموم الحركة الجماهيرية (خاصة منها النقابية). عمالية وغيرها، وذلك في جميع ساحات النضال في العالم.
كان المغرب يغلي فكريا وسياسيا. الأمر الذي انعكس على جميع فئاته وتياراته وأحزابه. ومن ذلك، ميل الأحزاب والرموز التقليدية نحو التأثر، وحتى تبني الكثير من الأفكار والمواقف التقدمية أو اليسارية بالأحرى، فانقلبت علاقة التأثر والتأثير مثلا بين الأجيال، وأضحت الشبيبة تقود حركة المؤسسين والرواد، ومن ذلك مثلا، أن يعمد شاعر تقليدي عتيد مثل الزعيم علال الفاسي، إلى كتابة نصوص شعرية من النمط المتحرر من بلاغة وموسيقى الشعر الذي نشأ على ترسم قواعد كتابته.
من ذلك أيضا، وهو ما يتجاوز الحالة السابقة والتي تبدو شخصية، حالة الأديب والصحفي ع. الجبار السحيمي. فهذا "الاستقلالي" العتيد، والذي كان يقف على رعاية أهم مؤسسة يومية في الحزب، وهي أيضا أهم مؤسسة دعاية واستقطاب حزبيين، أقصد جريدة "العلم" وملحقها الثقافي الأسبوعي الذي كان يشرف عليه مباشرة ومنذ تأسيسه على يديه.
كان السحيمي حالة وظاهرة خاصة، غير أنها لم تكن استثنائية بحال، رغم جميع مزاياه الأدبية: الشخصية وأخلاقه النبيلة السامية. ففي تاريخ الآداب العربية وربما الأجنبية أيضا، حالات تشبهه، وذلك من حيث جمعه ومزاوجته بشكل لا يبدو معه متناقضا، بين تقليدانية أفكار ومواقف حزبه اليمينية عموما، وبين منحاه الثقافي الحديث، بل والتقدمي فوق ذلك. لقد كان له قدوة سابق وبارز هو طه حسين وغيرهما كثير. وفي الحالتين أمثالهما، يبدو أن الجميع كان مرتاحا للمردود المجزي لتلك المزاوجة والتي تبدو شكليا متناقضة ومتعارضة، غير أنها لم تكن كذلك بالضرورة.
فالسحيمي ذو السجية الوطنية الوديعة، والتي تميل إلى الجمع والتجميع وتنفر من التعدد والصراع. كان مرتاحا في قبيليه، الحزبي والثقافي معا وفي نفس الوقت. فهو مقبول بل ومفيد لدى الطرفين، بل وهو حجة على إمكان اجتماعهما كما حدث فعلا في سياق "الكتلة الوطنية" (1970) ثم "الديمقراطية" (1992) لاحقا.. يشبهه في ذلك رمز آخر في نفس الحزب، كان هو محمد العربي المساري (-2015).
وتيار التحديث الثقافي والأدبي، لم يكن يجد فضاء حرا أفضل من الحضور الأسبوعي في "العلم الثقافي" الذي لم يكن ينشر في معظم مواده غير كتابات اليسار حينئذ، ولم يحدث أن امتنع الملحق عن نشر إنتاج من قبله، أو أحرى أن يتدخل فيه بالحذف أو غيره.
أما الحزب نفسه (=الاستقلال)، فلقد كانت الأرباح الناتجة عن هذه المعادلة الصعبة، والتي يقف على إنجازها عضو من أكثر أعضائه اعتقادا وإخلاصا، بحيث لم يكن بشك قيد أنمله في كفاءة السحيمي، من حيث تحقيق التوازن وعدم المغامرة أو المخاطرة بما قد يضر الجريدة أو الحزب. بل على العكس، فلقد كان المردود وفيرا، سواء على مبيعاتها أو على إضفاء صورة إيجابية وشبابية، على الحزب الذي تصدر عنه، وأيضا فلقد كانت تساهم في الاستقطاب التنظيمي نسبيا، فضلا عن دور ذلك في "مناكفة" الحكم عند الحاجة أكثر وأفيد من "معارضته".
ولا شك أن الإدارة الأمنية لم تكن قلقة بحال، فالمنشور العلني هو في جميع الأحوال أفضل من السري، وكونه في إطار تقليدي (حزبا وإعلاما) أولى من استقلاله نشرا وإخراجا، وموقع النشر، يساهم في توجيه وتأويل القراءة، وأن تعرف (=الإدارة) ما يدور من أفكار، ولو كانت "متطرفة"، أفضل من أن تغيب عنها وتفاجئها في ممارسات ميدانية. كما حدث سابقا في انتفاضة مارس 1965 (؟!)
هكذا إذن فلقد كان السحيمي، ومعه وبعده المستاري، مايسترو ينسق الألحان ويوزع الأنغام ويستجيب للأذواق التقدمية والوطنية جميعا. وذلك كان سر تألقهما وشعبيتها وشبه الإجماع الذي انعقد حولهما إلى حين وفاتهما.
* * *
يبدو أن تيار التقدم اليساري ثقافيا كان جارفا، بل واكتسح العقيدة السياسية أيضا بالنسبة للسحيمي (وكذلك الأمر بالنسبة لرفيقه المستاري) ولذلك فكر وقرر أن يؤسس لمجلة ثقافية مستقلة وجذرية، ولقد كان هذا النمط غالبا جدا، بل وطاغيا على المبادرات الثقافية في المشرق (مصر خاصة) الأمر الذي تمثل في العديد من المجلات التي كانت تصدر تباعا، غير أنها نادرا ما تستمر، وذلك غالبا في شكل "كتاب غير دوري" حتى تتلافى الإجراءات القانونية لإصدار مجلة "دورية".
كنا في بحر العام الجامعي (69-1970) طلبة في كلية الآداب (ظهر المهراز) بمدينة فاس، وكان العطاء الثقافي بها غزيرا جدا، يذكر بعشرينيات نفس القرن 20 مغربيا، ولعل كل الآتي ثقافيا (أدبيا) بالمغرب، كان وليد تلك المرحلة وتلك القلعة، خاصة في: الشعر والقصة والمقالة النقدية وبعض المسرح والنقد السينمائي والتشكيلي. وذلك فضلا عن أدبيات الخطابة طبعا، والتي كانت تفرضها الحركية النقابية الجبارة في إطار "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" المأسوف على تعطيل أدواره وعطاءاته على جميع المستويات، وذلك بسبب منعه ثم اخترافه بالفوضى... "الخلاقة" قبل غيره وبعد غيره، وذلك عمليا منذ العام (1974).
في منتصف ذلك العام الدراسي الجامعي (1970) اتصل الأخ الأستاذ
ع. الجبار السحيمي، ولا أتذكر عن طريق من، أنا أم الصديق محمد بنيس، يطلب لقاء من أجل إصدار مجلة ثقافية مستقلة وريادية مغربية-عربية، وكذلك كان وبمدينة فاس.
قدم السحيمي برفقة إدريس الخوري من الرباط، واجتمعنا عشية ومساء في منزل فخيم وبعيد عن أية شبهة "يسارية" بالبطحاء، كان يسكنه مع عائلته، الصديق ع. السلام التازي، وحضرت أنا رفقة الأخوين الصديقين محمد بنيس وأحمد بوزفور. كان حضور اللقاء التمهيدي للتأسيس، تمثيليا فقط، وإلا فلقد كان المؤهلون للكتابة والمستعدون للمساهمة من طلبة الكلية، التي كانت بالمناسبة، تقتصر حينئذ على شعبية اللغة العربية وآدابها، يعد بالعشرات، ووحدهم تقريبا كانوا يسيطرون على النشر الثقافي الصحفي في المغرب وذلك فضلا عن النشرة الحائطية بالحي الجامعي والعديد من ملتقيات الشعر والقصة... بالكلية وأيضا وخارجها عن طريق العديد من الجمعيات الثقافية بمختلف مدن المغرب. ناهيك عن اتحاد كتاب المغرب، ومجلته "آفاق" وندواته...
(لقد كان أيضا مما يفسر الحركية الأدبية بفاس، حضور وتنافس نخبة رائدة في التدريس، نذكر من بينها: أمجد الطرابلسي – نجيب البهبيتي – أحمد المجاطي – عباس الجراري – أحمد اليابوري – محمد برادة – إبراهيم السولامي – حسن المنيعي- محمد سبيلا – الخمار الكنوني وع. الفتاح كليطو...)
لم أعد أتذكر كل شيء عن اللقاء، ونفس الأمر بالنسبة لبقية الأساتذة الأصدقاء الذين حضروا، وأيضا فإنه لا يهم قارئ هذا التقديم، فقط أسجل للتاريخ الوقائع التالية:
1-كان مقترح السحيمي جاهزا في أساسياته، فاسم المجلة هو "الفين" / وتكون ثقافية أدبية بالأساس / مستقلة على جميع المستويات ومكتفية ذاتيا (ماليا) / ومفتوحة على الأقلام الحديثة والواعدة / وشكل إخراجها مبتكرا (=مربع) ويراهن إخراجا على الفنانين التشكيليين المغاربة المتطوعين / ومتقشفة من حيث ورق الطباعة (ورق الجرائد) / وهو مديرها / وهيئة تحريرها هي نفسها هيئة كتابها (كان هذا تقليدا عاما في فرنسا والشرق حينئذ)...إلخ.
2-توافقنا على التعبئة من أجل الإنجاح. ووزعنا الالتزامات، وكان نصيبي منها كتابة مقالة حول الشاعر الحبيب الفرقاني وذلك من خلال ديوانه الأول (باكورته) "نجوم في يدي". وذلك كنوع من التضامن مع وضعية اعتقاله في ذلك العام، وانتظار محاكمته التي ستتم في مدينة مراكش في العام 1971. ويكون حدث محاولة الانقلاب العسكري، سببا في تخفيف الأحكام الصادرة عنها في حق مجموعته.
3-ما يستحق التسجيل والتوثيق هنا "كطريفه" مليئة بالإشارات، هو نقل بعض النقاش الذي دار حول غلاف المجلة في عددها الأول، اقترحت أنا أن يكون عبارة عن صورة للشاعر الفرقاني وراء القضبان، والتزمت بتوفير الصورة المقترحة، عن طريق التنسيق مع أسرته، فلقد كانت لي علاقة بهما خاصة وحميمية، أما إدريس الخوري فكان مقترحه عبارة عن جمع بين رسم أو صورة لقنينة خمر مرفوقة بغليون تقليدي مغربي "سبسي" (؟!)
وحسم المدير الأمر لاحقا، وذلك بالغلاف الفعلي الذي صدر به العدد الأول والأخير من المجلة، لقد تولى الفنانان (ميلود والقاسمي) رسم العنوان، فوضع أحد رسميهما رئيسيا كعنوان، والآخر في صدرها، وبذلك أرضى الجميع، كما هو وكده وعادته.
4-صدر العدد الأول والأخير من "الفين" صيف 1970 (يونيه-يوليوز) في 94 صفحة بدون تسمية لهيئة تحرير، وبقيت مقالتي النقدية حول ديوان "نجوم في يدي" بين يدي. وهذا سبب نزول هذا التقديم (؟!)
5-علمت لاحقا، أنه خلال بحث الحلقات اليسارية-السرية عن بعضها البعض، وذلك بمبادرة حلقة (مراكش-فاس) والتي كنت من بين مؤسسيها، وكان المكلف بالموضوع خاصة هو المرحوم بوعبيد حمامة. وذلك بغاية اندماجها أولا في منظمة 23 مارس (1970) أنه قد وقع الاتصال بخلية صغيرة (ربما خمسة مناضلين) كان على رأسها الأخ السحيمي ومعه حسب ما أتذكر الأخ اليزناسني وربما أيضا الاشهب، غير أن الحوار معهم لم يفض إلى اتفاق، ذلك لأن الاستراتيجيين والإيديولوجيتين كانتا غير متطابقتين. فمجلة "الفين" لم تكن لذلك غالبا، مفصولة عن مشروع سياسي لمجموعة (=خلية)، أكثر منها مبادرة فردية أو شخصية لعبد الجبار.
6-حكى لي السحيمي على انفراد ولاحقا، وبعيدا عن السياق السابق، أنه في تلك المرحلة، كان قد قرر نهائيا الانفصال عن هيئة تحرير جريدة "العلم"، واقتحام تجربة اجتماعية أدبية مغامرة، تسمح له بالكدح والعمل اليدوي والاتصال المباشر بالمواطنين، وكان أول ذلك أن يمتهن سائق طاكسي.
وحيث إن الزعيم علال الفاسي، كان بالنسبة للسحيمي ولأمثاله في الحزب وربما أيضا خارجه، هو أكبر وأكثر من أديب ومثقف وعالم ورئيس حزب... لقد كان أبا أيضا، فلقد اضطر السحيمي إلى إخباره قبل إقدامه على المغامرة. تفهم الشيخ تطلع المريد، وقال له ما معناه: يمكنك أن تحافظ على وظيفتك في الجريدة، وأن تشتغل فيها حسب إمكانيتك واستعدادك، وأنت حر في أن تؤسس ما ترغب فيه من مشاريع ثقافية وكذلك كان بالنسبة لمشروع المجلة. (وهو الأمر نفسه الذي حصل مع المستاري عندما عمد هو كذلك إلى إصدار جريدة (أو جريدتين) مستقلة).
(وفي هذا المناخ الثقافي-السياسي، انطلق التفكير في مشروع مجلة: "الثقافة الجديدة" والتي ستقوم لاحقا بأدوار مشهودة في التاريخ الثقافي المعاصر للساحة المغربية بل والعربية كذلك).
7-خلال الموسم الجامعي (71-1972) وبالضبط في (23 فبراير1972) سيتم اعتقال الأخ أحمد حرزني في أكدير، وبعده في نفس اليوم سيون أسيدون، انطلق مسلسل اعتقالات مس أولا تنظيم (23 مارس) وذلك قبل أن ينتقل إلى منظمة "إلى الإمام" و"النقابة الوطنية للتلاميذ" ومن جاورهم من مناضلين غير منتمين لآي منهم.
كانت لدي علاقة تنظيمية مباشرة بحرزني، فلقد كنت المسؤول عن التنسيق التنظيمي معه من قبل هيئة القيادة، وذلك بعد أن فضل الابتعاد عنها لاعتبارات إيديولوجية وتنظيمية، ولذلك فلقد علمت بالخبر وأنا في الرباط مع منتصف النهار، عدت مسرعا إلى الحي الجامعي بفاس، ودخلت حياة السرية منذ ذلك، والشائعات حول خروجي من المغرب شاعت، والحال أنني بقيت مرابطا ومحروسا في (ظهر المهراز) وذلك من قبل عدد محدود جدا من الطلبة المناضلين.
لقد كان علي، وأنا حينئذ في السنة الرابعة، سنة التخرج، أن أقترح موضوعا لبحث الإجازة، فلم يفدني وأنا في شروط التستر، وبدون مصادر أو مراجع.. إلا أن أعود إلى مقالتي المنوه عنها، والتي لم تكن قد نشرت بعد، وعدت إلى الديوان مرة أخرى، وذلك لأجل توسيع نفس أطروحة المقالة، وكان ما يجده القارئ بين دفتي هذا الكتاب، والذي مرت على صياغته اليوم عقود أربعة، ومع ذلك، وربما لأجل ذلك، اعتبر أنه يستحق النشر والتوثيق والتعميم لجميع من يهمهم أمر ذلك.
كان علي من خلال وسائطي الطلابية، أن أجد أستاذا يشرف على البحث يكون "صوريا"، أي دون أن يلتقي خلال الإنجاز، مع صاحب البحث. كان الوضع محرجا نسبيا، ومع ذلك وبالنظر للشروط الممتازة في علاقة الطلاب بالأساتذة عهدئذ، وخاصة بكلية آداب فاس. فلقد اخترت الأستاذ الكريم دكتور عباس الجراري، وقبل من جهته، ولقد كانت له آراء ومواقف تتجاوز حدود الجرأة والشجاعة في الدرس الجامعي، ولذلك فقد كنا قد أسسنا معه ثقافيا ونقابيا وأيضا بعض الملامسة للشأن السياسي أيضا. علاقات نضالية في الواجهتين (النقابية والثقافية) بل بلغت درجة العلاقة الشخصية، والتعاون والتنسيق المباشرين، خاصة في إطار: فرض العناية بالأدب المغربي عموما في المقرر الدراسي الجامعي والشعبي منه خصوصا (الملحون) وكذلك إقرار البحث في الإجازة، والعمل على فتح شعبة للأدب العربي بالرباط (وكل ذلك تحقق)، وذلك فضلا عن التنسيق المشترك في ما يخص "اتحاد كتاب المغرب" الذي كان يشتغل في اتجاه تسنم مسؤولية رئاسته... وتلكم حكاية أخرى.
* * *
استدراك: كان المفروض أن يصدر هذا العمل في حينه (1973)، أو على على الأقل منذ زارني في السجن الصديق الشاعر محمد بنيس (1974) واقترح علي طبع البحث (وهو الذي تابعه عند إعدادي له، فلقد كان قريبا مني، وأنا متابَع مختفي) وذلك في إطار منشورات مجلة "الثقافة الجديدة". تلقائيا وفي رد فعل سريع وغير متروي، اعتذرت منه، وذلك بدعوى أن تيارا في الحزب، كان الشاعر محمد الحبيب ينتمي إليه، يعتبر حينئذ متهما سياسيا وقضائيا بمحاولة القيام بانقلاب مسلح، والحال أن النقد الثقافي (الإيديولوجي والسياسي) الذي قمت به لديوانه. يحاول إثبات وجود ذلك النمط من التفكير لدى الشاعر، وبالأحرى رفاقه، فكأنني بالصدور العلني للدراسة، أزكي متابعة (مجموعة 3 مارس 1973). وتكون الحجة دامغة "وشهد شاهد من أهلها" (؟!)
عندما عدت للتفكير في الموضوع لاحقا، ضحكت من نمط تفكيرنا زمنئذ،
أو بالأقل تفكيري في الموضوع، لا بسبب الخلط، بله المطابقة، بين المجالين السياسي الحزبي والمجال الثقافي، بل كذلك لأنني لم أطبق قاعدة أن "الحقيقة ثورية دائما".
انشغلت بعد الخروج من السجن (1976) بالخوض في جبهات متعددة ومتباعدة. وبالرغم من أنه كان من بينها النشر، وذلك من خلال صحيفة "الجامعة" أولا حيث نشرنا باسمها أكثر من 20 كتابا تعتبر جميعا بواكير لأصحابها ثم بعدها مجلة "عيون المقالات" ومنشوراتها.. إلخ. فإنني لم أقرر نشر الدراسة، وذلك خاصة عندما أهديت نسخة منها للمعني المباشر بها (محمد الحبيب) وذلك بعد إطلاق سراحه، ومنعه من الاستقرار السكني بمراكش، ولاحظت ازوراره عني بسببها (؟!) مع أنه لم يفصح، فآثرت مراعاة نفسيته على مراعاة الحوار، بل وحتى الصراع الثقافي ولم لا(؟!).
لو قدر لهذا العمل أن يصدر في حينه، لكان له أثر وموقع ما، في تاريخ النقد الأدبي المغربي المعاصر، وذلك بسبب خصوصية منهجه ومرجعياته، التي أضحت اليوم مستساغة بل، شائعة ومطلوبة.
أما صدوره اليوم، فهو من قبيل التوثيق التاريخي لجميع من تهمهم أمر الوثيقة، حاضرين ومنتظرين. ولكنه أيضا تحية إكبار وتذكير لرمز وطني مقاوم مازيغي وقومي وفقيه ومؤرخ وشاعر وناقد أدب. أعطى الكثير لهذا الوطن وللأمة جمعاء، ولم يجد، نظير غيره من أمثاله، سوى التنكر وتعمد التهميش والنسيان. وذلك من قبل حزب عدمي فرنكوفوني ومزوغي (=توظيف المازيغية لأهداف استعمارية) هو من يسيطر اليوم على إدارة الدولة، ويحاول السيطرة على المجتمع كذلك.
بصدور هذا العمل، حول هذا الرمز النادر المثال، أكون قد أرضيت ضميري نسبيا، اتجاه مناضل، كان بمثابة أخ أكبر لي، ومثال في النضال الوطني الديمقراطي وفي الصمود وفي الإيمان بالشعب وفي خدمة قضايا تحرره وتقدمه وفي ربط النظر بالعمل والأدب بالوطن.
لقد أصدرت سلفا، عددا خاصة من الملتقى بالفقيد الفرقاني (2009)، ثم جمعت دواوينه الثلاثة في ديوان واحد (ديوان الفرقاني) (منتدى ابن تاشفين 2011) وعمدت إلى جمع مقدماته النقدية الضافية في كتاب نقدي واحد أيضا (3 مقدمات في الأدب المغربي) (سبو 2012). ثم أخيرا (2011) أصدرت في مجلد واحد وبمقدمة ضافية، مجلته الرائدة في حينها "رسالة الأديب" وذلك ضمن نشر مشترك بين كلية آداب الرباط (أكدال) وجمعية "منتدى ابن تاشفين".
وها أنذا أصدر هذا العمل حول ديوانه (نجوم في يدي) لعلني أفي ببعض دينه علي، وبعض ديونه على وطنه وشعبه ونخبته الناكرة، بل والجحودة كذلك، ومنهم اليوم للأسف، من يشتغل، مأجورا أو مخدورا، في تشويه الذاكرة وتخريبها وحتى محوها... وخاصة منها النضالية والتقدمية، وذلك حتى يفقد الوطن بوصلته، ويسهل استغلال، بل وحتى استعباد شعبه، ومصادرة مستقبل أطفاله وشبيبته، إنه الإرهاب الفرنكوفوني المسؤول عن الإرهاب المتوحش والمتأسلم والذي يراد له أن يسود في إطار وباسم: الفوضى أو الفتنة "الخلاقة" للتدمير والتخريب والتفتيت والتجهيل والتفقير.
* * *
وبعد،
فلأن الاهتمام هو هو، والهم نفسه، وإن اختلفت الرؤية والمنهجية نسبيا، فلقد توافق رأيي ورأي الأستاذ ع. العالي بوطيب، على إلحاق دراسته القيمة على نص شعري لنفس شاعرنا محمد الحبيب الفرقاني (غدا... نلتقي) بهذا الإصدار. ذلك ليس فقط باعتبار الموضوع... والتوجه العام لحالاتنا نحن الثلاثة، بل وكذلك، بسبب هذا الشرط الثقافي-التاريخي الخاص والمتميز بما يمكن اعتباره "حرب الذاكرة" الموجهة خصوصا، ومن قبل المستكبرين، على دولنا وشعوبنا الضعيفة والمستضعفة. وذلك بهدف تشويه ذاكرتها بل وحتى محوها، من أجل تحريف توجهها نحو تقرير مصائرها جميعا وفي المقدمة منها الاستقلال الثقافي والسيادة اللغوية.
ولا شك أن الشاعر محمد الحبيب وأمثاله من مقاومي الشعب المغربي، المنافحين على وحدته وعروبته (وهو المازيغي) يعتبر من أكثر من تعرض ويتعرض لمحاولات التهميش، وذلك بهدف قتله واغتياله ثقافيا وأدبيا، بعد فشل جميع محاولاتهم سحقه جسديا. وذلك ليس فقط من قبل حزب فرنسا المغربي، أو الإدارات التابعة له في التعليم والإعلام والثقافة... بل أيضا من قبل إخوانه-الأعداء في الحزب الذي وقف وضحى بكل شيء في حياته من أجل تأسيسه وبنائه، وذلك قبل أن يرتد عليه ويقصيه ويهمشه حيا أولا، ثم شهيدا، غير أن الشهداء لا يموتون، بل هم أحياء في ضمائر وقلوب شعوبهم، أما الجبناء، فإنهم كما عبر القائد "مانديلا"، يموتون عدة مرات، قبل أن يدفنوا وينسون نهائيا.
(ولا حديث عن "اتحاد كتاب المغرب" فهو قد تعرض لقرصنة، لا يستحق معها الموقوف عند حالته).
مراكش: أكتوبر 2015