انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
"مقتطف من مذكرات العربي مفضال "زهرة العمر
“اهنا طاح الريال”

في جملة غنائية مصحوبة بتصدية وصراخ جماعيين، وضمن مرددة فولكلورية مغربية، تقول "هنا طاح الريال، وهنا تلعب (و) عليه". والجملة إياها في الأصل هي عبارة عن عنوان حكمي لحكاية خرافية تتجاوز في انتشارها الحدود الوطنية وحتى القومية. 

تتصور الحكاية "مغفلا" سقطت منه عملة، وصادفه أحدهم يبحث عنها تحت ضوء مصباح عمومي، فعرض عليه أن يساعده في البحث عن مفقوده، وبعد لأي سأله عن مكان سقوط عملته بالضباط، فأشار "المغفل" إلى مكان بعيد عن الضوء، فنبهه المسعف إلى خطأ مسعاه، فالبحث عن العملة المفقودة يجب أن يتم حيث ضاعت، فأجابه "المغفل" باستحالة العثور عليها تمة، لأنه مظلم؟! 

الحكاية في الخرافة تساق للعبرة والعظة، لا للتفسير (خلاف الحكاية الأسطورية). والحكمة أبقى، مقارنة إلى الفلسفات وإلى العلم، والمغفل هنا، هو المجتمعات والنخب والدول العربية عموما منذ انطلاق عصر حداثتها، حيث توزعت في البحث عن حلول لمعضلاتها الموروثة منها أو المرتبطة بزمن العالم (=الحداثة) نحو زمن آخر (الجاهلي، صدور الإسلام/ أو العصر العباسي، وبعضهم اليوم يتحدث عن العثماني؟!) أو نحو مكان آخر هو الغرب، أوربا الرأسمالية، وذلك انطلاقا من جذورها اليونانية- الرومانية، أو عصر نهضتها ثم تنويرها، أو في الأقصى ثورتها الليبرالية الفرنسية وما تلاها. ولا أحد اهتم، إلا القليل، بـ"التحليل الملموس للواقع"و/أو جذوره المباشرة له تاريخيا، ما سمي ابتسارا "عصر الانحطاط" أي بالضبط حين "طاح الريال" وحيث المفروض أن نبحث عنه فيه، وذلك بعد أن نستقدم الضوء لإنارته.إن من قبس الصدر (أو بغداد وقرطبة)، أو بمصباح الحداثة: علومها ومناهجها وفلسفاتها... 

لم يقتصر أمر "الغفلة" إياها على الرواد المؤسسيين، وكانوا جميعهم ليبراليين بلغة ولبوس عصريين (الشدياق- السيد- البسانيين) أو تقليديين سلفيين (الأفغاني – عبده...) بل شمل الاشتراكيين لاحقا أيضا. حيث اهتموا عموما بنصوص "النقل"، أكثر من عنايتهم بفهم الواقع وتحليله، وذلك من خلال تغييره، وإذا حصل، فبمناهج وصفية- وضعية تكرسه ولا تغيره. 

مثقفو الشرقين الآسيوي والأوروبي، اختصروا عليهم المراحل، واقتبسوا من الغرب آخر مستحدثات علومه ومناهجه وفلسفاته (الاشتراكية خاصة) وأناروا بها غوامض واقعهم (وليس ماضيهم)، وفهموه من خلال النضال القويم العقلاني والاستراتيجي لأجل إصلاحه أو حتى تغييره. وحققوا بذلك انتصارات لشعوبهم (بوحدتها واستقلالها  ودمقرطتها وتقدمها) بل وللإنسانية جميعا. وحتى اليوم (الصين) واستمرت نخبتنا عموما تنتج الكلام من الكلام، (علم الكلام بدل علم الواقع) (=الثرثرة) "تراكم" كتابات تحتفي بنفسها (=تصوف) وتتنافس في استعراض بلاغتها، التي لا تبلغ عن جديد في واقع يكاد لا يتجدد، لا تُسمي الأمور والأشياء بأسمائها، بل بمعجم موروث، أو مستعار، مغلوط ومغشوش أو حتى فاسد.(؟ !) 

وعلى صعيد الترجمة نفسها، وعلى أهمية ما أنجز فيها، غير أنها غرقت في فوضى "مدبرة" ناتجة عن خضوعها للأهواء أو التجارة. والحال أنها في التاريخ وفي الراهن، مسألة "استراتيجية" تخص الأمم والدول، لا الأفراد ورغباتهم الأدلوجية (؟!). 

وحدها الآداب والفنون العربية حازت الجدارة، لولا أن مآلاتها اللاحقة، أسقطتها في العبث والفلكلورية... والعرض حسب الطلب الخليجي والأجنبي وليس السوق الوطني الشعبي. (؟ !).

عطب "الكتابة" والنخبة العربية "المستقلة" عن شعوبها وعن الواقع وصناعته التاريخية، هو مظهر بارز عن معضلات الأمة، يكرس وضع تأخرها واستعمارها وتفككها.. ولو توجهت حقا نحو إستراتيجية إصلاح وتغيير ديمقراطي- شعبي، لاكتشفت حاجتها المزدوجة إلى الذاكرة والحكمة والتاريخ، كما إلى العقلانية وإلى الحداثة، ولا حداثة اليوم إلا بالاشتراكية، أما الليبرالية فهي تنتحر في وبالتوحش والفوضي والإفلاس... 

كتابة – خطابة علمية وديمقراطية، تعني أن تكون تحليلية، جدلية وجدالية، لا تستدعي الواقع، بل تتجه نحوه، مشتبكة به ومقارعة، مرتبطة بالأرض وبأصحابها وبرامجهم، من خلال استراتيجية جماعية لا نخبوية ولا بالأحرى فردانية – انانية. 

هذا الحوار، لا يعم التُّبع ، دعاة "الهويات" الانتحارية القبلية - الجهوية أو اللهجية - الفولكلورية أو العدمية-الفوضوية... والعولمية.

د. عبد الصمد بلكبير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *