ع. الصمد بلكبير
للمفكر الفرنسي ميشيل فوكو تشبيه طريف وموضح لحقل الإيديولوجيا بأنها تشبه حقل المثلاشيات، ذلك يعني على الأقل، أنها:
1- لا تموت، بل تحيى بإعادة توظيفها
2-أن المعنى لا ويوجد في مكوناتها، بل في بنية تركيبها وعلاقات أجزائها.
3-أن دلالات إجزائها، تتغير، حسب مواقعها وتوظيفاتها الطارئة.
هذا الاكتشاف في علم المعرفة الإيديولوجية، عمق به فوكو، ووسع حدود المؤسس للأطروحة (هيجل) وأغنى التصريف السياسي لها من قبل (ماركس).
* * *
النظرية الفوضوية في أوربا وتقاطعاتها المتعددة مع الشعبوية، باعتبارهما معا "ردود فعل" من قبل الطبقة الوسطى الصغيرة خاصة، والفلاحية والحرفية عامة، على شروط الاستغلال والقهر الذي تمارسه ضدا عليهم، إدارات الدول الرأسمالية وأحزابها ونقاباتها... تعتبر عموما معروفة ونهاياتها العملية والنظرية الفاشلة، هي كذلك معروفة، غير أن الرأسمالية الاستعمارية، وبوساطة أدواتها الاستشراقية، السياسية والثقافية، ستعمد وبأساليب غاية في المكر والخبث، إلى استدعاء هذا الفكر، وتشجيع التناقضات والنزوعات القبلية وغيرها من التي قد تميل إليه، وتحريضها من ثم على اقتحام حقوله واقتراف ذنوبه.
مرة أخرى سنلاحظ كيف أن "الحداثة" الموظفة استعماريا، هي من يستدعي "القدامة" القبلية.. مستعملة لذلك، أفكارا وأطاريح حديثة فعلا، ولكنها بئيسة وفاشلة بل وارتدادية.
لم يستعمل الاستعمار، ولأجل غزوه وسيطرته.. الخليع من جهة والوسيط من جهة أخرى بل والمتمرد القبلي على النظام (= الدولة) (لدوافع انعزالية-انفصالية أو لدواعي الطموح لإدارة الدولة الوطنية أو لدواعي دينية...)
لقد حرك الاستشراق الكثير أيضا من الحركات الفوضوية القبلية المتمردة على السلطان السياسي والاقتصادي-الجبائي لإدارة الدولة... مستغلا في ذلك معرفته بالتناقضات القبلية من جهة، ولنزوعات التسيب الجهوية من جهة أخرى... لإضعاف الدولة المركزية (=المخزن) وشغلها وتشتيت اهتمامها، واستنزافها... قبل الاستعمار... ومنع وحدة المجتمع في مناهضته له بعد احتلاله من قبله.
هكذا إذن، فلم تكن إيديولوجيا الفوضى، وأحيانا الشعبوية، بأقل خدمة للاستعمار واستتبابه، من أولئك الذين لم يكونوا سوى مخبرين (الخلعاء) أو محض عملاء (المحميين).
واليوم نجد الأمر نفسه يكاد يتكرر.
* * *
فعن طريق:
1-المختبرات الاستخبارية المتعددة للأفكار والمفاهيم والعقليات والأخلاقيات والاستراتيجيات السياسية... تمكن من إنتاج وإعادة إنتاج ونشر الكثير ن التشويهات والتحريفات والقلب.. للعديد من جميع ذلك، مخطط مدبر ومدروس لنشر "الفوضى الخلاقة" في الأفكار والأذهان والمفاهيم والمصطلحات... التي بواسطتها تفكر "النخبة" وتقرر الهيئات.
2-استكتاب وتشجيع نشر العديد جدا من الكتب والمقالات في الصحف والندوات والمؤتمرات والجوائز والمسابقات والترجمات... لتعميم تلك الفوضى تحت لافتات متعددة أهمها: التعدد والتنوع الثقافي (؟ !) والحق في الاختلاف....الخ.
وفي الوطن العربي اشتغلت على هذا الكثير من مراكز "البحث" ودور النشر والمجلات والسفارات والهيئات الجامعية و"العلمية" المختصة.
3-اختراق، أو حتى تأسيس العديد جدا من جمعيات ما يسمى بـ"المجتمع المدني" وما هي كذلك، وخاصة في قضايا حقوق الإنسان.. وتمرير الأغاليط وشحن العواطف والانتظارات اللاواقعية واللاتاريخية واللاعلمية... من خلالها.
4-تم توج كل ذلك، بالمرور نحو الميدان، خاصة عن طريق الدعاية والتحريض الذي تكفل به إعلام مغرض شعبوي وفوضوي، مكتوب ومرئي ويقصف بكثافة، من جميع الجهات وفي جميع الاتجاهات، وذلك بعد أن تهيأ للمهمة وللمرحلة، خلال فترة مديدة، كان الهدف منها اكتساب الثقة وترسيخ التعود والإدمان على الصحيفة والقناة. وأيضا تهميش أو حتى محو كل منافسة محتملة في السوق.. وهو نفس الصنيع الذي جرب ونجح في تجربة "ماك دونالد" حيث قدمت الجودة والرخص إلى حين القضاء على جميع منافسيها واكتسابها للسمعة، وعندئذ فقط قلبت ظهر المجن التجاري على المستهلك، وتحولت إلى احتكاره لعرضها الرديء بل والمضر (=قلي البطاطا في شحوم الخنازير مثلا).
* * *
مرة أخرى لا حدود جغرافية وتاريخية أو حتى طبقية... بين الإيديولوجيات، تستطيع الرجعيات أن توظف وأن تعيد إنتاج ما تحتاجه منها، ومن ذلك اليوم، مثل الأمس القريب، الفوضوية والشعبوية.
كنا نظن أن النقاش النظري والسياسي ثم الفشل العملي للفوضوية قد أنهاها، فإذا هي اليوم تنبعث حية تسعى، وتستمر في التخريب.
ونفس الأمر بالنسبة للشعبوية، التي أجهز عليها لينين وتجربة الثورة، فإذا نفس الطبقة البورجوازية الصغيرة، يعاد تلقينها لها من قبل مراكز "علمية" مختصة عولميا في إنتاج وإعادة إنتاج "الفوضى الخلاقة".