لعله الآن فقط، وبعد سلسلة من المآسي، أضحى تدريجيا يتبين لنا أن.
1ـ الرأسمالية، في مراكزها الامبريالية، لم تعد نظاما معقولا ومشروعا وذا نجاعة ومردودية، بل محض فوضى عارمة. وأن توحشها هو صفة ثانية لها، لا رئيسية. وذلكم عنوان وحقيقة وقانون أزمتها، أو بالأحرى أزماتها.
2ـ سيادة الفوضى في أوساطها وعلاقات مكوناتها ومؤسساتها وعلاقاتها الخارجية... والتي تصدرها وتعممها عولميا ليس قرارا إراديا أو تدبير سياسياً (رايس مثلا) بل هي انفجار تلقائي لنظام لم يعد "نظاما".
3ـ إن أداة ذلك التصدير العارم للفوضى. ليس سوى الشابكة (الانترنيت). وهذا هو بعض ما يفسر التالي:
أـ قبولهم نقلها من الحقل السري للقطاع العسكري إلى القطاع المدني تدريجيا واختباريا لمدة 10 أعوام. ثم أطلقوا الجني في التسعينيات.
ب ـ عدم مطالبتهم بـ"حق" الملكية لاختراعهم لها. وهذا نقيض كل قيمهم وتاريخهم بل ومستقبلهم أيضا (الصراع مع الصين حول الموضوع). والرأسمالية والمجانية هما على طرفي نقيض مطلق.
ت ـ ثم أنهم فوق ذلك، وعلى خلاف قيم أسواقهم في التسعير حسب العرض والطلب. تركوها هدية بالمجان مشاعة، غير أنها مسمومة في تخطيطهم وتدبيرهم لها استراتيجيا.
4ـ أخطار عدم التقنين والتسليع في حالتها هي متعددة. أهمها بالنسبة لهم:
أـ إن مستعمليها خليط غير متجانس، يسمح بكل شيء. إذن بالفوضى. تسمح بالإيجاب والسلب. بالخدمة العامة ونقيضها... وذلك غالبا حسب إرادة المالك المقرر والموجه وصاحب الاستراتيجية. وذلك مقابل من لا يملكون سوى ردود الأفعال، بل والاستجابات أحيانا فقط.
ب ـ وحيث أنها موضوعة لاستعمال الجميع، فأكثر هذا الجميع هم من ضحاياها في التجهيل والتخذير والأمراض العقلية والنفسية والأخلاقية والعدمية (الوطنية والثقافية) والصفاقة... وحتى الحقارة والنذالة.
ت ـ هذه "السوق" للمفاهيم والأفكار والأخبار، والتي لا ناظم لها ولا قانون ولا مسؤول (ظاهر)، هي ما يسمح باستعماله من قبل العابثين بالسيادة وللجهال بتوهم (المعرفة) والأخطر أنه يدفع بالعقلاء والعلماء... إلى الإنسحاب من الميدان تعففا وتركه احتكارا لجيوش الحشرات تعبث فيه تسميما للعقول والعواطف والقيم وذلك نظير (أو تقليد) ما يعمد إليه الأكثر عفونة. أمام وليمة مشتركة. حينما يسعى إلى احتكارها بالتفل فيها، فيعيف الآخرون ويرفعون أيديهم ويستأثر هو بالقصعة (ما يسمى بالرأي العام) وحده.
5ـ هذه الكتائب المعبأة والمسلحة أدلوجيا نظير القاعدة وفروعها (داعش مثلا). متعددة المنطلقات والمقاصد والبرامج، ومنها الذي لا برنامج يملكه أصلا سوى الفوضى. هي ما يحولها إلى شبه قطيع يستطيع قائد (راع) من الخلف أن يوجهه. ويظن نفسه "حرا" و"مقاصديا" وذلك فقط لأنه لا يلاحظه (الراعي) والحال أن اجتماعهم وتوحدهم في الميدان، رغما عن تناقضاتهم... ما كان ليتم لولا تدبيره وتمويله وتوجيهه خاصة بواسطة شابكة التواصل الجماهيري (وليس الاجتماعي).
6ـ هذا هو بعض مقومات وفلسفة الجيل الرابع من حروب الاستعمار الجديد. وذلك بعد أن أضحت الحروب السابقة التقليدية مكلفة جدا (8 تريليون دولار في العراق وأفغانستان) ومئات الآلاف من القتلى ومصاريف دفنهم وتأمينهم الباهضة. وبدون نجاح وذلك خاصة بسبب سلاح المستضعفين الفعال جدا (=الصواريخ) الابتكار الكوري- الايراني والسوري.
7ـ ذلكم اليوم هو ما يسمح بل ويشجع على نمط الانقلابات "المدنية" أي باستعماله (النمط) المجتمع (المدني) ضدا على إدارة دولته المستهدفة وضدا على رأسمالية مجتمعه الناشئة. وكل ذلك باسم (الثورة) و(الربيع) وما شاكله، ولا جديد في هذا، مقارنة إلى أسلوب الاستعمار القديم نفسه، الذي استعمل المجتمع التقليدي (قبائل-زوايا-تجار دين-طوائف...) ضدا على إدارة دولته (المستبدة) فعلا، وباسم (الاصلاح) وذلك حتى يحل محلها بالاستغلال بديلا للاستقطاع !؟
8ـ هذا هو النمط الراهن للتدخل الخارجي الناعم باسم الحقوق والحريات وجمعيات وصحافة واساتذة، بل وأحزاب "الربيع" المدني, حيث التمويل والدعم الاعلامي الامبريالي، لا يحتاج إلى تسريب خارج "القوانين" التي يقفون سلفا على تشريعها محليا. وذلك تحت ضغط القروض والصفقات التجارية والمواقف السياسية غالبا !؟
يشهرون بـ"فساد" القطاع العام حتى يخوصص وعندما تتصدى لذلك بورجوازية محلية. يحاصرونها إعلاميا و"جماهيريا" بالتشهير بفسادها، وذلك حتى تتخلى، أو تشركهم في الاستغلال... وبذلك يقللون من أزماتهم البنيوية بل وإفلاسهم في مراكزهم عن طريق تصديرها (الأزمات) إلى أسواقنا وذلك بأيدينا و"عقولنا" الملغومة بالمفاهيم المغلوطة والشعارات الزائفة (=مظهرها يخالف ويخفي مخبرها).
9ـ أخطر ذلك ما حصل في العشرية الأخيرة عربيا، من جرائم جنائية وعمرانية واقتصادية باسم (الربيع) و(الثورة). بتدبير أمريكي-صهيوني إماراتي وإعلام قطري وتمويل سعودي ومشاركة تنافسية تركية، وتغطية أطلسية.
10ـ واليوم، وبعد الفشل السياسي للتدبير الاستعماري-الخليجي في المشرق (العراق والشام)، ها هو التيار يتجه نحو المغرب العربي، والأقصى منه خاصة، وذلك فضلا عن أهداف التفكيك والاستضعاف واحتكار الأسواق... للضغط على المغرب للاندماج في التطبيع وتمرير (الصفقة). وأقله رفع يده عن دعم المملكة الأردنية، فموقفها هو العقبة المعرقلة لابرام الصفقة. مع أن الأردن استراتيجيا (ولكن ليس وجوديا) في معسكرهم. والحال أن الشرعية الدولية لإقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين يجب في منظور الصفقة أن تحل في الضفة الشرقية إذن على حساب المملكة الأردنية، وهذا ما لا يقبل به المغرب بل ويعرقله.
11ـ الرأسمالية العالمية راهنا. تفكر جديا في مراجعة وضعية الشابكة وذلك بعد أن تبين فشلها في توظيفها الاستعماري الفوضوي لها، بل وارتدادها عليها، وذلك بتقنينها أولا وتسليعها ثانيا ومراقبتها القانونية ثالثا.
ولقد بدأوا بالأخيرة، غير أنهم يؤجلون ذلك مؤقتا. ريثما ينتهوا من جريمة (الصفقة) ومن تم بيضة التبان (المغرب).
12ـ التفتيش والمراقبة لا مهرب منهما إذن، المرجو فقط ألا تشمل الوطنيين عوض العولميين-الفوضويين والعدميين، دعاة التطبيع والاستتباع والخوصصة وإضعاف الدولة وتفكيكها...
13ـ جميع الطبقات القائدة في التاريخ. تصبح رجعية عندما تفقد المشروعية التاريخية. وكذلك هي اليوم، الرأسمالية في المراكز الاستعمارية. ضد استقلال الشعوب والدول وضد العقل وضد التقدم وضد الثقافة وضد التحرر باسم الحرية الأنانية والفوضوية غير المسؤولة والغوغائية والقابلة للاستخدام من قبلهم.
14ـ أخيرا، إن الرأسمالية نظام وبنية (لا أشخاصا) وعلاقات إنتاج لا علاقات توزيع واستهلاك. ولا يمكن مقاومتها في السوق ومن قبل "مستهلكين" بل في مراكز الإنتاج ومن قبل العمال المنتجين الواعين والمؤطرين مهنيا (نقابيا) وسياسيا (حزبيا) كمواطنين وضمن استراتيجية للتحرر الوطني والقومي سبيلا للاجتماعي-الطبقي... وغير ذلك فهو خدمة بالوكالة أو بالمجان للرأسمال الأجنبي على حساب الوطني (العام أو الخاص).
العدميات أصل ومظهر الأدواء الذاتية، والوعي الوطني-القومي هو الحل.
د. عبد الصمد بلكبير
10 ماي 2020