انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

الزمن (والزمان) والتاريخ

الزمن (الجغرافي) وليس الزمان (الميتافيزيقي) هو المقصود هنا في علاقته بالتاريخ، الذي هو إنساني بالضرورة. إذ لا تاريخ للطبيعة، فالتاريخ هو فعل الإنسان في الزمن. والزمن هو حالة طبيعية – موضوعية. أما التاريخ فهو تدخل إرادي بشري في توجيه واستثمار قوانينها. وعندما يحدث ذلك، ينعكس تلقائيا وجدليا على أوضاع البشر نفسه، وذلك من حيث تصوراته ومعتقداته وأوضاع علاقاته وتراكم مكتسباته. وأهمها إطلاقاً حرياته وتحرره من ضرائرها (الطبيعية).

فعل الإنسان، لا يعني كدحه، فالحيوانات تكدح أيضاً، كما لا يعني ما يجنيه أو يصيده أو يقنصه... من الطبيعة دون مجهود يتجاوز الاستهلاك، فعل الإنسان الذي هو شرط دخوله التاريخ وصناعته له ولنفسه. يعني اختراعه وسائط الأدوات بين أفراده وبينه وبينها (= الطبيعة) بما في ذلك اللغة، ويعني تعاونه مع بعضه وتوزيع المهام بين أفراد مجتمعه. ويعني الإرادية والقصد وليس الغرائزية فقط، كما يعني خاصة، تشكل الوعي. تصور التغيير ونتائجه الذي سيحدثه بالعمل، فالمعرفة والعلم، هما منتوج التغيير بالعمل، وليستا منتوج تأمل مجرد أو إلهام ووحي أو خيال مجنح...

بالعمل المنتج والمغير للمحيط وللذات، تحولت البشرية من الزمن الطبيعي إلى الزمن التاريخي، تحول تجمع القطيع إلى اجتماع بشري، وتشكلت الأسرة ثم العائلة وتقسيم العمل والقواعد الأخلاقية والحكامة والتحكيم والقداسة (= النظافة) تم الدين لاحقاً تتويجاً لكل ذلك وتمهيداً لتأسيس إدارات الدولة. المظهر والمقياس الرئيس لدخول الإنسانية إلى عصر تاريخ اجتماعها وتحرير إرادتها وتركيم مكتشفاتها واختراعاتها، بما في دلك اختراعها لنفسها... وذلكم هو ما اصطلح عليه بالآدمية. 

قبل ذلك، هو ما قبل التاريخ. حيث العلاقة مع الزمن، تعكس علاقة أجدادنا بالطبيعة، نصورهم لأنفسهم أسطوريا مثلها: تكرارٌ وعَود ودور... وعبث أحياناً، دونما معنى ولا قصد ولا قواعد أو منطق ولا تراكم إرادي للحريات وللتحررات ولا تقدم... لقد كان الإيمان بالله (صانع كل شيء) هو لحظة التحول التاريخي التي صنعت كل ذلك.

وبدخول الإنسانية عصرها الحديث، أعادت تأويل دينها إيجاباً، واقتبست من إلاهها قدرته وإرادته وإبداعه، وأضحت هي صانعة كل شيء لها وفي محيطها بالعقل وبالعلم وبالأدوات التقنية. لقد أنجزت وعد (الدين) أن يكون الإنسان خليفة لله في أرضه.

غير أن إيديولوجيات رجعية، ما تنفك تحن وتعيد إنتاج أساطير التكرار والعود والدور والتقهقر... تصوراً للزمن، نقيضا لحقيقة تراكمه وتقدمه. بفضل العمل والوعي... الإنسانيين. فلسفات (عصرية) غير أنها ليست "حداثية"، وما أكثرها.

التاريخ والتاريخانية، وحدهما يسعفان في مواجهة تحديات صنع الحاضر والمستقبل. أما الأنثربولوجيا الاستعمارية الجديدة، فهي عملياً وموضوعياً نكوص لما قبل التاريخ، تماماً مثلما هو حال قاعدتها الاجتماعية وموجهها السياسي الرأسمالية الوثنية، الهمجية والخليعة. المرتدة نحو تجمع القطيع بديلا عن مكتسبات الاجتماع المدني – الحضاري والإنساني المتدين بمعنى المتخلق، الممتلك للضمير والمحافظ على الإرث والمراكم، وليس الخاضع للقانون وللإدارات فقط.

ع. الصمد بلكبير 

Share this content:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: