انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
"مقتطف من مذكرات العربي مفضال "زهرة العمر
الدين والسياسة (تحديد المفاهيم في التاريخ)

 1 -ثمة مفارقة، بل تناقض في عنوان الموضوع، ذلك لأنه "لا مقارنة حيث الاختلاف"، والحال أن اختلاف الموضوعين صارخ.

أ-فالدين ظاهرة وجودية إذ لا يتصور الإنسان وجودا في التاريخ دون إدخال الدين والتدين ومؤسساتهما في الاعتبار. إن مجمل ما سمح للبشر أن يتحول إلى إنسان، وذلك منذ آلاف السنين هو بالذات ما نسميه الدين، أي قواعد وضوابط اجتماعية للأخلاق وللسلوك.. تميزت بها البشرية، ثم الإنسانية، عن الحيوان، واستقلت بها تدريجيا عن الطبيعة، وتأهلت لاحقا لتأسيس الدولة والتاريخ والحضارة... منذ أقل من عشرين ألف عام.

ب-لا ينتمي الموضوعان إلى ذات الحقل، حقل الدين هو الواجب والمطلوب والمنشود في حين يعود حقل السياسة، إلى الممكن الواقعي والتاريخي، وجذر الخطأ في خلط الدين بالسياسة، هو الخلط بين حقلي الأخلاق والواجب وحقل التاريخ والممكن، بالتالي الايديولوجيا والدولة..

 2  -لا يتصل الأمر بعلاقة، بل بعلاقات متعددة، متنوعة، متبدلة في الأمكنة والأزمنة المختلفة، فقد تكون تقاطعا أو تمفصلا أو تعارضا أو تناقضا أو تطابقا... 
أو تداخلا أو تساكنا أو تكاملا أو توازنا... حسب الشروط وحسب الأحوال المختلفة

 3  -وأيضا، فثمة مستويات للمسألة الدينية، لا يجوز الخلط بينها منهجيا، وإن كانت هي متداخلة في الواقع وفي الممارسات: 

أ-الدين: وهو ما يصح اختصاره في مفهوم "الفطرة" وهي عموما ما يصطلح به عن القواعد الأخلاقية والسلوكية التي سمحت بالاجتماع البشري ثم الإنساني.

ب-التدين: وهو طرائق ودرجات لا حصر لعددها ولتنوعها، كما أن بواعثه هي في أكثرها لا علاقة لها بالدين، بل بالمواضعات الاجتماعية والحالات النفسية... للمتدينين.

ت-المؤسسات الدينية: وحقل تحليل ومعالجة هذه، هو علوم الاجتماع والسياسة والثقافة... (الأسرة – المسجد – الزاوية...) 

ث-الإيديولوجيا الدينية: وهو التوظيف الإيديولوجي، ومن تم السياسي، للدين وللتدين ولمؤسساتهما...لأهداف تتصل بمصالح الطبقات وإدارات الدول... في المجتمع وفي التاريخ... ولا علاقة لها بالدين إلا بذلك الاعتبار. 

      - لاشك أن الدين ورموزه، ساهما تاريخيا في تأسيس الدولة، ومن تم السياسة.. في أول ظهور لها في فجر التاريخ. هذا الاختراع الأعظم (=الدولة) الذي انطلق به تاريخ الإنسانية.. يعود فضله إلى الدين سواء في الشام والعراق (قواعد وقوانين حمورابي) أو مصر (اخناتون خاصة) أو شبه الجزيرة مع الإسلام.

في ذلك كان التفاعل إيجابيا والعلاقة تكاملا والأهداف متطابقة أو تكاد.

       - لعل أول تنافر، أو حتى تناقض واصطدام بين المنحيين، كان في فلسطين تحت السيطرة الرومانية، وذلك من قبل الأحبار اليهود، الذين حرفوه ووظفوه ايديولوجيا لخدمة وتسويغ سياسة الاحتلال الروماني.

وكان ذلك معنى ودلالة ثورة السيد المسيح الإصلاحية (=إرجاع الدين إلى وظيفته الأصلية) لا التجديدية ولا بالأحرى التأسيسية، لقد تصرف كيهودي تقي عندما دخل المعبد وقلب الطاولات على تجار الحمام وتجار النقود (=المرابين) صارخا أنه [بيت الله (=عياله) لا بيت اللصوص] ومن تم دعوته إرجاع الدين إلى أصحابه (المجتمع) ما يقتضي حكما، فصله عن الإدارة (=الدولة) إذن عن السياسة (الاحتلال الغاشم والأجنبي) لا عن السياسة" مطلقا، ومن ثم حديثه عن (ما لقيصر وما لله).

للحظة الإسلامية: دعوة ودولة، خصوصيات: 

أ-لم تكن الدولة قائمة، وحالاتها الجنينية، كانت أجنبية في الغالب، إذن وظيفية (حدودية – عسكرية – تابعة...) المقصود: المناذرة، الغساسنة وكندة..

ب-في يثرب، حيث كانت الفلاحة السائدة تسمح، بل وتحتاج إلى نظام، كان التوازن القبلي لا يشجع طرفا ما على المبادرة لفرض ذلك، وإذا هو اختل لمصلحة قبيلة (الأوس أو الخزرج) تدخل المرابون (يهود غالبا) لإعادة تكافئه بدعم الطرف الضعيف، وذلك حتى تستمر الفوضى سائدة بفعل التكافؤ، وهو ما يخدم مصالحهم التجارية-الربوية...

ت-أما مكة وملحقتها (الطائف( فثلثي تجارتها كانت مع الخارج في "رحلتي الشتاء والصيف" نحو الشام والعراق.. والثلث الباقي، فرضت له دينيا أربعة أشهر "حرم" على الحروب، أما فضاؤها نفسه فهو "حرام" طيلة شهور السنة.

ث-أما نمط الرعي، والقبائل الرعوية في البوادي، فتركت لعلاج اختلالاتها البيئية والديمغرافية، عن طريق فوضى حروب (هي مجمل "أيامها") تتكفل بإنقاص فائضها البشري، حتى يتوازن مع مواردها الطبيعية المحدودة وغير المستقرة، (الماء والكلأ).

ج-لقد عكس التعدد والتنوع الديني في شبه الجزيرة، تنوع أوضاع تشكيلاتها الاقتصادية-الاجتماعية (عسكرية وظيفية – فلاحية – تجارية – رعوية) ولأجل وقف الفوضى وحروب (الكر والفر) والتبعية... كان يحتاج الأمر إلى وحدة وتوحيد، في إطار دولة، تفرض الأمن والنظام، وتصدر مصدر الحروب (الفائض البشري) إلى خارج شبه الجزيرة.

لم تكن الدعوة المحمدية، في بداياتها تدرك تلك الحاجة، لقد تصرف النبي r كما تصرف سلفه من الرسل والأنبياء، رافضا السلطة على مكة حينما عرضت عليه، ولم يدرك إلا لاحقا، ومن خلال الممارسة، أن الدين يحتاج أولا إلى دولة، وذلك حتى يقوم بدوره الأساس في تعقيلها وترشيدها... حدث ذلك مباشرة بعد انتقال الدعوة من "أنذر عشيرتك الأقربين" إلى "إقرأ" (=إصدع، أعلن.. لا أتل، كما وقع تأويل اللفظ من قبل المفسرين).

ليست الوثنيات هي من ناهض الدعوة الجديدة، بل ما تعكسه وتعبر عنه من أنظمة قبلية فوضوية (=الجاهلية)، عندئذ فقط طفقت الدعوة تلتبس وتتوسل بالسياسة.

كانت يثرب الأكثر تضررا من الفوضى، وفي نفس الوقت فلقد كانت الأكثر تأهيلا لتأسيس سلطة سياسية، وكانت لذلك في حاجة إلى طرف ثالث حكم، يكون ضعيف العصبية، غير أنه إيجابي لا سلبي في موضوع السلطة، نقيض حالة العشائر اليهودية المستوطنة في المدينة. والتي كانت مؤهلة، غير أن مصلحتها المباشرة كانت متناقضة مع دور التحكيم ثم الحكم، وهو الأمر الذي قام به المهاجرون..  

بالهجرة أولا، وما فرضته على المدينة من تناقضات وصراعات، أفضت بها إلى تشكيل نواة الدولة (=جيش) فضلا عن التحكيم (القضاء النبوي) ومن تم فرض التحاق مكة بها، توحد نمطا الفلاحة والتجارة واستقويا ببعضهما، ثم فرضا بعد الفتح، النظام على الرعي والقبائل الرعوية، وانطلق تصدير الفائض البشري خارج شبه الجزيرة في شكل فتوح للبلدان تحمل رسالة جديدة وبديلة عن الوثنية القبلية (=الجاهلية) وعن انهيار دولتي النظام العبودي في فارس والروم، واللذين سهلا المهمة بفعل حربهما الانتحارية لبعضهما البعض (رصد القرآن كل ذلك..).

لم يساهم الدين هنا في إقامة دولة وحسب، بل وفي استبدال نظام عالمي عبودي وقبلي... ووثني بآخر جديد أفضل وأكثر عدلا وإنسانية وتقدما، خاصة بالنسبة للمرأة والعبيد والأقنان والشباب...إلخ

هذه الازدواجية الوظيفية للدين ولمؤسساته، لم تكن اختيارا إذن، بل اضطرارا، ولذلك سيستمر التميز والتمييز بينهما منذ المنطلق، إلى أن انفصلا أو استقلا لاحقا، مظاهر ذلك كانت متعددة.

1-الفرق في الدعوة وفي نصوصها القرآنية، بين المرحلتين المكية والمدنية.

2-التفريق بين الإيمان (الدين) والإسلام (الدولة) الذي يعني الخضوع للقانون والنظام والإدارة والإقلاع عن مصادر الفوضى (=الجاهلية): الربا – الاستعباد– الوأد- الحروب والانعزالية القبلية... إلخ. إن "الإسلام يجب ما قبله" من جاهلية، لا من الدين السابق عليه (=الإبراهيمية – الحنيفية..) والمسلم هو غير المؤمن، بل هو فقط من يقبل وينخرط في نظام الدولة السائد،ولا يخونها متواطئا مع أعدائها (=الردة). أما الإيمان فهو يؤكد ويرسخ ما قبله ولا يجبه ]إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى[.

وهذا أيضا معنى قول عثمان t "إن الله ليزع بالسلطان (الإسلام) ما لا يزع بالقرآن (الإيمان)".

3-إصرار النبي r وخلفاؤه في الصدر، على رفض التمظهر بأي مظهر بروتوكولي يوحي بالسلطة وبالتسلط، ما عدا القيادة العسكرية للدفاع عن حق الدعوة في النشر والانتشار والتحكيم القضائي، (... حتى يحكموك في ما شجر بينهم) فضلا عن الإمامة الدينية والإفتاء طبعا.

 7 -لم يكن رفض القبائل أداء ضريبة التضامن (=الزكاة) ولا بالأحرى حركة الخوارج الفوضوية.. سلوكا دينيا، بل فقط توظيفيا رجعيا للدين (=الإيمان) ما أجل ردة عن الدولة (=الإسلام) نحو الجاهلية (=الفوضى القبلية).

 8 -لقد مثلت صراعات وحروب "الفتنة الكبرى"تعبيرا وانعكاسا لاستحالة استمرار وضع التداخل المؤقت والاضطراري أصلا، وكان قيام إدارة الدولة الأموية في الشام وبلاد الفتوح.. جوابا دينيا وسياسيا عن حاجة الحقلين إلى استقلالهما عن بعضهما، والذي لا يعني بالضرورة انفصالهما، بل فقط عدم تبعية أيهما للآخر إلا في حدود.

استمر المسجد، وأئمته وفقهاؤه... وأحباسه... مستقلا عن السلطة السياسية، موازيا لها.. مرشدا وداعما وملاحظا، ولكن غير مناوئ.   

 9 -ليست إدارة الدولة وحدها من قد يحتاج إلى الدين، تأسيسا أو دعما وإرشادا... إن العكس أيضا قد يحدث.

إن كون الدين بقي محتكرا وسلاحا بيد المجتمعات الإسلامية، لم يحمه من انحراف في منطلقاته أو تشويه لمقاصده، إنه ما حدث فعلا على أيدي المعارضات "الشعوبية" (=المهمشون: أقوام وجهات + بقايا النظام القديم عبيدا أو قبائل) أهم ذلك كانت الحركات الشيعية، وبالأخص المتطرفة (الإسماعيلية منها) وحتى الإرهابية (القرامطة – الحشاشون...) تجاوز الضرر المجتمع ليطول إدارات الدول الإسلامية، وعندئذ ستعمد في شخص واحد من أعظم رموزها في التاريخ الوسيط (نظام الملك) مستعينا بواحد من أعظم رموز الدين والتدين في التاريخ (الغزالي) إلى التدخل المباشر والشامل في الشأن الديني،وذلك خاصة عن طريق تأسيس المدرسة "النظامية" أولا، ثم نسلها اللاحق (المرينيين مثلا) بديلا أو موازاة للمسجد الجامع وللجامعة. (هذا استمر معبرا عن المجتمعات، وتلك عن إدارات الدول الإسلامية).

هذا النمط من تدخل السياسة (الدولة) في الدين، هو مثل سابقه المعاكس، كان لصالحهما معا، رغم طابع الاستتباع في الحالتين.

 10-ثمة نمط آخر للعلاقة مختلف، وذلك لاختلاف شروطه التاريخية، إنه نمط التدين الصوفي، خاصة منه المؤسس في شكل زوايا وتكايا... لم يكن رغم استقلالياته، مناوئا للإدارة المركزية، بل فقط نائبا عنها في الثغور ومعوضا لها في الهوامش، وقد يصبح بديلا لها وخليفة، عندما تضعف أو تنهار (=احتياط تاكتيكي و/أو استراتيجي).

الأمثلة معروفة، خاصة مغاربيا، ولعل ألطفها حالة أبو العباس السبتي، فهو حيث السلطة قائمة في مدينة مراكش العاصمة، يصعد جبل جيليز معتكفا ورافضا تزكيتها أو التعامل معها، ولكن دون أن يناوئها.

ولكنه حالما تنتقل الإدارة للدفاع عن الحدود، خارج الحدود (في الأندلس) وتصبح المدينة مجردة وعزلاء من إدارتها (جيش – شرطة- سجون..) ومعرضة من ثم للفوضى والفتنة... ينزل من معتكفه في الجبل، ويعوضها، بغرض سيادة النظام، عن طريق الإقناع الديني، وذلك بجمع الصدقات من أغنيائها (ولا يدعو لهم إلا بذلك الشرط) وتوزيعه على ضعفائها ومعدميها، وفي المقدمة منهم الأكثر احتياجا: النساء والمعاقين، قاعدته أو حكمته الصوفية السائرة أن "الوجود ينفعل بالجود" لا بالوعظ(؟!)   

حالما تعود إدارة الدولة إلى مركزها، ومن تم يعود النظام بأدواته السياسية التقليدية.. يعود السبتي مجددا إلى معتكفه.. استقلال دون انفصال ودون صراع معلن.

 11-وفي صيغة أخرى، عواقبها ما تزال مستمرة، يمكن الحديث عن "دين وظيفي" يرتبط بظاهرة "الجماعات الوظيفية" في العصور الوسطى وحتى اليوم، خاصة منها الإسلامية.

إن أكثر "الطوائف" الدينية المستمرة اليوم وجودا، هي استمرار وإعادة إنتاج وتوظيف عن ذلك التاريخ الذي ارتأت فيه الدولة الإمبراطورية وطبقاتها السائدة، عزل بعض الجماعات "الدينية" أو غيرها، عن الجماعة الأهلية أو "الملية" السائدة، وعدم إدماجها، ومن ثم استفادتها مما تستفيد منه الأغلبية من حقوق، وذلك بعزلها مكانا ووضعا اجتماعيا ودينيا في تصنيف "الذميين" ومن تم توظيفها في أداء وظائف تحتاج إليها الجماعة، غير أنها تثلم ضميرها الديني وميثاق اجتماعها الأهلي، وذلك مثل: الربا – القمار – إنتاج وتوزيع الخمر – الاستخبار – العهارة – الغناء والرقص...إلخ.

لم يكن الأمر إذن يتصل بتسامح أو حتى تعايش، بل فقط أو أساسا بتوظيف للطائفة، بالتالي لدينها وتدينها، وذلك بتواطؤ مع نخبتها (=الطائفة) النافذة، خاصة منها الدينية: رموزا ومؤسسات.

لقد كان للاندماج في دين ودولة الجماعة، معنى المواطنة اليوم. غير أن جمهور الطوائف هم من كان يعاني من التهميش. أما التجار ورجال الدين... فيهم، فلقد كانوا يستفيدون تقريبا من نفس امتيازات الفئات السائدة في المجتمع وإدارة الدولة، هو نوع إذن من توزيع الأدوار والوظائف داخل نفس الطبقة السائدة والحاكمة، وهي الحالة التي ما تزال مستمرة حتى يومه، خاصة في أوساط اليهود أو المسيحيين في المشرق (لبنان) أو الغجر...

 12-مع النهضة وبقيادة البورجوازية الأوربية، وبوادر استقلال "السياسة" منطقا وممارسة (ميكيافيل) عن منطق الدين ومؤسساته... ثم موجة الإصلاح الديني (كالفن- لوثر..) وانتصار العلمانية النهائي مع الثورات الأوربية والأمريكية. سيدخل العالم في تاريخ جديد تماما للعلاقة إياها بين الشأنين الديني والسياسي.

لقد كانت الطبقة الوسطى الجديدة، في حاجة من أجل التمهيد لسيادتها، إلى تجريد إدارة الدولة الإقطاعية من أسلحة الدين ومؤسساته. كما كانت جامعاتها.. في حاجة إلى التحرر من توظيفه (=الدين) الايديولوجي السابق، ضدا على العلم وعلى العقل وعلى الوجدان والأخلاق والعلاقات العامة.. ونجحت عموما في ذلك، خاصة مع فرنسا الثورة، وتأرجحت خارجها درجات الاستقلال والتوظيف حسب المجتمعات والدول.

غير أنه لاحقا، اتضح أن الأمر لا يتصل بفصل حقيقي لمنطق الدين، وإنما فقط باستبداله بمقدس جديد ومقاييس أخرى للحلال وللحرام وللمباح والمكروه...إلخ، لقد استعيض عن الكنيسة بالمصرف وعن الراهب بالمرابي وعن القضاء والقدر بالسوق ويدها الخفية وعن الله المجرد بفتيش جديد (الجنيه والفرنك والدولار...) إنه الدين الجديد للرأسمالية الحديثة والمعاصرة، وهو ما يحكم مجتمعاتها وإدارات دولها. لا الإنسان ولا الديمقراطية بالأحرى، وهو ما تعاني منه الإنسانية المعاصرة، خاصة في شعوب ودول الجنوب المستعمرة والمستضعفة.

13-أما اليهودية ومن تم اليهود، فلقد تأخر إصلاحها (=تحديثها) إلى حين بلوغ الرأسمالية مرحلة الاستعمار، فتحقق لها ذلك من خلاله وبواسطته، لقد عانت من إدارات الدول دائما: قديما ووسيطا وفي العصر الحديث... ولذلك كانت أبدا تعاديها (=الدولة) وتميل لذلك إلى دعم الفوضى حيثما أتيح لها ذلك. فإذا بها تتصالح معها، بل وتوظفها (السياسة) في خدمة إعادة إنتاجها الحديثة (=الحداثية) هكذا ولدت الصهيونية، كحل وهمي وفاسد، لـ"لمسألة اليهودية" وفي حظن الكنيسة والدولة الرأسمالية أولا (نابليون) وذلك قبل أن تفرضها هذه، على النخبة اليهودية (معتقدة أو علمانية) وأسست لها كيانا سياسيا وظيفيا. وذلك في صيغة ملاح (كيتو) كبير وعولمي، استعماري (إسرائيل) لا محلي أو وطني، كما كان عليه الأمر سابقا.

هذا النمط من العلاقة، بالغ السوء على الطرفين جميعا، الدين والسياسة معا، وعلى الإنسانية جمعاء.     

 14-إجمالا، فإننا إذا اعتبرنا أن الوضع الأمثل والأفيد للعلاقة بين الدين والسياسة (=الدولة) هو استقلالهما عن بعضهما، وذلك بما يسمح لهما معا بالتوازن والتفاعل إيجابا.. ما يعني توفير سلاح للمجتمع (الدين) يكافئ به أسلحة الإدارة المتعددة، والتي قد تصبح عاضة وطاغية.. إذا لم تجد من مجتمعاتها ما به تستطيع الحماية والمقاومة والإصلاح (الدين)، خلال ذلك، نكون أمام ثلاثة أوضاع محتملة للعلاقة.

أ-تعايش وتساكن في الحد الأدنى بين الطرفين، لما فيه مصلحتهما معا وجميعا.

ب-تطابق، وحتى استتباع، وذلك عندما تكون إدارة الدولة متطابقة الأهداف والمقاصد مع الإرادة الشعبية العامة. (أمثلتها كثيرة جدا من الراشدين إلى المرابطين... إلى الأيوبي إلى الخطابي ومحمد 5... كأمثلة). 

ت-تنافر وصراع، عندما يكون العكس، فيعمد المجتمع عندئذ إلى التوظيف السياسي للدين في سياق صراعه مع إدارة دولته. وقد يحصل العكس، عندما يحدث الانحراف عن الدين (=الفطرة) في المجتمع نفسه، فتبادر إدارة الدولة للتدخل من أجل إصلاحه، وربما تكون هذه الحالة، هي ما سيسود الوضع الراهن عربيا.

 15-هكذا إذن يتضح، أن الأمر لا يتصل "بالسياسة" بل بسياسات، في التاريخ وفي الواقع. كما لا يتصل بـ"الدين" بل بتأويلات وتوظيفات للدين ولمؤسساته... وأيضا ومن تم، فهو لا يتصل بـ"علاقة" بل بعلاقات تتعدد وتتنوع وتتعقد.. بحسب الشروط في المكان وفي الزمن وفي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلد المعني بالتحليل. 
أو كما قلنا أولا: بين التساكن والتوازي والتفاعل والتمفصل والتكامل والتطابق والصراع...إلخ.

 16-هنالك أيضا غموض والتباس تاريخيين حول مفهوم ومصطلح "العلمانية، التي تعني وتقرر صيغة الانفصال والاستقلال بين الحقلين أو المجالين، ذلك أن انفصال أي من الطرفين عن الآخر، ليس من نفس الطبيعة ولا العواقب، لأن تدخل الدين في إدارة الدولة، لا يعني نفس المعنى ولا يتضمن "ذات النتائج في حال العكس، أي تدخل إدارة الدولة في الشأن الديني.

في الأصل الأوربي الحديث للمسألة، لم تكن إدارة الدولة هي التي طرحت وطالبت بذلك، بل العكس، إن المجتمع بقيادة طبقته الوسطى الناهضة والثائرة عصرئذ، هو من بادر إلى العمل على تحييد الدين في الصراع وتجريد إدارة الدولة الإقطاعية من أسلحته، واستجاب لذلك الشعار.. بعض رموزه الكنيسة (البروتستانت لاحقا) لا دفاعا في الأصل عن المجتمع وقيادته الجديدة، بل فقط وأساسا حماية للدين وحفظا لقيمه... التي وقع امتهانها وتوظيفها المنحرف من قبل الإدارتين الكنسية والدولتية (صكوك الغفران مثلا). لقد تقاطعت المصلحتان في هدف واحد مصلحة الطبقة الوسطى الناهضة، ومصلحة الرهبان "المحافظين" على التقوى..

لاحقا، سيتجه الأمر في اتجاه فصل الدولة عن الدين وإبعادها عنه لا العكس، وهو تصرف وسلوك يخالف الأول في معناه وفي عواقبه.

إن الصيغة المثلى اليوم، هي العودة إلى الأصل، أي تحرير الدين عن إدارة الدولة، لا العكس، إذ من حق المجتمع، وذلك من خلال رموزه ومؤسساته الدينية، أن يتدخل كضمير في الشأن السياسي لإدارة الدولة، ولكن بوسائله: الرأي والحوار والإقناع والاجتهاد... لا بوسائل سياسية بالطبع، ومن حقه على الدولة أيضا دعمه في الحدود الدنيا اللوجستية. أما العكس، فهو غير المقبول مطلقا، ذلك لأن للدولة جيوشا وشرطة وقضاء وسجونا... تكفيها وزيادة.. فإذا هي تدخلت في الشأن الديني، فإنها لن تتدخل إلا بتلك الوسائل ولخدمة نفس الأهداف المتلائمة معها، والتي قد لا تكون جملة أو تفصيلا متطابقة مع المقاصد الدينية. 

إن المنفصل يمكن وصله، والانفصال لذلك لا يعني الانعزال وعدم الاتصال مطلقا، المطروح إذن هو نقاش وتقرير نوع الانفصال ودرجة الاستقلال وحدودهما... وذلك في كل حين وشرط، في إطار ومن خلال ميثاق اجتماعي-ثقافي توافقي وطني...     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *