انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

الخلعاء: جدد وقدماء

د.ع. الصمد بلكبير 

لا تستمد مكونات البنيات دلالاتها من ذاتها، وذلك ببساطة لأنه لا ذاة لها، بل فقط أو أساسا، تأخذها من موقعها وعلاقاتها ووظائفها... في البنية، وهذه الأخيرة طبعا مشروطة بتاريخها (=تاريخيتها).

عندما عمدت رأسماليات أوربا القرن 19 إلى نهج التوسع الاستعماري، سبيلا إلى تصريف أزماتها، كان عليها أن تتعرف أولا على البناء الذي ستقتحمه (=تغزوه) لأجل السيطرة عليه واستغلاله وتصدير أزماته إليه. 

لعل هذا هو ما نبه فوكو أولا، ثم إدوارد سعيد لاحقا، إلى أن "المعرفة سلطة"، أو على الأقل، فهي تشترطها وتمهد لها، سيعمد المستشرق لأجل تحقيق ذلك، إلى التقدم أولا طلائع لاستكشاف الموضوع، والتحكم فيه "علما" قبل ومن أجل التحاق الضابط العسكري والتاجر الرأسمالي،للتحكم فيه واقعا (=الاستعمار) الهيمنة (الثقافية..) تمهيدا للسيطرة (السياسية والعسكرية...).

ترى ما السبيل إلى ذلك، والمستشرق بين بنيتين شبه مغلقتيـن عـلى بعضهما، ولا سبيل لإحداهما إلى فهم واستيعاب الأخرى سوى باختراقها، ودون ذلك معيقات معرفية واجتماعية وثقافية ودينية... لا حصر لها؟ 

هنا يأتي الحل من الخليع وبواسطته.

لكن من الخليع؟ 

البنيات الاجتماعية التقليدية (قبلية، عشائرية، عائلية، طائفية...)، وحتى اليوم حيث هي متمكنة، لا تقبل بداخلها مفسدا لنظامها، سيكون عنصر تشويش وبلبلة وتخريب، وذلك صنيع الجسم الذي يعمد إلى التقيؤ أو التقيح.. لطرد جسم غريب وضار.. ويظل يتألم، حتى ينجز ذلك أو يموت، القبيلة قد تقبل المجنون والأحمق... بل وتحتضنهما، ولكنها أبدا تلفظ المشوش على أنظمة قيمها ومقاييس تصنيفها للمفيد والضار، للطيب والخبيث، للجيد والرديء، للحلال والحرام، للجميل والقبيح...إلخ.

من ذلك مثلا:الكذب، النميمة، السرقة، زنى المحارم، السكر والمخدرات... إلخ. مقترفو ذلك، تخلعهم... وتطردهم بعيدا حماية لكياناتها مـن التفكـك والانحلال... قد يتوبون بواسطة شيخ زاوية، أو بالانتماء إلى قبيلة أخـرى يندمجون فيها، أو توظفهم جماعة وظيفية مختصة (الغجر، اليهود، الطرق...) تستخدمها الجماعة الأهلية أو الوطنية لأداء وظائف تحتاج إليها، غير أنها تحرج ضميرها وقيمها (الربا، القمار، العهارة، التجسس، المخدرات...إلخ).

هؤلاء الخلعاء، هم من التقطهم الاستشراق لـ"معرفة" موضوعه والذي هو نحن: مجتمعا وثقافة ودولة...إلخ، وتحولت بذلك دلالتهم، لتحول وظيفتهم، إلى مخبرين للمستشرق بشتى تخصصاته..

تبين لاحقا أن: 

1-المسؤول ليس بأعلم من السائل، وأن الخليع لو كان يعرف مجتمعه حقا، ما كان ليخرج منه طريدا مخلوعا ومنبوذا.

2-أن "موضوع" المستشرق لم يكن في حقيقته سوى ذاته نفسها (ثقافته وقيمه..)، مرآة يتملى فيها رغباته وأهوائه ومطامعه، يؤكد أنانيته ويسوغ نرجسيته وتسلطه..

3-أن كل تقريراته عنا لم تكن سوى أوهام "علمية" (مفهوم الزمن الدائري أو الأسطوري أو حتى الرجعي/ التقليدانية / القدرية / الوثنية وعبادة الموتى / الانقسامية والفوضوية (السيبة) / سيادة الخرافة والسحر /...إلخ، إذ سرعان ما ظهر وعي وطني مقاوم وحركات سياسية وثقافية حديثة وعقلانية.. انطلاقا من الخطابي والحركة الوطنية ثم المقاومة وجيش التحرير... ثم الانتصار الأول والاستقلال الأول... على الرأسمالية الاستعمارية الأوربية.

ذلكم كان مصير الخليع أو المخبر "الثقافي" في طبعته الأولى، أي خلال مرحلة الاستعمار التقليدي أو القديم، فما هي أحواله وما هو مصيره فـي بقيـة طبعاته اللاحقة، أي خلال الاستعمار الجديد الذي يهيمن ويسيطر على أوضاعنا المعاصرة وأحوالنا الراهنة؟ 

الخليع الجديد، أو المخبر الثقافي العربي المعاصر، هو موضوع هذا الكتاب جليل القيمة العلمية والفائدة السياسية، والذي وددت لو يقرأه جميع من يفكون رموز الكتابة في وطننا العزيز والبئيس بفعل الاستعمار والتبعية، وبفعل المستفيدين منها في الإدارة والاقتصاد، ولكن أيضا بفعل جبن أو انتهازية أو حتى عدم معرفة الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم "مثقفين" وما هم كذلك لأن الثقافة فعل إصلاح وتغيير لا محض معارف ومعلومات توظف لغير ذلك، أو حتى لنقيضه...

2012

Share this content:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: