انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

الأحزاب وازدواجية السلطة في الإدارة

(كل من يُشخّص المعضلات، فهو موضوعيا يطرح شخصه بديلا)

بمناسبة ما يتم الترويج له مؤخرا من تشهير بالحزب "الوافد" وبعض رموزه، بل والمطالبة بحله أو انحلاله، وما ارتبط بذلك مؤخرا من حديث مطلبي بإعفاء عمال وولاة معينون (؟!) محسوبون عليه، علي الأقل انتخابيا، يطيب لي التدخل مستفيدا من المناسبة، ملاحظا ومحللا ومعلقا.

1ـ مند الوهلة الأولي لـ"الطرح" خلال الوقفات والمسيرات الشبابية، تساءلت كغيري، أولا عن دواعي التشخيص، وإذا كان ولابد منه، فلم لا يشهر أيضا وبالأحرى بالأحزاب الإدارية العريقة، والتي أجرمت بما لا يقاس، وفي حق جميع القضايا، وليس قضية الديمقراطية فحسب بل وأين رموز السلطة، أين مجرمي الإدارة ورموز الإرهاب فيها (قتلة المهدي وعمر مثلا...) بل وأين مصاصو الدماء المستفيدون من كل المآسي...، أقصد الرأسمال البنكي الخاص...الخ.

2ـ ثمة قاعدة منطقية وأخلاقية أكيدة، تقضي أن كل من يشخص فهو موضوعيا يطرح نفسه بديلا، وإلا فمن المسؤول عن الاستغلال وعن الفساد وعن الاستبداد... هل هم الأشخاص أو حتى الهيئات؟ أم النظام، أعني البنيات، إن دلالات ومعاني وعواقب الأفراد وحتى المؤسسات والهيئات، تكتسبها من مواقعها وبالتالي علاقاتها ووظائفها في النظام لا العكس.

إن جذور التفسير التآمري للتاريخ، هو التفسير السيكولوجي (الأخلاقي أو الديني) له، ليس سوء التربية أو انحراف العقلية أو... هو المسؤول عن الاستغلال والذي هو جذر كل فساد. بل العكس، النظام الاستغلالي الرأسمالي هو الذي يصنع المفاسد الأخلاقية، ومن تم المتصفين بها من رموز وهيئات الفساد.

3ـ إن ذلك الوهم أو الوعي الفاسد، هو الذي "يبرر" بالنسبة لبعض الطيبين من "المثقفين"، إنهم يمكنهم إصلاح الإدارة، أو حتى النظام ككل وذلك عن طريق التسلل إليه و"إقناعه" وذلك بظن أن توفر حسن النية والإرادة والأفكار السديدة... كفيل بتحقيق مقاصدهم "وعاظ السلاطين" هؤلاء، ينتهون غالبا إلى الاندماج، أو إلى التسويغ والتبرير، أو التهميش واليأس....

لا يعني ذلك بحال الدعوة إلى مغادرة الطيبين في الإدارة لمواقعهم، بل العكس تماما، ولكنه يعني فقط الدعوة إلى عدم الوهم، وبالأحرى الاعتقاد بأن الإصلاح يمكن أن ينتج بذلك أو بمثله، البنيات أكبر من الأفراد والأنظمة أقوى من الأشخاص.

تهريب (ابن علي) مثلا ومحاكمة (مبارك) هما إصلاح قد يكونا بمثابة ثورة، ولكنها بداية وحسب، وإلا فالنظامان الرأسماليان التابعان في القطرين... مازالا مستمرين... والردة لذلك مازالت محتملة...

4ـ ضمنيا فان خطابات مثل تلك، تحتوي على محتوى ميتافيزيقي، بالتالي مضلل سياسيا، ذلك بتصور أن إدارة الدولة منسجمة متجانسة لا يأتيها التناقض من بين يديها أو من خلفها، وهذا قمة الفساد في التفكير، وبالتالي في التدبير، ثمة تناقضات في إدارة الدولة قد تحتد وتشتد بحيث تتجاوز تناقضاتها مع مجتمعها نفسه. وأمثلة الانقلابات التي انفجرت أو التي فشلت في المهد، اكبر حجة ودليل.

وإذن فإنك عندما تشخص معضلاتها في أشخاص، أو هيئات محددة بالذات، فإنك موضوعيا وبغض النظر عن نواياك، تكون قد اشتغلت عمليا لصالح طرف آخر في السلطة الحاكمة، وهذا بالضبط ما وقع ويقع للكثيرين في المغرب وليس وحسب للحركة الشبيبية، الفرق فقط، هو أن بعضهم واع لما يقوم به، بينما الكثيرون غافلون أو مستغفلون (؟!) 

5ـ حسب معرفتي، فإن الاستعمال السياسي لمصطلح "المخزن" وتكراره وإشاعته، كان من ابتكار المرحوم عمر بن جلون، وكان القصد منه التشهير أكثر منه مفهوما يطابق موضوعا. وإلا فهو شديد الغموض وحتى الميوعة. بحيث لا يدل على شيء محدد ومضبوط، وهذا أمر يتناقض مع ما كان يدعو ويلح عليه الشهيد نفسه من الوضوح في العمل السياسي كشرط لنجاعته. 

ومع ذلك، وتيسيرا للحوار والتفاهم سنأخذ المصطلح بمعناه التاريخي، أي ما يختصر النظام السياسي الإقطاعي ـ القبلي، الذي كان سائدا، وجاء الرأسمال الاستعماري الذي لم يلغه (عكس ما حدث في الجزائر مثلا) ولكنه همشه وأعاد إنتاجه وتوظيفه في بنية جديدة كان عمودها الفقري إدارة عصرية شاملة للحكم والسيادة وفي النواة منها (الإقامة العامة) كحزب سياسي استعماري مندمج ومسيطر على الإدارة، تحت أسماء متعددة أهمها "الشؤون السياسية أو العامة". 

هذا الجهاز كانت له ايديولوجية، وكانت له استراتيجية سياسية، وكانت له هيكلة هرمية تراتبية ذات محتوى قيمي وثقافي فرنكوفوني وتمكن أكثر من ذلك، من توظيف البنيات "التقليدية" الموروثة والقائمة لخدمة أهدافه التحديثية الرأسمالية الاستعمارية، أقصد القياد والشيوخ والمقدمين وأمناء الحرف والأعيان ومشايخ الطرق...الخ وبذلك حرم المخزن من وسائط اشتغاله، بدون سلطة عملية، إلا ما كان من بعض رمزياتها الصورية والتافهة المحتوي...

كانت البرجوازية التجارية المحلية قد وجدت مصلحتها في التحالف مع "الوافد الجديد" (الاستعمار) ومن تم تحالفت معه ضدا على العسف والمصادرة الإقطاعيين (مركزيا وجهويا) غير أن لواحق الاحتلال ونموها في ظله، أقنعتها بحاجتها إلى الاستقلال عنه، فكانت الحركة الوطنية وكان تحالفها مع المخزن المركزي (القصر) المتضرر أصلا من "الحماية" وكانت الرعاية الأمريكية المتناقضة مع الاستعمار القديم (الفرنسي) والمؤسسة للاستعمار الجديد وذلك انطلاقا من لقاء أنفا(1943).

كان هدف المخزن، وربما ما يزال اقتسام السلطة أو السلطات، مع الاقتصاد والإدارة الفرنسية، لا التحرير الشامل، وأحرى الاستقلال بالسيادة والحكم، خاصة والتناقض المستجد، بمناسبة محادثات اكس لبيان مع البرجوازية المحلية (الفاسية غالبا) فرض عليه التنافس على التحالف مع الميتروبول، علي حساب بعضه البعض، ولكن أساسا على حساب الشعب (المقاومة وجيش التحرير). 

انقسمت البرجوازية المغربية على نفسها، والتحقت العقارية منها بالمخزن، في تحالفه الجديد مع الاستعمار الفرنسي، وحزبه الذي سيصبح سريا يوما عن يوم (وزارة الداخلية) واختل بذلك التوازن لمصلحتهم جميعا وعلى حساب الشعب وتنظيماته الجنينية التي فوجئت واخترقت، فارتبكت وتفككت وتصارعت.. وانهزمت (خاصة جيش التحرير في الصحراء) إلى حين...

لقد كان استقلال (1956) بمثابة إعادة إنتاج محسنة لحماية (1912).       

هذا هو أصل الازدواجيات القاتلة التي نعاني منها على جميع المستويات منذ الاستقلال وحتى اليوم، في الاقتصاد والمجتمع والإدارة والثقافة.... بين الأصالة "المخزنية" والمعاصرة "الاستعمارية" ولكن الفرنسية بالذات. وكل المنافسات والمناكفات والحساسيات والتناقضات والصراعات... وحتى الانقلابات.... هي الوليد الحتمي لتلك الازدواجية الاستعمارية-الاستبدادية.

وهي كأي ازدواجية في السلطة يستحيل استمرارها، ومصيرها حتما إلى حسم، وقد يتم ذلك بمساعدة عامل أو عوامل خارجية (الموقف الجزائري والتدخل الأمريكي مثلا) غير أننا في سبيل بلوغ ذلك سنمر بمراحل من التململ والزحزحة وتغيير التوازنات والتدرج في نضج التناقضات وذلك قبل الحسم، وليس ما يحدث اليوم سياسيا وإداريا بالبعيد عن جميع ذلك (؟!).

ليس القانون الرئيس لإدارة الدولة في المغرب هو وحدتها، بل صراعها الداخلي، المتفاعل طبعا مع جدلية علاقاتها الخارجية وصراعاتها مع مجتمعها (التصعيد الأخير  في مدينة  فاس مثال فاقع).

6ـ حاولت أمريكا استغلال ذلك التناقض، ولم تجد منفذا في الماضي غير الجيش تستعمله لا لمناهضة المخزن، وإنما فقط للضغط عليه، وقرائن ذلك في الانقلابين أكثر من أن يخطئها النظر الحصيف (استثمار سذاجة المدبوح في الأولى والقذائف الفاسدة في الثانية) استثمرت ما لحق الجيش من تهميش لمصلحة الأمن (الداخلية، حزب فرنسا) فحرضته على مناهضة "الفساد" الذي لم يكن يعني بالنسبة لها سوى الاحتكار الفرنسي للسوق والإدارة المغربية وعرقلة دخولها الاستخباري خاصة (مسألة فندق الخطوط الأمريكية في الدارالبيضاء وعرقلة الترخيص له، عن طريق "مسرحية" الرشوة وكأن المسألة "أخلاقية" فردية لا سياسيةـ دولية (فرنسا) وهل ثمة أوكار للمخابرات أفضل من إنشاء فنادق حيث "كل الصيد في جوف الفراء").

أمريكا اليوم تشتغل باستراتيجية نشر "الفوضى العارمة" مشجعة في ذلك، أو مستعملة، أو حتى متحالفة مع ما يوصف اليوم، زورا وبهتانا بـ"المجتمع المدني" وما هو في جزء عظيم منه، سوى "أمريكي" أقصد الكثير من مراكز البحث والجمعيات الحقوقية والنسائية وخاصة "الصحافة" الخاصة وبعض رموز الحركات الإسلامية (جهلا منهم أو انتهازية) وعموم ما يسمى بـ"الحقل الديني" حيث "الفوضى" خلاقة جدا ولكن تحت لافتة توحيد المذهب والعقيدة والطريقة (؟!) وهم في شتات وتيه اليهود واليهودية....(؟!)

7ـ يتأكد اليوم أكثر، أن ما كان "التعددية" السياسية وحتى "حرية" الصحافة، لم يكونا في جانب منهما، سوى انعكاس للتعددية داخل الإدارة نفسها، وذلك بجميع مستوياتها وأطرافها ومصالحها، وكان ذلك في جزء منه سر استمرار "المخزن"، وذلك لحاجة الأطراف المتنافسة وحتى المتصارعة... إلى دوره التحكمي التوازني، وحالما يخطئ في تدبير التوازن، أو عدم تعديله حسب تطورات توازن القوى، فإن الطرف المتضرر سرعان ما يحدث، أو يساهم في إحداث الاضطراب: اقتصاديا، اجتماعيا، إداريا وحتى سياسيا والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى وآخرها إحداث مخيم الصحراء....

8ـ لاشك أن الطرف الأقوى، والذي استمر كذلك وحتى الآن، هو الأمن، وخاصة منه مخابرات الإدارة الترابية وتحالفها الاستراتيجي وربما المصيري أيضا مع الحزب الفرنكوفوني (فرنسا) ومؤسساته الاقتصادية. (الصناعية، التجارية، والمالية: 850 مؤسسة). فهو صانع أو مخترق الأحزاب والنقابات والجمعيات ومزور الانتخابات. والعين والأذن على كل المؤسسات والهيئات بل والأسر والأفراد... مهمته كما ورثها عن الاستعمار القديم، هي منع المجتمع المدني من التشكل، وتعطيل حركته عن المعارضة، واستفزازه للانفعال واقتراف العنف... فذلك ما يجد فيه مبرر وجوده، وإذا اقتضى الحال اصطنعه (؟!) 

هذا الجهاز ـ الحزب دفع بالحركات التي احتمت بالسرية للدفاع عن وجودها، إلى العلنية ودخل هو في السرية، كما اكتشف وصرح بذلك المناضل محمد اليازغي يوما، بل إنه سيقتبس منها بعض طرق عملها وخاصة منها تلك الحالات الشبيهة والتي نجحت في السيطرة على الدولة في شرق أوربا والمشرق العربي، فأضحى بذلك قوة اقتصادية أيضا.... وليس وحسب بيروقراطية استخبارية، مستفيدا من الخوصصة والريع والتسهيلات الإدارية بما فيها الضريبية.

9ـ جديد محمد السادس، بعد يأس أبيه ومرضه، مع أنه الذي بدا، هو إعلانه في 2003 عن "المفهوم الجديد للسلطة" بما يعني إعلان المواجهة، وربما الحرب أيضا، ضدا على مؤسسات ورموز "المفهوم القديم للسلطة" أولئك الذين أفشلوا تحالف مرحلة الانتقال التوافقي، ولخبطوا كل الانتخابات اللاحقة والمؤسسات التي انبثقت عنها... والأخطر من جميع ذلك، استمروا في إنتاج وإعادة إنتاج المجتمعات الحاضنة للتطرف والإرهاب، أقصد أحياء البؤس الصفيحي المطوقة للمدن (أكثر من 200 في مراكش مثلا) فهذه هي قواعدهم الاجتماعية وأسواقهم وحقولهم حيث خادمات المنازل وتجار المخدرات والعاهرات والمخبرون.... ولكن أيضا "مناضلو" الأحزاب الإدارية.. الأمن العولمي، سينبه السلطات العليا إلى أخطار جدلية اللعبة. فقد أصبحت هذه المجتمعات منتجة لنقيضها (؟!). وهو نقيض أضحى يكافئ العصابات التي كانت تشرف على أمنها، وعلى منع اليسار من دخولها، ذلك لأنه في تكوين كل أسرة ستجد "السكير" يساكن أخاه "السلفى" في نفس المنزل، فلم يعد الصراع ممكنا، بل التعايش، وهو حتما سينتهي إلى تحالف يقوده المتدين، كما حدث ويحدث ذلك في غير ما مجتمع (سوريا وليبيا اليوم).

10ـ مطلب "الإصلاح" إذن أضحى بالنسبة للنظام، مسألة حيوية والحال أن مصالح رموز السلطة الموروثة عن مرحلة الأب، لا تسمح لهم بالمسايرة ولا بالانسحاب طبعا، إما إقالتهم جملة، فهو متعذر، فضلا على أنه مضر، السبيل إذن هو: إقالة المتطرفين منهم في الفساد /تغيير مواقع بعضهم / اختراق بنياتهم (ظاهرة العمال التكنوقراطي) /إقناع بعضهم/تقليم أظافرهم (قانون السير مثلا)/ تحجيم مجالات نفوذهم / إبعاد بعض القطاعات عن نفوذهم تدريجيا (العدل التعليم السكن الصحة...) / اختراق أحزابهم وصحفهم وسرقة زبنائهم (مسألة النواب والمستشارين الرحل) / وفتح ملفات متابعة لبعضهم بقصد التهديد.../ والأهم من جميع ذلك.

11ـ تأسيس أداة حزبية للوقوف على هذه الاستراتيجية. ذلك لأن الأحزاب الوطنية "التقليدية" فقدت شعبيتها بحكم المسؤولية الحكومية، واليسارية لم تتخلص من شتاتها ومن شعبويتها، والإسلاميون على الأبواب لاقتحام المجال أن شرعا وبواسطة الانتخابات، أو زحفا، قد يكون مدعوما من الراعي الأمريكي (الرؤيا التي وقع سوء تفاهم حول موعدها).

12ـ إن الجديد (الديمقراطية في هذه الحالة) لا يأتي في المجتمع وفي التاريخ بنفسه دائما، أحيانا يأتي حلا ثالثا بعد تصارع قديمين وتناحرهما، فقد يلغي، أو يساهم، الشر في إلغاء الشر و"لا يفل الحديد إلا الحديد" والمثال في الانتخابات الجماعة الأخيرة بمدينة مراكش، فاقع في هذا الصدد، لقد اخترقت وأفسدت الإدارة جميع فروع الأحزاب الديمقراطية فيها، والذي امتنع على ذلك، حاربته وحلته (منظمة العمل) وتغولت مافيا انتخابية إدارية يمينية لا أجرم ولا أبشع منها إلا بفاس اليوم. فكيف كان يمكن تصور اقتلاعها في شروط "الإصلاح" لا الثورة طبعا، بغير الوسائل المخزنية التي استعملت لذلك (؟!).

حلول وأجوبة الديمقراطيين طبعا هي غير ذلك، ولكن رب ضارة (لهم) نافعة لنا.

13ـ في الدستور "الجديد" على علانه، بعض المؤشرات الإيجابية في هذا الصدد. للأسف فهو حتى الآن، لم يقرأ كوثيقة سياسية وليست وحسب قانونية، "جديده" إعادة صياغة جملة التوازنات التي كانت سائدة أساسا بين:

أ- النفوذين الأوربي (الفرنسية) والأمريكي لمصلحة الأخير (اللغة/ مسألة الحكامة معادلا لـ"ديمقراطية" الداخلية...). 

ب- بين فئات الطبقة الحاكمة وذلك بتخفيف احتكار بعض أجنحتها وبالأخص العقارية والتكنوقراطية منها... 

ت-بين أجهزة الإدارة، وذلك بتقليص نفوذ الترابية منها(الجهوية وما جاورها).           

أما حول العلاقة مع المجتمع وكادحيه وشبابه، فثمة إنشاء (ديباجة) جميل، متقدم سيحتاج دائما لتنزيله واقعا... إلى صراعات في الميدان: تأويلا وتطبيقا... كما هو حال مثل ذلك في جميع دساتير الأنظمة الرأسمالية. 

14-ليس بدعا في تاريخ الأنظمة الرأسمالية، مساهمة إداراتها في حل معضلات بورجوازياتها، ومن ذلك، دعم أو حتى تأسيس الأحزاب والنقابات... غير أن ذلك كان يتم بشكل مؤقت وانتقالي أو حين الأزمات.

من جانبنا، كان يمكن أن نقرأ سوابق تدخل الإدارة في هذا الشأن، بمثابة "تمكين" لها، وذلك حتى يصبح لها في المجتمع من يمثل مصالحها ورؤيتها... وتتحرر الإدارة بذلك من الانحياز، وتأخذ سبيل الحياد، والذي هو شرط كل ديمقراطية.

رغم تعدد وتراكم ما اصطنعته من أحزاب ونقابات وجمعيات... فإن الإدارة المغربية وبيروقراطيتها، لم تستطع بعد التخلص من "تحزيب" الإدارة، واستمرار تدخلاتها الإيديولوجية والسياسية.. في الانتخابات وفي غيرها.

15-ليس تعدد الأحزاب والنقابات والصحف... الإدارية، تعبيرا فقط عن التراكم و"التجدد"، بل أيضا عن تعدد أطرافها وتعدد مصالحهم، لذلك تجدهم متعاونين متداخلين ومتكاملين.. ولكن أيضا متنافسين بل ومتصارعين ومتسارقين (للنواب وللمستشارين)، ثمة "المخزن" وثمة إدارة التراب الوطني أساسا، ولكن ثمة أطراف أخرى كذلك (؟!)  

16-لا يعني، ولا يجوز أن يفهم بحال من الملاحظات أعلاه، أن السياسة المبدئية والاستراتيجية تمتنع عن التشهير برموز ومؤسسات الشر، بل العكس تماما. فذلك جزء من معارك الإصلاح والديمقراطية والتخليق... المقصود فقط هو التنبيه إلى عدم استبدال منطق وخطاب وإصلاح، أو حتى تغيير، النظام بتغيير أو "إصلاح" الأشخاص، إذ المسؤول عن فساد الأشخاص هو فساد الأنظمة لا العكس. لقد ذهب البصري وبقيت الداخلية، ذلك لأنها هي التي صنعته لا العكس. وإذا أردنا إيقاف إنتاج وإعادة إنتاج أمثاله من رموز الشر. فعلينا أن نلغي شروط ذلك في المؤسسة التي تنتجه أو تسمح بإنتاجه، لقد ذهب ابن علي ومبارك، ونظامهما الرأسمالي التبعي مازال قائما ينتج غيرهما من أمثالهما وإن بأقنعة وإخراج جديدين.

البعد الإعلامي في التشهير بالأشرار وبالمفسدين... لا يجوز بحال أن يكون على حساب التحليل، وبالتالي على حساب الاستراتيجية.

17ـ سأضيف لهذه المأدبة بعض التوابل على سبيل التوضيح.

أـ الانتخابات التشريعية حدث سياسي وطني، ولا يتصور لذلك أن تقع "الوزيعة" على الصعيد المحلي. ولذلك، فهي ليست من اختصاصات الولاة والعمال، بل الشؤون العامة. وأقسامها المحلية هي من يسهر على التنفيذ وليس العمال، مع أن هؤلاء قد يساهمون جزئيا بالاقتراح مثلا.... ومن الأكيد أنهم يستفيدون من ريعها، فالذي استقر عليه الاختيار مركزيا يجب أن يدفع لعدة أطراف (قيادة الحزب الذي ينتمي إليه أو الذي أشير عليه به/ السلطة المحلية/ جماهير "الناخبين" من الفقراء والمساكين والعاملين عليها... والمؤلفة قلوبهم وأبناء السبيل....الخ.

نعم، فان الانتخابات الجماعية والمهنية.. تدخل ضمن اختصاصاتهم (العمال والولاة) وبالتالي وسائل تنفيذ "دفتر تحملاتهم" مع الإدارة المركزية.  

ب- في الماضي كانت المدن التقليدية "المخزنية" والعاصمة والحدودية والغابوية... من اختصاص المخزن، وهو الذي يحتكر لنفسه تعيين ممثليها غالبا (وهذا سر ما كتب عنه نيني فيما يخص مدينة فاس ووكيل الداخلية فيها (النقابي العتيد) وصراعاته مع عمالها بما في ذلك تسليحه لانتفظاضتها) وبقية التراب الوطني توافقات يتم الحسم فيها للداخلية.

ت- الذين يطالبون اليوم بإقالة العمال، المحسوبين حسبهم على الحزب الوافد، هل يعني ذلك منهم أن العمال الآخرين نزهاء وموضوعيين (؟!) ثم ألا يساهمون بذلك الخطاب في التغطية على اليد الخفية التي تنظم اللعبة وتضبط نتائجها. بل وتراقب العمال أنفسهم وتكتب عنهم للمركز تقاريرها، أقصد الشؤون العامة. المطلوب إذن إلغاء هذه الأخيرة، فهي الأخطر انتخابيا من العمال والولاة..

ث- عندما تتداخل، وأحيانا تتطابق شعارات بعضنا مع مصالح الداخلية فان للمواطن البسيط، وأحرى الطرف الآخر في الصراع داخل إدارة الدولة، الحق في التساؤل إذا ما كان هؤلاء ينتظرون من الداخلية وعمالها أن تزور الانتخابات المقبلة لصالحهم بديلا عن "الوافد" الجديد، وإلا فما معنى هذا التمييز بين عمال وعمال؟ وما معنى هذه المعركة حول "الرحل" مع أنها لا تعني الديمقراطيين، بل فقط، أو أساسا أحزاب الإدارة، والتي هي في نهاية التحليل، منزل واحد متعدد الغرف، فما يضيرنا أن ينتقل "صنيعة" من غرفة جناح في السلطة إلى غرفة جناح آخر منها، تلك اختلافاتهم "وفي اختلافهم رحمة" (؟!).

ج- التركيز على مسألة دور الأموال في التأثير على نتائج الانتخابات. مساهمة في التضليل كذلك،  مسألة التزوير، قضية سياسية لا أخلاقية ولا يمكن لإدارة سياسة مستبدة أن تترك قياد السفينة للصناديق تقرر بالنيابة عنها، ولو كان ذلك بالفساد. ليست الأموال القذرة إذن سوى ذلك الدخان الكثيف الذي ينشره الساحر، للتغطية عن "سر المهنة" وأيضا لتمويل العملاء والوسطاء، والتخفيف عن ضحاياهم من الفقراء. والمساهمة في إفساد أخلاق الشعب. أما قرار التزوير لهذا أو لذلك.. فهو قرار سياسي مركزي..

ومن ذلك مثلا أنه عندما تقتضى الخريطة، مرور تقدمي مثلا ويخافون على نتائجه من أموال منافس يميني عتيد، فإنهم يستدعون مرشحا رأسماليا آخر منافس، ويوهمونه أنه المرغوب فيه... فيكون صراعهما وتشتت أصوات الفقراء بينهما، سبيلا لمرور الزعيم التقدمي (هذا المثال واقعي).

ح- على بعض القياديين النزهاء في عواطفهم بديلا عن عقولهم، أن يعلموا بأن ما يأتون به من أمثلة غربية عن الديمقراطية التي ينشدون بلوغها، لم تتحقق نزاهة انتخاباتها إلا مع أواسط الستينيات من القرن الماضي (فرنسا مثلا). إن الرأسمالية والنزاهة والحياد والموضوعية على طرفي نقيض "ان أريد إلا الإصلاح" أما الثورة فهي هدف مازال منيعا، والحال أن الديمقراطية هي "ثورة" (؟!) فهل هم مستعدون لتحمل مستلزماتها (؟!)

الخلاصة، إن الذين يجب إقالتهم أولا، هم من ثبت على مر خمسة عقود جرائمهم المؤكدة، سواء في حق الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو الأموال العامة...

2- الذي يجب حله هو الحزب "السري" الفرنكوفوني.

3- الذي يجب فصله هو الأمن والمخابرات عن الإدارة الترابية. 

هامش : يشتكي شباب التظاهرات علنا (بيان) من إهمال القناة الفضائية التي رعت في الأصل عمليات إشهار وتسييس.... تحركاتهم. غير منتبهين إلى أن أهدافها من ذلك "الدعم" تحققت كلا أو جزءا. سواء في المعلن عنه (الدستور مثلا) أو السري، وهو الأهم غالبا(؟!)  ولا تراهنوا على الامبرياليين، بل أساسا، وفقط، على أنفسكم وعلى شعبكم وقواه الحية والديمقراطية حقا.

                                                        د.ع. الصمد بلكبير 

                                                       05 شتنبر 2011

Share this content:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: