د.ع. الصمد بلكبير
[ يمكن لهذا العنوان أن يأخذ صيغا أخرى مثل: الإسلام السياسي الأمريكي أو حتى الإسلام الأمريكي، المقصود هو التقاء (توافق – تقاطع – تمفصل – تحالف... وحتى تطابق) بين الطرفين، ظرفي طبعا، ولكن ماذا يشكله التاريخ أصلا إذا لم يكن تراكم "ظروف".. مسوغه اليوم هو الإجهاز على القطاع العام في دول الجنوب والقائمين عليه "رأسمالية الإدارة" وفي المقدمة منها الجيوش... العمود الفقري لاستقلال وسيادة الدول.. فأمريكا تريد أسواقا لا دولا، وأمنا لا جيوشا وحدودا مفتوحة بدون دفاع، وتفتيتا للكيانات (يوغسلافيا..) أو حتى إلغاء للإدارات جملة (الصومال...) ]
لفهم الأهم في ما يجري باسم "ربيع" مفترض للشعوب، يجدر التذكيـر بالتالي:
1-سواء في الشمال الأوربي، أو في الجنوب العربي-الإسلامي... فلقد كان من أهم مظاهر بزوغ وتأسيس وانتصار الدولة الحديثة... هو مؤسسة الجيش... وما يسمى أو يعتبر "الإصلاح"... كان في التاريخ الحديث عن طريقه (=الجيش) أساسا، سواء للإدارة أو للاقتصاد.. وأحرى الاستقلال والسيادة، وذلك آت خاصة من هرميته وانضباطيته ووطنيته وحرمته.. بعيدا عن التدخل بل وعن المراقبة...(؟!) الجيش هو العمود الفقري لـ"الدولة" وهو الذي وقف على نهوضها في العديد من الأقطار، وأعطى الكثير جدا من الرموز القيادية الوطنية والمتنورة في التاريخ الحديث والمعاصر للعالم.
2-والأهم في ما يسمى اليوم بـ"العولمة" (=الامبريالية الجديدة) هو فتح الأسواق وإلغاء الحدود التجارية والحمايات الاقتصادية الوطنية... الصيغة الأسوأ والراهنة لتصدير أزمات الرأسمالية في ما بين أطرافها الداخلية، ثم مع شعوبها وفي ما بين دولها... ثم أخيرا وفي المحصلة، نحو شعوب ودول الجنوب التي تؤدي عن الجميع الفواتير كاملة، وذلك على حساب جميع حقوقها في الشغل والسكن والصحة والتعليم... (=مهزلة صفقة T.G.V الأخيرة مع المغرب).
ترى من يقف دون ذلك، أقصد: المتضرر منه، والمنتبه له أكثر من غيره ؟
إنها إدارات دول الجنوب، وفي المقدمة منها جيوشها وبيروقراطيتها.. ذلك لأن العمود الفقري لتلك الرأسماليات الجنوبية والمستفيد منها وحاميها.. هو الإدارة (=رأسمالية الدولة).
ولذلك يجد الغرب الرأسمالي نفسه اليوم في مواجهتها (=بيروقراطية الجنوب)، مع أن العديد منها كان من منتوجه، واستمر متحالفا معه أو تابعا بالأحرى، ضدا على شعوبها.. غير أن حركية العالم وتحوله وصراعاته... أضحت تتطلب، بل وتفرض تحالفات جديدة على أطرافه.
3-كان عليه طبعا (=الغرب الرأسمالي) أن يتحالف مع الرأسمال الخاص في الجنوب، ضدا على رأسماليات الدول إذن. واستعمل لذلك وسائط متعددة، وخاصة عن طريق وكالاته الدولية النافذة بسياسات القروض.. (البنك والصندوق الدوليين..) فكانت سياسة الخوصصة مثلا وغيرها، غير أنها لم يستفد منها غالبا، سوى تلك البيروقراطية النافذة نفسها في الإدارة. والتي استقوت بها ولم تضعف، ولذلك استمرت، رغم فسادها، حامية للحدود الوطنية الاقتصادية-التجارية نسبيا، ومنافسة للاستعمار في السيطرة على سوقها، وطامحة لاقتحام أسواق أخرى.. ومتحايلة في البحث عن صيغ بديلة وماكرة وبعيدا عن مراقبات وإجراءات السيطرة الغربية (اتفاقية أكدير مثلا بين المغرب ومصر وتركيا والأردن... ومثلها كثير وبالعشرات وغالبا ما تكون سرية التحضير، بين الكثير من دول الجنوب والشرق وأمريكا الجنوبية..).
4-عند محاولته (=الاستعمار) الرهان على أحزاب ونقابات... هذه المجتمعات في "الإصلاح"، بمعنى تقليم أظافر الدولة وإبعاد مرافقهـا عـن الاقتصاد... وفي المقدمة منها جيوشها... ستكتشف أن الارتباط بينها (الأحزاب) مع تلك الإدارة بنيوي ويكاد يكون عضويا. لأجل هذا سيعمد "علماء" الاجتماع والسياسة والاقتصاد في الغرب إلى "اختراع" أغلوطة ايديولوجية بل واصطناعها بإعادة إنتاجها، أقصد موضوعة "المجتمع المدني" بالمعنى الذي يوظفه له:
أ-نقيضا لإدارة الدولة، لا مكملا لها ومكافئا، كما هي حقيقته وكما هو تاريخه وكما هو منطقه ووظيفته.. بما في ذلك في الغرب نفسه وذلك منذ نشأته فيه، وحتى يومه.
ب-تجريده من أهم مقوماته: الأحزاب والنقابات والمجالس المحلية... بل وتوضع هذه جميعا في خطابهم، منافسا له ونقيضا، وتضحى مستهدفة بالدعاية والتشهير والتحقير، ولا يتحدث عن: الحزب والحزبي والحزبية، وإنما عن السياسة والسياسي... وكأن أنشطة الجمعيات "المدنية" ليست سياسية، مع أنها قد تكون غير حزبية فعلا.
ت-استثمار الهوامش والتناقضات الثانوية.. وما عجزت، أو حتى منعت الأحزاب والنقابات والجماعات المحلية المنتخبة.. من اقتحامه.. أقصد مثلا، المرأة – الشباب – حقوق الإنسان – المعاقين... والأهم العاطلين.. مع أنهم أخطر منتوج للعلاقات الامبريالية إياها.. فهم لذلك ضحاياها مرتين أو أكثر... في إنتاجهم أولا ثم في بعض ردود أفعالهم ثانيا..إلخ.
ث-خلق وتشجيع وحماية القطاع الخاص في الإعلام والصحافة، ونعته بـ"المستقل" مع أنه يستحيل أن يكون كذلك وهو يشتغل في الشأن العام. وتمويله المباشر (3 مليار دولار هذا العام) وغير مباشر بالإعلانات (بعضهم هنا تلقى إعلانا من كوريا الجنوبية؟!) وبالأوسمة والجوائز والشهادات لـ"الصحافيين" (أحدهم لم يقتعد بعد مقعدا في مدرج جامعي، ووسم) وبالأجور المجزية (5 آلاف دولار شهريا في الأقل) على وظائف وهمية (إذاعة سوا وقناة الحرة مثلا)، كدعم غير مباشر، لمسؤولياتهم في الصحافة الخاصة "المحلية" (وكون لغتها وطنية، لا يعني بالضرورة أن خطها التحريري كذلك).
[ عندما عينت تيتويلر سفيرة لأمريكا في المغرب، لم تكن لها مهمة في مواجهة إدارة الدولة، سوى هذا الموضوع. وسهرت بنفسها على حل "معضلاته" وفرض حلولها له.. بل ووقفت على رعاية واحد من أهم الصحفيين المغاربة اليوم... كانت التعليمات تقضى بالتالي: تصرف أيها الملك كما تشاء وفي جميع الأمور إلا "الصحافة" فهي لي وأنا أجزى بها (؟!) ]
فكانت "الفوضى العارمة" في الصحافة، والتي لم تترك قيمة فكرية أو أخلاقية إلا سفهتها، ولا رمزا إلا طعنت فيه ولا تراثا إلا حاولت تشويهه (نشر الدارجة والعهارة والشذوذ..) كل ذلك باسم حرية الرأي وحرية الصحافة والحق في الاختلاف...إلخ من المبادئ والأهداف الإنسانية النبيلة، والتي تستحيل على يد الاستعمار إلى توظيفها عندنا وعندهم نقيضا لمقاصدها الأصلية.
في المغرب، وبسبب "الهاكا" اقتداء بالنموذج الفرنسي، فوتت الفرصة على قنوات تلفزية خاصة، يكون خط تحريرها "الفوضى العارمة" نمط الجزيرة وأخواتها الثلاث في مصر، والممولة والموجهة أمريكيا.
5-في هذا التدبير، راهن الاستعمار كثيرا على:
أ-بعض عناصر، وأحيانا تنظيمات "اليسار" المضطهد والموتور والمعزول، نتيجة ذلك، عن ماء الحياة السياسية المنظف والواقي من الانحراف: الشعب.
ب-نخب الجامعات وخريجوها... ممن لا يعانون من مشاكل اليومي، ولكنهم يعانون من تهميش الإدارة ومن انخفاض منسوب الحرية، ولذلك هم يضعونها في مرتبة أسبق من التحرر الوطني. هذا مع أنه لا حقوق ولا حرية للإنسان بدون تحرير الأوطان، ومن تم فالتناقض الرئيس ليس داخليا مع الاستبداد، بل خارجيا مع الامبريالية، هم يعكسون الآية، يتحالفون مع الاستعمار (النار) ضدا على الاستبداد (الرمضاء) وهو الأمر الذي يحصل في ليبيا وفي سوريا واليمن... حاليا (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
6-ما زاد الطين بلة، أن عجز وحتى تبعية، الأنظمة المستهدفة في الجنوب، أنها تعرف، وأكثر من شعوبها مخططات الرأسمالية المأزومة في الغرب ضدا عليها، ولكنها عاجزة عن مواجهتها، ذلك لأنها أصلا عاجزة عن أن تكون ديمقراطية، وبالتالي أن تستقوي بشعوبها، وذلك بسبب مخططات وأوامر السيد الاستعماري نفسه. فتضطر لذلك إلى "المواجهة" عن طريق المسايرة، فتتدخل هي أيضا في جمعيات المجتمع الموصوف زورا بـ"المدني"، وتخترقها بعملاء مزدوجين، وتضاعف من استغلال الدين (التصوف وغيره..) وتؤسس الصحف... وبجميع ذلك وغيره، تساهم في إشاعة وسيادة "الفوضى العارمة" بما في ذلك الحقل الجامع (=الدين)، فباسم وحدة العقيدة والمذهب والطريقة... يتم التطبيق الحرفي لحديث سبعين فرقة (؟!)
7-لمن يستغرب الموقف الأمريكي المناوئ لخديميها المصري والتونسي (مبارك وابن علي) والمحرض ضدا عليهما إعلاميا وسياسيا وفي الميدان، نذكرة بموقفها من عملائها أو حلفائها السابقين:
أ-شاه إيران، عندما طمح بثورته البيضاء إلى أن يصبح القوة العسكرية الرابعة عالميا.
ب-سوهارتو، عندما اقتحم صناعة الطيران، وبدأ يستقل نسبيا عن التقنية الأمريكية في الاتصال مثلا (مع السويد).
ت-السادات (وخليفته) لأنه تمكن من خديعة بل وإهانة جميع مخابراتهم، ثم انتصر عسكريا عليهم في حرب (1973). ذلك لأن الهزيمة كانت للتقنية وللإستراتيجية الحربية الأمريكية وللمخابرات الغربية، أما إسرائيل فهي محض أداة.
ث-يوغسلافيا ورومانيا، الحليفان الموضوعيان سابقا لأمريكا، الأولى ضدا على الاتحاد السوفياتي والثانية لفرنسا (القطارات – مصابيح الكهرباء..) ومع ذلك ارتد عليهما. وباسم التدخل "الإنساني" حطم بهمجية لا مثيل لها في التاريخ حتى حينه، صربيا العمود الفقري للاتحاد اليوغسلافي.
د-عمر توريخوس ثم نوريغا في بنما مع أنهما حكما بانقلابين أشرفت هي عليهما، وقبلهما في الفيتنام أما المثال العراقي فهو أشهر من أن نقف عنده، حيث فضل صدام التحالف مع أمريكا توقيا من الثورة الإيرانية. وتمكن من تحجيمها وتعطيلها فعلا، ولم يشفع له ذلك في الاستمرار بجيش قوامه أكثر من مليون جندي، فأمريكا لا ترضع صوابعها، ولا تعطي للعواطف أو الالتزامات والقيم.. اعتبارا مقارنة إلى مصالحها الرأسمالية والقومية الإستراتيجية..
واليوم، فإن الوضع الباكستاني لا يختلف ولن يختلف بحال مستقبلا.. وفي مواجهة الجيش وقنبلته النووية (التي مولها القذافي ولذلك يؤدي الثمن) ستدعم الكثيرين، وستضحي بهم (بنظير بوتو آخر ضحية...) وذلك قبل، ومن أجل بلوغ غاية تفكيك كيان الدولة نفسها، وعمودها الفقري الجيش والمخابرات الباكستانية.. (مؤسسة طالبان...).
في اليمن وفي سوريا... وفي الجزائر قريبا... يستمر الجيش دائما هو المستهدف. وذلك رغم كل "التنازلات" التي تقوم بها تلك الأنظمة لمصلحة التهميش النسبي للجيوش وتوازنها مع أجهزة الأمن: في تونس الأمن يضاعف الجيش عددا، في الجزائر أضحى أكثر عددا، والسعودية وظفت أخيرا مئة ألف للأمن، وفي تركيا هذا ما يقف عليه اليوم إسلاميو العدالة والتنمية.. وفي ليبيا مثل العراق ومثل الصومال... لن يكون له وجود أصلا (دلالة اغتيال الجنرال ع. الفتاح يونس).
8-تشيع اليوم بل وتسود، في الأوساط "الأكاديمية" الأمريكية، ثم الأوربية، المرتبطة خاصة بأجهزة القرار السياسي (تحضيرا وإجراء) أطروحة تقضي بأن الوسيلة الأنجع لتحجيم أو حتى إجهاض حركات الإسلام السياسي المناضلة، هو تمكينها من الحكم، أو المشاركة فيه. ذلك لأنه الوضع الأكثر تأثيرا في اتجاه
"ترشيدها" وإدماجها ودفعها لمواجهة متطرفيها.. والمثال الأبرز لديهم عن ذلك، وفضلا عن تركيا، هو حماس في غزة، فبالرغم من أن صعودها كان قرارا شعبيا بالأساس، ولم تكن هي نفسها تستهدفه ولا تنتظره، إلا أنه قدم الجواب الأفضل من أجوبة "الأكاديميين" والقادة الغربيين الذين فشلوا في مواجهتها بالأساليب التقليدية القديمة...
[كانت نصيحة أمريكا لمبارك، باحترام حرية الصحافـة و"نزاهـة" الانتخابات، تعني إشراك الإخوان في الحكم، الأمر الذي رفضته بيروقراطية الإدارة وفي المقدمة منها الجيش... وكان الثمن هو ما نعاينه. واللعبة هي حتى الآن لمصلحة الجيش نتيجة حنكته... غير أن اللعبة مفتوحة ما تزال... وحكمة الجيش فيها هي "بيدي لا بيد عمرو" فإذا كان الإسلاميون ضرورة، وهم اليوم الممثلون السياسيون للرأسمال الخاص.. المستقل والوطني غالبا، فليكن ذلك عن طريقي وبالتحالف معي، لا بالتحالف مع أمريكا، والإخوان حتى الآن وكما يبدو، يزاوجون ويفاوضون ويتربصون، وعندما ستحسم أهم الموضوعات (مسألة خوصصة الأبناك – النفوذ الاقتصادي للجيش – كامب داوود – العلاقة مع فلسطين – السودان وليبيا...)... سينفض الجمع في ميدان التحرير.]
9-لنأت الآن على مثال حي وراهن وأكثر إثارة للحيرة وللتساؤلات، أقصد التجربة الإسلامية في تركيا.
يتحدث الكثيرون عن التجربة التركية "الناجحة".. ويرجعونها إلى كثير، غير أنهم لا يذكرون الأهم، ألا وهو الدعم الاستراتيجي الأمريكي لها، ليس لأن تركيا في الأطلسي، فهذا كان قبل صعود الإسلاميين، وليس نكاية في أوربا فقط والتشويش على انسجامها المفترض أو المنشود بالأحرى، أو حتى في مواجهة روسيا..إلخ ولكن أساسا في مواجهة الجيش التركي العتيد.
منذ قيام وتوسع وسيادة الإمبراطورية العثمانية كدولة أعظم في التاريخ الوسيط، وتحول قبائلها البدائية إلى شعب صانع للتاريخ ومحافظ ومنتج لثقافة وحضارة... فلقد كانت جيوشها (الانكشارية) هي كلمة السر الأهم...
ومنذ كمال أتاتورك وحتى اليوم، تعتبر مؤسسة الجيش أهم سر في الحفاظ على استقلال وسيادة تركيا، والأهم في استقرارها وازدهارها الاقتصادي، فهذه المؤسسة وحتى الآن تحتكر لنفسها الكثير من الصناعات والاستثمـارات العقاريـة
والسياحية.. بل والمالية عن طريق صندوق التقاعد الخاص بها (يضاهي الانجليزي وهو الأعرق والأهم عالميا)... وكلها محمي من فساد الإدارة الترابية (الرشوة) يسير في معاملاته، مدعوم في تجارته، ومخفف أو حتى معفى من الأداءات الضريبية.. كل هذه الامتيازات وغيرها تسمح لهذا القطاع من الاقتصاد التركي بتوفير شروط تنافسية عالية، حتى بالمقارنة مع المنتوجات والخدمات الرأسمالية الغربية (السياحة مثلا، سواء من حيث الجودة أو الرخص أو الأمن..)
إنها تكاد تكون نفس "اللعبة" الصينية مقلوبة، هذه توظف بعض آليات الرأسمالية في منظومة اشتراكية، وتلك العكس، آليات "اشتراكية" فـي بنيـة رأسماليـة.
عندما يتحدث الغرب ومؤسساته "الدولية" المالية عن "الحكامة" بديلا عن الديمقراطية، أو بالأقل إلى جانبها، فهو يقصد مواجهة مثل هذه الظواهر بالذات، أي التحايلات والمسارب التي تعمد إليها رأسماليات الجنوب، وفي المقدمة منها رأسماليات الدولة، (والتي هي بالمناسبة، نفس ما توسلت به الرأسمالية الغربية في مرحلة تأسيسها كما عند أزماتها الدورية) وذلك لتوفير ما به تستطيع التخفيف من ضغط واحتكار وابتزاز وسيطرة... الأموال والسلع والخدمات الرأسمالية الامبريالية... إن العديد من الاتفاقيات "الدولية" والجمعيات "غير الحكومية" عندهم وعندنا... وفي المقدمة من جميع ذلك منظمة التجارة الدولية... ليس المقصود منها سوى الوقوف على ضبط هذا المجال لصالح سلعهم.. ومن ذلك في المغرب مثلا دسترة هيئتي الرشوة والمنافسة.. وعلنية مجلس الأمن؟! إلخ (وجديد الدستور الأخير هو في "الحكامة" لا الديمقراطية..)
(المأسسة والشفوفية، بالنسبة لهم.. تعني ألا يكون عندك سر. وهل ثمة دولة بدون أسرار؟ السر سلاح الهيمنة والسيطرة بالنسبة للأقوياء، وسلاح المقاومة بالنسبة للضعفاء أو المستضعفين).
10-ما الفرق إذن بين مرحلتين في المشاركة الإسلامية في حكم تركيا: أربكان ثم أردغان؟
في الحالتين والمرحلتين، كانا التعبير السياسي عن رأسمالية وطنية تركية خارج الإدارة، بل وعلى حسابها. الفرق بينهما كان، هو الموقف من الجيش ومن الاقتصاد العسكري (=رأسمالية الدولة).
لم يكن أربكان، التكنوقراطي أصلا، تهمه مواجهة الجيش أساسا، بل الرأسمالية العالمية، ولذلك سعى إلى إعادة إنتاج "العثمانية" بمنطق العصر العلمي والصناعي. ولهذا حورب، ولم يحد من الغرب الامبريالية حماية (؟!)
أما "العدالة والتنمية" فجديده، أنه حجم طموحه لحدود الانسجام، أو حتى التطابق أحيانا، مع الإستراتيجية الأمريكية: الشغب على أوربا – مناكفة روسيا عن طريق الجمهوريات "الإسلامية" المنشقة عنها – رفض "الحل الديمقراطي" مع الشعب الكردي... والأهم محاصرة القطاع الاقتصادي العسكري... ذلك بإخضاعه للمراقبة البرلمانية والإدارية. والحد من توسعـه، وإخضاعـه للضريبة... (آخر قرارات البرلمان التركي، بعد أن توفرت للإسلاميين فيه إثر الانتخابات الأخيرة، النسبة المطلوبة دستوريا لاتخاذها ضدا على الجيش). وأخيرا فتح باب أمام سوريا تلتجئ إليه، بديلا عن التحالف مع إيران، وبالتالي مع المقاومة في فلسطين ولبنان وإلا، فيقلب ظهر المجن عليها بالضغط وبالابتزاز وبالحصار... ويدعم "معارضاتها، الحقيقية منها والمصطنعة".
وبالنسبة لأمريكا وإسرائيل، فإن رد الفعل السوري المحتمل، سيكون هو إعادة تحريك الورقة الكردية ضدا على تركيا، وبذلك يستعفى الغرب وإسرائيل من حرج دعم "حزب العمال الكردي"، ويشغل تركيا عن مزاحمة إسرائيل في ما تتغياه من "الشرق الأوسط الجديد" الذي تنشد اصطناعه، ما يشكل سايس بيكو جديد (تفتيت المفتت).
ويبقى أن الهدف الأبعد أمريكيا، هو إضعاف إيران وفصل الارتباط بينها وبين المسألة العربية (فلسطين ولبنان خاصة) وتحجيم طموحاتها الصناعية والعلمية وتيسير انقلاب أوضاعها السياسية بالفتنة الداخلية أو بالتدخل الخارجي أو بهما معا.
دون تحقيق ذلك المخطط، تقف معضلات، أهمها الحاجة إلى "تبرير" مقنع لتحجيم الجيش التركي وحتى تهميشه، رغم الحاجة إليه في المواجهة مع حزب العمال الكردي.
لقد كان الجواب الأمريكي، هو إصدار الأمر لإسرائيل، للنيابة عنها (لأسباب إستراتيجية) في تمكين تركيا من الطائرات بدون طيار، فهي التي أثبتت نجاعتها في الجبال الباكستانية-الأفغانية والتي تشبه الطبوغرافية التركية، الكردية.. وبذلك تتقلص الحاجة إلى دور الجيش التركي وآلياته واستراتيجيته التي أضحت تقليدية ومتجاوزة... وبذلك يبرر تقليص ميزانيته ويقل تعداده ويتضاءل تدريجيا نفوذه...
ولأن الأمر يحرج الإستراتيجية الخاصة الإسرائيلية، الداعمة أصلا للأكراد خاصة في العراق، فلقد تلكأت إسرائيل وعندما استجابت، "برمجت" تعطيلها (=الطائرات) المتلاحق، وعندما أعيدت إليها من أجل إصلاح أعطابها... تأخرت... فكانت معركة "مرمرة" وما سبقها وما تلاها من مناوشات واحتكاكات وحتى صراعات.. هي جميعها تمارس تحت سقف الاندماج العضوي بين "المتخاصمين" في إطار إستراتيجية الأطلسي الاستعمارية.
تتعدد وتتنوع التناقضات، وتتداخل الصراعات، والأهم بالنسبة للمحلل هو القدرة على تحديدها ثم على تمييزها وفرزها، ثم تصنيفها، والضبط، في كل حين، لمواقعها ولعلاقاتها المتحركة أبدا.
بالنسبة لحالتنا، فإن الصراع على أسواق المشرق بين الرأسماليتين التركية والإسرائيلية ثابت ومؤكد ويكاد يستحيل حله توافقيا.
وهدف إضعاف الجيش التركي وبالتالي رأسمالية الدولة التركية العتيدة، هو تعاقد مشترك غربي، مع الرأسمال الخاص التركي، بغطاء إسلامي.
وكما حصل في أوربا الشرقية والوسطى وفي العراق... ويمارس حاليا في الجزائر ويراد تعميمه في مصر وسوريا وليبيا وتونس...
المنافسات بين الرأسماليات تنتج تناقضات وتعارضات، كما تنتج توافقات وتطابقات وتمفصلات وصراعات أحيانا تناحرية (الحربان العالميتان).. وهي لذلك دينامية متقلبة ومتبدلة أبدا...
في تركيا، يقضي التحالف الرأسمالي الغربي-الإسلامي، بتحجيم الجيش لمصلحة الدرك والأمن، وهو قرار يجري تنفيذه تدريجيا، ودائما باسم سيادة القانون ودولة المؤسسة والديمقراطية... ومقابل ذلك، ولأجل دعمه.. فإن جميع الإمكانيات العولمية... يجب أن توفر لحزب "العدالة والتنمية" تماما مثلما حصل بالنسبة لما كان يوصف بالنمور الآسيوية، لخدمة إستراتيجية هي أكبر بكثير من كياناتها الخاصة ومن منطقتها الجغرافية..
الذي لا إستراتيجية له، لا يمكن أن يفهم إستراتيجيات أخصامه أو أعدائه. ولذلك يكون ضحية لها دائما. وهذه اليوم حالة أغلب الحركات والأحزاب السياسية المنعوتة بالإسلامية...
ومعركة "مرمرة" وما تلاها.. الهدف الرئيس منها، هو الضغط على إسرائيل في هذا الصدد ووقف دعمها لأكراد العراق، والحصول على الطائرات بدون طيار، لإرغام "حزب العمال الكردي" على التفاوض مع "العدالة والتنمية" في شروط يضاعف بها الحزب مردوديته وبالتالي مشروعيته...
11-سيستمر التناقض والصراع الرئيس لعصرنا ما بين رأسمال والعمل (=الاستغلال) بين الرأسماليات بمختلف أنواعها ومستوياتها، والشعوب في شتى أقطارها، غير أنه يتلبس ويتقنع ويختفي... خلف أشكال ومستويات أخرى منه، ومن ذلك في ما يخص موضوعنا ما يلي:
أ-فحيث إن الطابع الأساس للتناقض اليوم هو الأزمة، فإنهم في الشمال الامبريالي يعملون على تصريفها، لا على حسب "نمط ومستوى الحياة" الغربية، وإنما نحو شعوب ودول الجنوب، ما يعني اصطدامهم برأسماليتها النافذة والمتحكمة، وهذه ليست سوى رأسماليات الدولة، ومن يسهر عليها ويستفيد منها في الإدارات... وفي المقدمة منهم طبعا القطاع العسكري.
هؤلاء جميعا متشبثون بالقطاع العام، ليس فقط لأنهم يشرفون عليه ويستفيدون من ريعه، ولكن أيضا لأنهم به أيضا، يضمنون النظام ويضمنون توفير الحد الأدنى المسموح به عولميا من "التنمية"... والحال أن تصدير أزمة الشمال نحو الجنوب، يقتضي الهيمنة عليه وابتلاعه، كما حدث سابقا للجمهوريات السوفياتية ولدول أوربا الشرقية والنمور الستة والمكسيك والأرجنتيـن... ثم العـراق...
المشكلة، أن أكثر هذه النظم موالية لا معادية. فكيف السبيل ؟ وما هو المخرج؟
الوصفة السحرية الجديدة هي التجربة التركية، تلميعها وإنجاحها لأجل تسويقها وتعميمها، ذلك لأنه خارج إدارات هذه الدول.. تشكلت طبقة وسطى من خارج الإدارة، وهي فضلا عن ذلك تعاني من عسفها، فهي موتورة، وتمكنت من الشعب بفضل تبنيها لعقيدته وبالتالي لقيمه ومراجعه الأخلاقية والايديولوجية المتمثلة في الدين. هذا السلاح الأمضى، والذي تمكنت عموما من انتزاعه من أيدي الإدارة واستعماله ضدا عليها... تمكنت به هذه الطبقة من إنتاج ما يمكن نعته بالجبهة أو الكتلة التاريخية العريضة، وذلك بعض عواقب فشل وإفشال تجارب المعارضات السابقة الليبرالية منها أو اليسارية الاشتراكية.
تمكن "مثقفو" هذه الكتلة الجديدة من تأويل رأسمالي للإسلام ولتراثه، مستفيدين من كل تراث السابقين عليهم من جميع التيارات ممن فشلوا في بلوغ السلطة، ولكنهم لم يفشلوا في إضعافها.
هذه الطبقة وأحزابها السياسية اليوم، هي ضالة الرأسمالية الأمريكية، وعن طريق التحالف معها، وفرض مشاركتها الحكم مع حلفاء أمريكا السابقين... عن طريق "الديمقراطية" و"الحكامة" هو ما يفسر راهن الأحداث السياسية العربية، أهدافهم من ذلك:
أ-استباق وصولها الحكم باستقلال واعتمادا على شعوبها فقط، وهو ما يهدد بتكرار النموذج الإيراني الذي تأخر فيه الغرب (أمريكا الخاصة) عن التحالف مع الثورة، كما يختصر المثل "بيدي لا بيد عمرو" فهم هذا التدبير، فإذا كان ولابد، فعن طريقي.
ب-الإسلاموية السائدة، على عكس التأسيسية السلفية، لا أثر فيها للفكر الاشتراكي، بل هي عموما معادية له ومحاربة، كما ظهر ذلك في غير ما مناسبة (أفغانستان – يوغسلافيا – الجزائر...) ولذلك فهي مستعدة لمسايرة الغرب في الإجهاز على القطاع العام... وتوزيع كعكته معه...
ت-تستطيع بنفوذها الأيديولوجي والسياسي على الشعب..أن تضبط تحركه النضالي ومطالبه المتنوعة والمتعددة سياسيا واجتماعيا، وتسمح بدرجة من الانضباط ومن "السلم الاجتماعي" للاستثمار وللمستثمرين محليين وغيرهم (؟!).
ث-ولأن البعد الأخلاقي للإسلاموية، يكاد يتطابق مع دعوات المؤسسات المالية "الدولية" والعولمة الرأسمالية لما يسمونه ب"الحكامة الجيدة" (لعل رائدها التاريخي هو عمر بن الخطاب). فإن الغرب الرأسمالي لذلك، يستطيع الاعتماد عليها في ضمان ما به تحقق الاقتصادات الوطنية درجة من المردودية ومن الحصانة ضد الفساد.. وبالتالي من التشغيل ومن التعليم ومن الصحة العمومية ومن سلامة البيئة... ما يقلل من أخطار الجريمة المنظمة عليهم، وأسوؤها بالنسبة لهم الهجرة السرية أو المناضلة بالأحرى (وهي شرعية بالمناسبة). وعندما نستمع إليهم وهم يتحدثون عن "الإصلاح" فإن مقصدهم اليوم منه هو هذا، وبالتالي إقرار ما يؤدي إليه ويسمح به من إجراءات دستورية وسياسية... وعندما يحصل التوافق الجنوبي معهم حولها، تنتهي الانتفاضات والفتن والحروب الأهلية والتدخلات.. العسكرية.. وإذا استمرت ففي شروط الاحتضار وبدون نفس حتى، سواء في العربية أو الحرة أو فرنسا 24 أو الجزيرة... أو بقية التسعين قناة المؤسسة والممولة والموظفة خصيصا ومنذ أكثر من عقد من الزمن لخدمة هذه اللحظة، فضلا عن عشرات الإذاعات والصحف "الوطنية" المنعوتة غالبا بـ"المستقلة" ومثلها من الأقلام المأجورة (أربعمائة كاتب عربي اشتريت للغرض في المزاد السري) أما جمعيات المجتمع "المدني" فعدد ولا حرج.
وفي المقابل، فلقد أجهز، وبطرق متعددة وملتوية وماكرة، على جميع الصحف والجمعيات والشخصيات... التي يمكن أن تعترض وأن تفضح وأن تناهض... العدوان الامبريالي الجديد على أوطاننا وشعوبنا ودولنا.. والزيف والتغليط والكذب الإعلامي المرافق له والمغطي على جرائمه ومقاصده الحقيقية والخفية.
12-في الغرب اليوم (أمريكا خصوصا) يحدث تحول كبير في تاكتيكاته لتحقيق نفس إستراتيجية السيطرة.
في الماضي القريب، كان يحارب، باسم أطروحة "الإرهاب" رأسمالية القطاع الخاص في الجنوب والشرق العربي-الإسلامي، خوفا من نهوضه، خصوصا وهي تذكره بتاريخه الحديث قبل تقدمه، ويتحالف ضدا عليها مع رأسماليات الدول التابعة أو المتحالفة فإذا به يكتشف أن هذه الأخيرة ربما ستصبح أخطر عليه من الأولى، ولذلك نجده الآن يرجح غالبا قلب المعادلة، وذلك بالتحالف مع رأسمال الخاص (الإسلامي غالبا) ضدا على رأسماليات دوله (الفاسدة فعلا والمستبدة..) ولكن هل ثمة رأسمالية في التاريخ كما في الحاضر غير فاسدة وغير مستبدة (؟!)
13-لا تتوافق الرأسماليات الاستعمارية اليوم جميعا على هذا الحل، أو بالأقل على تفاصيله، أوربا (فرنسا) ما زالت متخلفة جدا عن هذا المستوى من الحلول الاستراتيجية للأزمة الرأسمالية، غير أنها تقبل مضطرة، ملاحقة أمريكا..
ولعل هذه التناقضات في صفوف الرأسمالية، هو ما سيسمح بانتصار الديمقراطية "الليبرالية" في دول الجنوب، وهي نفس صيغة انتصارها لدى شعوب الشمال تاريخيا، والفرق، أنها هنالك أتت نتيجة تناقض وصراع فئاتها الوطنية (مالية – صناعية – عقارية – تجارية - فلاحية..) وهي هنا قد تأتي نتيجة نفس التناقض الداخلي للرأسمالية المحلية، غير أنه مدعوم ومخترق من قبـل تناقضـات وصراعات الامبريالية (أمريكا وأوربا خاصة).
14-ترى ما هو الجواب الوطني-الديمقراطي على هـذا التحـدي الاستراتيجي من قبل الغرب الرأسمالي لتصدير أزماته البنيوية والعميقة والقاتلة، نحو أسواقنا ومجتمعاتنا وثقافاتنا ودولنا؟
في نظري، هو الوحدة عن طريق التوافق والحوار الشامل والاستراتيجي.. حول ميثاق وبرنامج للنهوض وللتقدم، وبالتالي للاستقلال والحفاظ على السيادة.. وهذه هي جذر الديمقراطية حقا، بالأمس عندهم كما هي اليوم عندنا.
ميثاق أو مواثيق (برامج) حسب المجال، لا يستأثر بوضعه طرف، ويحرج به الآخرين، عن طريق مسرحية بائسة، لا تقنع الحقيقة ولا تستجيب لمطالب التاريخ.
ميثاق للوحدة الوطنية، ولكن أيضا المغاربية والعربية ثـم الإفريقيـة والإسلامية..
نستطيع بذلك وجميعا، استغلال تناقضاتهم لمصلحتنا، بدل العكس الذي يحصل حاليا، مثلا: نشترك مع أوربا (فرنسا – إسبانيا) اقتصاديا واجتماعيا، ونرفض تدخلها الفرنكوفوني (ولا أقول العلماني، لأنها ليست كذلك) والعكس في العلاقة مع اللغة والثقافة والعلم.. الأمريكي، وبالطبع فيجب أن تبقى أبوابنا ونوافذنا مفتوحة، بل ومشرعة أحيانا، على الأشقاء وعلى الأخـوة وعلـى الحلفاء... في جميع أصقاع الأرض.
لو سئلت، أو خيرت جدلا، بين حكم رأسمالية الإدارة أو الدولة، على جميع علاتها وعيوبها ومفاسدها، وبين رأسمالية القطاع الخاص، لاخترت الأولى، فهي على الأقل وحتى الآن أوربية الهوى، أما الثانية فلن تكون سوى الجسر الذي ستعبر منه أمريكا نحو أسواقنا ونحو أخلاقنا ونحو إدارات دولنا.
الرأسمالية شر كلها، وإذا كانت اليوم ضرورة (عابرة ومؤقتة حتما)، فلنراهن على أهونها. ولكن أيضا على توافقها وتحالفها الوطني-الديمقراطي... بـدل تصارعها..
"أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا" محمود درويش.
مراكش في: 20/10/2011
Share this content: