علاقات البنيات في المجتمع والتاريخ أهم من مكوناتها، ولأن الدولة وإدارتها تعتبر أعظم ما اخترعته البشرية في تاريخها، بل إن ذلك التاريخ، لمسيرة تقدمها الحضارى المطرد، لم يكن ليحدث، بدون قيامها، وعندما تنحط (الدولة) ينحط ويتقهقر، وذلك هو بعض ما نعاينه اليوم وتعاني منه الإنسانية المعاصرة الكثير من الويلات والمآسي، خاصة منها شعوبها المستضعفة وطبقاتها الكادحة والمهمشة والمضطهدة.
لنتذكر أنه بالعمل ( وهو ليس الكدح) وتيسيرا لانجازه، تشكلت للبشرية مجتمعات (بعد مرحلة التجمعات) وانتظمت في علاقات عمل (وما يتطلبه) تحصينها وضبطها من مرجعيات قيم وقواعد أخلاقية دينية (ضمير) وذلك قبل أن يتأسس للدين تشريعات للمعاملات ومؤسسات واجتماع وطقوس للتدين...
حدث ذلك منذ آلاف السنين، أما الدولة، بالتالي السياسية فإن زمن تأسيسهما، لا يتجاوز بحال، العشرة آلاف عام، فهي طارئة إذن مثل التاريخ، وما قبلهما فولكلور وفوضى وتوحش...
التاريخ هو فعل (وليس رد فعل) الإنسان في الزمن، فعل واع إرادي قاصد جماعي ومغير للموضوع (المحيط) إذن للذات الإنسانية نفسها (جدل)، ومن أهم ذلك، إحداث أنظمة (أهمها الأسرة) وقوانين وسلطة عامة ومؤسسات لإدارتها... وبعدها فقط، تحققت للإنسانية ثقافة وكتابة (علم) وحضارة وإيديولوجيات.. بديلا عن الخرافة والسحر والأساطير... إذن الحرية والسعادة وتراكم التحرر من ضرائر الطبيعة وعنف وإكراهات المجتمعات الطبقية.
قيام دولة، يتطلب تشكل شعب أولا، وهو أمر مشروط بالجغرافيا والتاريخ (لا بإرادة) وهو ما لم يتوفر حتى يومه، للعديد من الكيانات البشرية والجغرافية ذات التجمعات الدنيا (عشير وقبيل وطوائف) عمودية التصنيف، ما قبل الأفقية التراتب (الطبقية) إذن توفر طبقة اجتماعية مؤهلة للسيادة اقتصاديا وللقيادة سياسيا، غير ذلك، فإن الدولة تأتي من الخارج في شكل إلحاق أو استتباع إمبراطوري (عبودي أو إقطاعي) أو احتلال واستغلال استعماري (رأسمالي).
ذلك كان حظ المغرب والمغاربة في القديم، حيث لم تكن لهم حاجة إلى دولة تنظم فوضاهم "الخلاقة" يحق، إذ المجال وسيع والخير وفير، وذلك قبل أن يستقبلوا هجرات إفريقية ومشرقية (مصر، الشام، العراق، واليمن...) وشمالية (إيطاليا إيبيرية...) ومعها أتتهم دول متاجرة غالبا (فراعنة، عاشوريين وفينيقيين) أو إدارية وعسكرية (رومان ووندال)، وذلك قبل الفتح الإسلامي الذي حررهم من الوثنية وعبادة البشر (أمواتا وأحياء) والوعي السحري والخرافي - الأسطوري...
وحتى عندما وصلهم الدين، فلقد كان محرفا، تجاريا من قبل الأحبار (اليهودية التلمودية) أو سياسيا (المسيحية الكنسية) البيزنطية والأهم، أنه (الاسلام) حررهم من أنظمة العصبية القبلية والجهوية، ومن العبودية ومن الاستباع وأدلوجتهما، ثم أسسوا لهم دولا محلية (الادارسة) ثم إمبراطورية (المرابطون وما تلاهم) فأقامت، ومن حولها أشاعت، النظام والدين والحضارة، وأمنت الطرق للهجرة وتبادل الخيرات الثقافية والسلعية....وعمرت وفرضت السلام، وساعدت غيرها أحيانا على إقامة دولها الخاصة والمستقلة (إفريقيا جنوب الصحراء).
الأغلبية الساحقة من الكيانات السياسية القائمة مصطنع، وذلك من قبل الرأسمال الاستعماري، قديمه وجديده، لا تملك مقومات دولة، جغرافيا وتاريخيا وبشريا (شعب)، فهي محض قبائل (إفريقيا) أوطوائف (لبنان) أو شركات بترول (الخليج) أو محض قاعدة عسكرية (إسرائيل) الخ.
هي كيانات (أنصاف دول وأشبابها) ذات طبيعة وظيفية - استعمارية، لعرقلة تنمية وطنية مستقلة أو وحدة قومية (العرب مثلا) أو نشر الفساد، وتلغيم الديمقراطيات الجديدة.
أما الدول الفعلية المعاصرة فهي إحدى حالات ثلاثة:
- الرأسمالية الاحتكارية والاستعمارية التي تدعي الديمقراطية، وهي التي اصطنعت التوابع، وتستغلهم احتكارا ، وتوظفهم لشتى المآرب القذرة.
- الدول القومية المستقلة، والطامحة للريادة، وأهمها المجتمعة في البريكس ومعاهدة شنغهاي.
- 3- الدول الوطنية وحتى الاشتراكية الفتية، وهذه اليوم هي المستهدفة أكثر من قبل الإمبريالية، وذلك حتى لاتتحد قوميا أو جغرافيا (إفريقيا، أمريكا الجنوبية...) وأهمها وأخطرها، المشرق العربي.
إن العينة الأولى، هي اليوم في طور الاحتضار، لقد استنفذت برنامجها التاريخي، وأضحت رجعية مأزومة، تسودها الفوضى، ولذلك فهي تسعى للتخلص منها (الأزمة) عن طريق ترحيلها (تصديرها) نحو بعضها البعض، ونحو بقية العالم، وذلك بالعنف الناعم أوالمتوحش.
أما النمط الثاني، فهو اليوم من ينقد الإنسانية، ويصنع مصيرها، وذلك في نظام عالمي جديد، أكثر عدلا واعترافا بحقوق القوميات، وديمقراطية في علاقات الدول، وبدون الوحدة، فإنه لاسبيل للانقاد والخروج من الأزمات الراهنة والسائدة. نظام رأسمالي قديم يتفكك ويتصارع، وآخر جديد ينبثق، ديمقراطي متضامن أو حتى متحد (؟)
د. عبد الصمد بلكبير
Share this content: