انطلق عبد الصمد بلكبير وكوكبته ... في منتصف 1984، في بناء صرح ثقافي عالي المستوى. اعتمد أولا على المقاربة الشمولية للقضايا
مقتطف من مذكرات العربي مفضال - زهرة العمر

Share this content:

“المــــــــلاح” II

د.ع. الصمد بلكبير 

أثارت مقالتي المعنونة ب"الملاح" ردودا شتى متنوعة ومتباينة، ومع أنها كانت مشروطة بظروف تنزيلها المعروفة، فإن أغلب تلك الكتابات لم تراع ذلك، واستغرقتها موضوعات سياقية في المقالة لا مركزية فيها، لابأس...

لا تخرج مقالة ذ. الناسك "ملاحظات نقدية..." (المساء ع:3207) عن هذا التقييم، غير أنها جدية ومفيدة مع ذلك في هذا النقاش العام.

الأهم في "الملاحظات" هو جانبها النظري الذي انطلقت به واختتمت، ما يتصل خاصة بقضيتي: إصلاحية الصهيونية والخصوصية اليهودية...

لقد أشرت عن قصد، ومنذ مطلع مقالتي، إلى أن الصهيونية هي "نوع" من إصلاح اليهودية المحرفة والموظفة سلفا، كإيديولوجيا دينية لا كدين بالأحرى، وذلك ما دعا السيد المسيح، والذي هو يهودي، إلى الدعوة لإصلاحها من داخلها.

1-حول مفهوم الإصلاح: 

1-1-جميع المفاهيم والمصطلحات الإيديولوجية، تطرح مشكلات خلال النقاش بها أو حولها، ولعل مفهوم "الإصلاح" يعتبر أكثرها غموضا والتباسا في هذا الصدد، ذلك لأنه يستحيل تعريفه حسب موضوعه أو حسب زمنه أو حسب الداعي إليه.. خلاف كلمات مثل: الديمقراطية مثلا أو الاشتراكية... إن مفهوم "الإصلاح" نسبي جدا، ومتحول، بل ومتناقض، سواء في النظر أو عند الممارسة. وذلك حسب مصالح ومطالب دعاته في كل حين.

إن هذا هو ما يجعل تعريفه، يرتبط في الأذهان بنقيضه، الذي هو الفساد والإفساد، وهذا الأخير يفهم تلقائيا، باعتباره انحرافا عن أصل، قيمي وأخلاقي غالبا، غير أن جذوره الفلسفية تعتبر ذات طبيعة ميتافيزيقية، وذلك قبل أن ترثها عنها الإيديولوجيات الدينية اللاحقة عليها. نستطيع أن نلاحظ أكثر ذلك من خلال كتاب أرسطو "الكون والفساد" ما يعني لديه، أن للكون أصلا هو الحقيقة والفضيلة والجمال... وهو خلال الزمن وبفعله، يفسد، ويحتاج لذلك إلى "إصلاح" أي إلى عودة نحو "الأصل" الذي قع الابتعاد منه أو الانحراف عنه.

أطروحة الأصل أو المصدر هذه، يبدو أنها كانت دينية وثنية، قبل أن ينظر لها فلسفيا (=ميتافيزيقيا) ثم بعد ذلك ترتد على الدين نفسه بالتأويل إيجابا. وذلك خاصة بتحريره من التأويلات الإيديولوجية السلبية أو الرجعية.

وأتصور لذلك اليوم، إن ذلك "الأصل" المفترض، والذي يقع الانحراف (الفساد) عنه كل حين، ويحتاج من تم إلى "إصلاح"، هو بالضبط ما يصطلح عليه ب"الفطرة" أي كل ما به تمكن البشر (=الآدميون) من الانتقال الثوري العظيم، من الغابات إلى السفوح، ومن الهمجية إلى المدنية، ومن الفوضى إلى النظام ومن العنف إلى السلام ومن الغريزة إلى العقل أي من الحيوانية إلى الدين وإلى التدين.... 

تم ذلك في مجتمعات ما قبل الإيديولوجيا، بالتالي ما قبل الدولة والطبقات الاجتماعية... إذن ما قبل العنف الاجتماعي والمجتمعي، وشتى وسائله والتي من نوعه: الاستعباد والاضطهاد والقمع والحروب الكراهية والحقد الكذب...إلخ.

لقد استمرت البشرية-الآدمية ثم الإنسانية، وحتى اليوم، تحن إلى ذلك النمط من الاجتماع البشري الفطري، فحولت لذلك (أعادت إنتاج) ذاكرتها إلى خيال، وماضيها إلى مستقبل، وحنينها إلى أمل ورجاء، وتصورت (=توهمت) لذلك، أنه نمط تحقق خارج الأرض وخارج الزمان، مع أنه كان هنا، وفي حدود ما قبل عشرة آلاف عام في الأقصى، أي قبل تأسيس الطبقات والدولة في المشرق أولا.

جميع الأنبياء والرسل والأولياء والصلحاء والكثير من الفلاسفة (سقراط مثلا) والمتصوفة، اشتغلوا على هذا الرهان، ونجحوا في الاقتراب منه فرديا، 
أو حتى في تحقيقه جزئيا، ولو لفترة قصيرة أو بين جماعة قليلة.

1/2-مناط الاختلاف في جميع ذلك، لا يكمن في المبدأ والغاية، بل في السبل والطرق التي ينحوها الإصلاح لأجل تنزيله واقعيا وعلى الأرض.

أ-جميع دعاة الإصلاح وحملته، هم بشر لا ملائكة، ينتمون إلى مجتمعات غير متجانسة، فهم لذلك جزء من صراعاتها، غير أنهم يعبرون حكما، في دعواتهم الإصلاحية تلك، عن القسم المتضرر من نظامها، ولكن أيضا المؤهل لقيادة معركته (=الإصلاح).

ب-لا تأتي مرحلة الصدام عفوا أو دون مقدمات، إن الخطاب الإيديولوجي ملتبس دائما، غامض وغير مباشر، وأحيانا يبدو حتى متناقضا مع أهدافه، ذلك لأنه عندما تكشف الإيديولوجيا عن نفسها، فإنها لا تعود كذلك، وذلك لا يتم إلا عند استوائها اجتماعيا وسياسيا، ومن تم تنزيلها الميداني لـ"الإصلاح" إياه. 

ت-ذلك يعني، أن وعي برامج الإصلاح، وتكريس عقيدته أو أطروحته، لا يتم بمعزل عن مقدمات تسبقه أو إجراءات ترافقه. وهذا بالضبط ما يتجلى في الآداب والفنون والعادات والسلوك والمبادرات الاجتماعية أو المجتمعية المختلفة.

ث-ثم هل من الضروري شرطا، وعي المصلح بهدفه، حتى يحتسب مصلحا، قد يكون ذلك هو الأفضل، غير أنه قد لا يحصل دائما، بل وقد يتم بعكس النوايا أحيانا، وإلا فهل تقصد الاحتلال والاستعمار إلى الإصلاح كهدف له. ومع ذلك فلقد تحقق منه الكثير على يديه وتحت إشرافه، وأحيانا قد يتم ذلك بنتائج أفضل من أولئك الذين تقصدوا إليه قصدا، وذلك كان منه بشتى الأشكال والصيغ، أخطرها كان غير مباشر. لقد كان المغاربة يعتبرون الاحتذاء الغربي وإطلاق شعر الرأس وشرب القهوة والشاي.. بل وعلاج بعض الأمراض بالأدوية العصرية... حراما (؟!)..إلخ.

والسيد المسيح عندما قدم لزيارة بيت المقدس، ولاحظ كيف كان الأحبار يتاجرون باسم الدين، في المال (الربا) والحمام، فقلب عليهم طاولاتهم صارخا "هذا بيت الله وليس بيت اللصوص" هل كان يتصور نفسه مؤسسا لدين جديد، بل وحتى إلاها، وليس وحسب مصلحا (؟!) صحابته والشرط التاريخي لاحقا... هما من قام بذلك، نيابة عنه ولكن باسمه.

ونفس الاستنتاج يمكن الخروج به عند لقاء الغزالي بنظام الملك (الصدر الأعظم) واستجابته لمطلب هذا الأخير في تأسيس ونشر المدارس "النظامية"، سبيلا وحيدا لإصلاح دين المجتمع، بعد أن وقع انحرافه، خاصة على أيدي الإسماعيلية. هو لم يكن يتغيى سابقا، أكثر من إصلاح القلوب والسلوك (الأفراد) لا المجتمعات والأنظمة... غير أنه فعل... وآثار إعادة صياغته للحقل الديني وإصلاحه ما تزال ماثلة ويعاد إنتاجها في كل حين واحتياج (في المغرب أخيرا).

ج-بعض هذا، هو ما قصدته عند القول بأن "الصهيونية" مثلت "نوعا" من الإصلاح لليهودية الموروثة أو الإيديولوجية أو المحرفة... وذلك سواء من قبل الأنظمة العبودية أولا، ثم الإقطاعية لاحقا. والحال أن (الصهيونية) هي منتوج النظام الرأسمالي الحديث، خاصة في مرحلته الاستعمارية.

تعليق: أكثر المشتغلين بالثقافة، والتي تسمح بها وتشجع عليها القراءة والكتابة، يميلون إلى تضخيم أهمية الأفكار والأطاريح المجردة في صناعة الأحداث والتاريخ، ولذلك فهم في التنوير مثلا أو في غيره. يؤكدون على دور الفلاسفة (ومنهم مندلسون) أكثر من الحركات الإصلاحية والتنويرية التي تحققت من خلال الآداب أو السياسة أو الممارسات الاجتماعية الملموسة، والتي هي في أغلبها ذات طبيعة شعبية لا نخبوية. وهذا بعض سر ذلك التهميش وحتى التحقير لما ينتبه إليه غالبا علماء الاجتماع والانثروبولوجيا والسياسة الأدب...إلخ.

لا يقتصر الأمر على حقل الأفكار، بل يعم أكثر، حقل الأشياء والاختراع التقني، فأغلبها كان من ابتكار ممارسيها في الإنتاج، بالتالي المصطلين بعواقب "انحرافها" المؤذي لأطرافهم، فيضطرون لذلك إلى "إصلاحها" وتطويرها... لا بهدف مضاعفة الإنتاج أو اقتصاد الزمن... بل فقط وأساسا، تلافي أخطارها وتهديداتها المحدقة بهم خلال عملية الإنتاج.

ومن حسن الصدف، أن ترك لنا التاريخ مخترعا عظيما لم يقتحم مدرسة قط. كان هو "أديسون"، وأمثاله ليسوا قلة.

بل ولنعد إلى التاريخ وإلى ما قبله، فمن كان مخترع العجلة، الفلاحة والزراعة والطحن والعجين والخبيز...إلخ وهي ثورات، وليست فقط إصلاحات، إنهم المنتجون المباشرون للعالم ولأنفسهم في نفس الوقت. لم يتخرجوا من مدرسة ولا جامعة، ومع ذلك صنعوا ماضيهم وحاضرنا حتى اليوم.

2- في الصهيونية:      

أ-ترى أين يكمن البعد "الإصلاحي" للصهيونية إذن، مقارنة إلى الإيديولوجيا اليهودية (وليس إلى الدين اليهودي الأصلي، والذي ليس هو سوى المسيحية أولا قبل انحرافها ثم الإسلام لاحقا...)

لقد تصورت الجماعات اليهودية، وذلك في شروط تاريخية معقدة في الزمن، وتحت ضغط وتأثير قادتها من الأحبار، والذين كانوا في الأغلب حكاما و/أو تجارا، توحدهم مصالحهم مع الحكام والتجار "الأغيار" أنها: 1-شعب 2-مختار ومفضل من قبل "رب" 3-وإن تلك هي هويتهم مهما تفرقوا في الأرض 4-وإن "الآخر" أو "الأغيار" ليسوا بشرا، بل فقط عبيدا، خلقهم "الرب" على شاكلتهم، وذلك فقط للاستئناس بهم خلال استعبادهم لهم 5-فهم لذلك شر وحرام مطلق ويعتبر قتلهم شرطا لدخول الجنة المقصورة عليهم 6-وهم لذلك لا يشركهم مشترك، مع "الأغيار" بما في ذلك خاصة المواطنة و"الدولة" (=السياسة) 7-ومن تم، يجب حرب الأنظمة جميعا، ذلك لأنها ظالمة... (لهم) وسيادة الفوضى لذلك، هي شرط لإقامة الدولة اليهودية الوحيدة العادلة، ولكنها أيضا المؤشرة إلى نهاية الكون (=القيامة) وذلك بهبوط "المسيح" واسترجاع "الجنة" والحرب الماحقة (=الهرمجدون) وهو اليوم، في نظر الإنجيليين الجدد، بلغ السماء الثالثة. وعليهم لذلك أن يسرعوا في بناء الهيكل، بعد هدم المسجد الحرام، ذلك لأنه سينزل على سطحه (؟!)

ب-الصهيونية تعديل و"إصلاح" لأغلب ذلك: 1-فهي تعتبر اليهودية لغة وثقافة جامعة وموحدة، لا عقيدة، لذلك تجد أكثر مؤسسيها غير معتقدين 2-تعوض الوحدة الملية ب"المواطنة" أو الوحدة "الشعبية" اليهودية 3-تتحدث عن الدولة المدنية-الديمقراطية لا الدينية، ولا تشترط لقيامها نزول المسيح 4-لم تشترط لذلك أرضا موعودة "فلسطين"، بل أية أرض غير مأهولة (أمريكا أولا ثم إفريقيا...) وذلك قبل أن توجه (ترغم) على احتلال فلسطين، واضطرارهم لذلك إلى تهجير شعبها، وذلك من قبل الاستعمار الأوروبي أولا ثم الأمريكي.

ت-أكثر ذلك، أوعز به، أو شجع عليه، مسيحيون صهاينة، لا يهودا، وهو في الأصل، انعكاس لتأسيس الوعي القومي والدولة الرأسمالية المركزية الحديثة، المدنية والديمقراطية، غير أنه أيضا، كان يستهدف مطلبا رأسماليا أنانيا وعنصريا (الحداثة لا تعني الطهارة مطلقا من القدامة) ألا وهو تقليل الأفواه من جهة، وخاصة إذا كانت أيضا عقولا وتجارب واحتكارات منافسة... كما هو حال يهود أوربا ولا يتم ذلك بغير الحروب (أهلية أو حدودية) وقد عانى يهود أوروبا منها كثيرا (الأندلس مثلا) وبغير التشجيع على الهجرة عن طريق الأوهام الإيديولوجية، ومن ذلك بالطبع الإيديولوجيا "الصهيونية" فهي البوثقة التي انصهرت فيها مطامع طبقية واحدة، رغم أنها مزدوجة العقيدة، أقصد التجار اليهود، متواطئين في ذلك مع "الأغيار" المسيحيين في هذه الحالة، ولاحقا المسلمين أيضا.

بل إن تمة نموذج صارخ، على عدم اشتراط القصدية، في مردودية الفعل التاريخي ضرورة، وهو للمفارقة، يخص واحدا من أهم رموز الإصلاح الديني، ذلكم هو لوثر نفسه، فعندما فوجئ، وهو الفطري القروي، ما تصنعه الكنيسة ورهبانها من تجارة بالدين باسم "صكوك الغفران"... ومن تم تسييسه في صراع الطبقتين الإقطاعية النافذة والوسطى المعارضة، قرر أمرين: 

1-العمل على إنقاذ الدين والتدين ومؤسساتهما، من امتهانه السياسي وتحريفه عن وظيفته الأصلية، هو لم يكن يقصد خدمة الطبقة الوسطى، ولكنه فعل، ذلك لأنه جرد غريمها (الدولة الإقطاعية) من أخطر أسلحتها (الإيديولوجيا الدينية) وبذلك أضعفها لمصلحة البورجوازية الصاعدة، موضوعيا.

2-تجريد راهب الكنيسة من سلطته أمام المؤمنين، والمتمثلة خاصة، في معرفته للغة الإنجيل "اللاتينية" حيث عمد إلى ترجمته إلى اللهجة الألمانية، وبذلك حولها إلى "فصحى" تكتب وتقرأ، وحيث إنها حملت كلام الله، فلقد اعتبرت لذلك مقدسة فوق ذلك، والحال أنها أضحت كذلك، لأنها سمحت بإنتاج أمة جديدة ودولة جديدة وثقافة وآداب جديدة فصيحة معبرة موحدة وموحدة، ساهمت في شروط إنتاج ما لم يكن يخطر له على بال، كنيسة جديدة بعقيدة مختلفة، أسهمت، ليس وحسب في صنع أمم قومية عصرية، بل وأيضا في اقتصاد رأسمالي، ومجتمعات بورجوازية حديثة تلائمه.

ترى هل كان لوثر يتقصد إلى كل ذلك، أبدا، لقد كان بعيدا جدا عن الصراع الاجتماعي-الثقافي السائد في زمنه، بل لقد كان في أغلب مواقفه رجعيا، تماما مثل الخميني لاحقا، فلقد منعا معا الموسيقى غير الدينية واحتقرا المرأة واعتباراها غير مساوية للذكور... والفرق بينهما، أن قلب لوثر كان مع النبلاء والأمراء سياسيا، وكان يحتقر ويعادي الحركات الشعبية(؟!) إن أكثر الجديد، ينبثق من القديم، وليس فقط في مواجهته (؟!)

إن هذا هو بعض ما تعنيه عبارة "وما رميت إذ رميت" ولكن الله أو أداته الرئيس المتضمنة في الزمان (=التاريخ). وهو ما يؤكد الطابع الموضوعي للأحداث التاريخية، وأن منطقها لذلك، لا علاقة له، إلا عرضا، بالنفسيات والإرادات 
أو الميول الثقافية أو الدينية...

لقد سبق للمهدي بن تومرت أن عمد إلى نفس الصنيع في ترجمة القرآن، وإن كان لأهداف غير تلك، غير أن النتائج هنا لا علاقة لها بالنتائج هنالك، ذلك لأن الشروط غير الشروط، في جميع مكوناتها التاريخية وبالتالي الثقافية والجغرافية. 

وهو ما أفصح عن نفسه منذ البدايات الأولى للتأسيس، ثم تصاعد متسارعا لقد انتهى جميع الصهاينة المؤسسين، إلى التهميش بالعزل الذليل (بن غريون في مستشفى للأمراض العقلية، بعد أن اكتشفوا مراسلاته السرية المتبادلة مع جمال ع. الناصر، وذلك في اتجاه عدم التورط في حروب عربية يهودية لن يستفيد منها سوى الغرب الاستعماري "المسيحي" الحاقد على الطرفين معا وفي نفس الوقت) إسحاق رابين (باغتياله) أولمرت (بسجنه في قضية أخلاقية؟) أما شارون نفسه، الذي خالف الوعد الإلهي، وسلم غزة إلى أصحابها، فكان مصيره فتوى الحبر الأعظم بحرمانه وعدم الصلاة عليه، أو دفنه في مقبرة يهودية، وهو اليوم مجهول القبر وذلك بعد تعذيبه عشرة أعوام في موت سريري(؟!) تخفيفا عليه من عذاب اليوم الآخر، ذلك لأنه كان رغم "ذنبه" الذي لا يغتفر، جنديا مثاليا في تقتيل وتحريق وتشريد... الأغيار الفلسطينيين (؟!)

في المقابل، فلقد ارتد الكيان المصطنع (إسرائيل) نحو الحكم المباشر لرجال الدين، متحالفين في ذلك مع تجار الحرب والسلاح والربا والمضاربة والاحتكار والغش... كما كان الأمر سابقا، والرمز المعبر عن جميع ذلك اليوم هو "نتنياهو".

ج-إنه لا جديد في كل ذلك، لقد فشل الإصلاح الصهيوني لليهودي، تماما كما انتهت الليبرالية نفسها في الغرب، إلى التوحش والنظام الرأسمالي إلى فوضى عارمة (خلاقة؟!) والاستعمار إلى فتن وحروب، والثقافة إلى فولكلور واستعراض واحتفال وإشهار.. والسياسة إلى بهتان، والأخلاق إلى مثلية ومخدرات وقمار وعري وتعهر وعنف ومخاطرة وتطهير قومي... فلم يعد الإصلاح ممكنا بغير الثورة لقد تأكدت أطروحة ماركس، ليست "اليهودية" في الممارسة العينية، سوى إيديولوجية التجارة الربوية، ولتحرير اليهود، بالتالي البشرية جمعاء، يجب تحريرهم وتحريرها من رأسمالية الربا والمضاربة والاحتكار والاستغلال والقمار والتهتك...إلخ.

ح-تمة بالمناسبة نظائر أخرى على هذا النمط من القطائع المصطنعة في تجارب معاصرة أخرى. انتهت بها وسائلها غير المطابقة لنواياها وأهدافها المعلنة والمغلوطة غالبا، إذن الإيديولوجية، بالمعنى الرجعي للمصطلح، إلى خلاف، بل وحتى إلى نقيضها المطلق، أهم ذلك مما هو معروف:

1-رهان أتاتورك على لائكية مشوهة وغير مطابقة للشروط التركية، وأيضا على إفقاد الشعب التركي لذاكرته الثقافية-الدينية والحضارية  (ازهايمر ثقافي) وذلك بحرمانه من أداة التواصل معها (الحرف العربي) والاستعاضة عنه بحرف لاتيني... والنتيجة ما نعاينه، ويعاني منه الشعب التركي، بل ومجموع شعوب ودول المنطقة من مآسي وحروب على جميع المستويات، وحالة التمزق الوجودي للدولة وللشعب بين هويتهم التاريخية والجغرافية من جهة، وانتمائهم الراهن لاستراتيجية أعدائهم الموضوعيين، بل وأعداء البشرية جمعاء (الحلف الأطلسي) والتزاماته المعلنة مع قاعدته العسكرية الاستعمارية (=إسرائيل).

2-المثال الثاني الشبيه، هو إيران الشاه، الذي اصطنع لمملكته تاريخا إمبراطوريا وثنيا وعبوديا، يرتد عما قررته الشعوب الإيرانية من مصير لها، في ظل الإسلام عقيدة وثقافة وحضارة، وبالتحالف مع جوارهم العربي، لا بالتجانف.. فكانت النتيجة، أن تضخم دور الدين والتدين في الأثر والتأثير، وصار يغني عن السياسة  نفسها ويعوضها. وأنتج نقيض أهدافه وأهداف الاستشراق الأمريكي الناصح له، دولة "دينية"(؟!)

3-ونفس الأمر بالنسبة للتجربة البورقيبية، فلا حاجة للتفصيل فيها فهي معروفة من حيث مظاهر تدخل الدولة بفجاجة في الشأن الديني (التعبدي خاصة)، وبعض عواقب ذلك، في انتشار التطرف الديني القاعدي الإرهابي والمتوحش في صفوف شبيبتها، والانتصار الانتخابي لـ"الإسلام السياسي". 

4-وهو نفس الهدف المقصود من قبل الاستعمار، عندما يقترح (يفرض) علينا التخلي عن الفصحى وتسييد الدارجات، وكتابتها بالحرف اللاتيني، وتعويض الحرف العربي في كتابة المازيغية بالحرف الفينيقي، وحذف بعض الآيات القرآنية من التعليم، وتهجين العربية بالفرنسية في الإعلام...إلخ.

خلاصة: إن القاعدة الجدلية (كدت أقول الذهبية) للأفكار وللتاريخ... هي أنه لا جديد دون قديم، يتخلق فيه وينبثق منه، وكأنه جزء منه واستمرار له. وغير ذلك عبث ومضيعة للوقت وللجهد، وانتحار فكري وسياسي. ومن لا يعتبر بمنطق التاريخ (التاريخانية) ينتهي ضحية لقواعده، ومن لا استراتيجية له، يشتغل حتما في خدمة استراتيجية غيره، وقد يكون هذا الغير خصيما له أو حتى عدوا، إرادة الطموح ضرورية، ولا تاريخ دون مآسي، غير أن المهازل ليست كذلك بالضرورة، شرط توفر الوعي التاريخي.

3-اليهودية مجددا: 

إن ما يؤكد الطبيعة الموضوعية للتاريخ، كما أكد ذلك ابن خلدون قبل هيجل، وأن الإيديولوجيات، تبقى محض أوهام، وقد تنتهي في مساعيها إلى نقائضها، عندما لا تكون مرتبطة  بوعي قواعده (=التاريخ) واستيعاب منطقه والرهان على تقدمه. لقد انتهى كل شيء إلى عكسه.

أ-لم يتشكل في فلسطين المحتلة "شعب" يهودي منشود، بل فقط مجتمع ملتقط من حوالي مئة شعب، يحتاج إلى عشرات الأعوام، حتى يتحقق اندماجه وانسجامه. وإذا لم يكن تمة شعب، فليس تمة دولة إذن، بل "إدارة دولة" فقط، ووجود إدارة 
أو إدارات في فلسطين المحتلة، لا يعني وجود دولة (=مستقلة وذات سيادة).

ب-لم يمكنهم ذلك التجمع البشري العولمي، من التحرر من أنظمة "الملاح"، بل تحولوا فقط من ملاحات عزل عنصري، محلية أو وطنية، إلى "ملاح" عولمي في خدمة الاستعمار والرأسمالية العالمية.

ت-لقد تحولوا من مضطهَدين إلى مضطهِدين، من مواطنين إلى محض مرتزقة، من أرض موعودة باللبن والعسل، إلى قاعدة عسكرية ذات طبيعة عدوانية وتوسعية محاصرة بمليارين من المسلمين...

ث-وها هي ذي "جنة" دولة المواطنة وسيادة القانون والديمقراطية (=إسرائيل) تستحيل تدريجيا، إلى دولة الجنود والعقيدة المسلحة، وترتد "الحداثة" الصهيونية يوميا إلى قدامة دينية، بل إلى ما قبل الدين نفسه، إلى نشر الفوضى والعنف والتهتك والتوحش...

4-مسألة الخصوصية: 

4-1-استهل الأستاذ مقالته "الملاحظات..." وختمها بنفس موضوع 
أو قضية "الخصوصية اليهودية" التي "سقطت" فيها مقالتي، والتي هي في نظره "نظرة نمطية" خاطئة تستعملها الصهيونية لمصلحتها، كما يوظفها ضدا على اليهود خصومهم وأعداؤهم من منطلقات عنصرية. وهذا الأمر الأخير، صحيح تماما. وهو يؤكد أن الفكر الرجعي (العنصري في هذه الحالة) هو أبدا واحدا ومطابقا لذاته، وذلك أنى تموقع إيديولوجيا وسياسيا يمينا أو يسارا، حاكما أو معارضا... غير أن خلفيات طرحي للمسألة، لا علاقة لها بذلك مطلقا(؟!)

إن "الخصوصية" التي تعيبها "الملاحظات.." هي تلك التي تدعي: "الثبات" و"الجوهرية" و"الأصل" المفترض... ومن تم الحالة "الطبيعية"...، وتلكم رؤية وضعية فاسدة نظريا، ولا تفسر حدثا في المجتمع أو التاريخ، إلا إذا تم ذلك على سبيل التوظيف الإيديولوجي المغرض وإلا فـ"كلكم لآدم، وآدم من تراب" المشترك البشري وتاريخه لذلك، لا علاقة لحركته بقوانين الطبيعة وحتمياتها، بل بالجغرافيا والتاريخ وقواعد الاجتماع التي تؤطر وتضبط، في كل حين، حرية الإنسان وحركته الإرادية من أجل البقاء ومن أجل تحسين شروط الحياة بين الناس ومع الطبيعة.

ذلكم هو العام، ولا عام دون خاص، والجدل بينهما قائم دائما، فالعام هو مجموع خواصه، ولا وجود لخاص، خارج ما يجمعه إلى خصوصيات أخرى ضمن ما هو عام، تستطيع أن نلاحظ ذلك حيثما التفتت في المجتمع والتاريخ، ذلك انطلاقا من العائلة والأسرة والجيرة والحي أو القرية... إلى الجهة والوطن والدولة. فلا خاص يلغي العام، أو العكس، بل إنها جميعا لا تفهم، إلا باعتبار علاقاتها العضوية ولكن أيضا وأساسا الجدلية.

الخصوصية إذن ليست "الهوية"، والإيديولوجيات الرجعية تخلط بين الأمرين عن قصد، هي إما وضعية، تطابق بين البشر والحيوان، وبين المجتمع والطبيعة، وبين قوانين هذه الأخيرة وحتمياتها، وقواعد المجتمع وحرية مكوناته... أو دينية ميتافيزيقية، أو أنتربولوجية تضخم من دور الثقافة في المجتمع والتاريخ، وذلك بعد أن تكون قد شوهت هذه الأخيرة (=الثقافة) وحجمتها أو اغتالتها إلى محض "فولكلور" وما يجاوره (إعلام واستعراض وفرجة وإشهار...إلخ).

مفهوم "الخصوصية" التي استنتجه الأستاذ بحق من خلال مقالتي، هو منتوج التاريخ إذن (ومنه الجغرافيا) لا الطبيعة (الأصل) ولا الثقافة (الدين أو الفولكلور...) وذلك يعني أنها حالة زمنية، إذن تاريخية لا طبيعية، متغيرة غير ثابتة، لا تفسر نفسها، ولا تعكس جوهرا ما وهمي ومفترض (غير واقعي)، بل يفسرها العام، ولا تفهم بدونه وأحرى خارجه.

4/2-إن الاسم الاصطلاحي الذي يطلق علميا على مثل هذه الحالة من "الخصوصية الاجتماعية أو الثقافية... هو "الجماعة الوظيفية"، وهو تصنيف عمودي في علم الاجتماع، لا أفقي (=طبقي) كما توهم الكاتب وأطلق عليها "الطبقة الوظيفية" وهو تناقض، إذ الطبقات في المجتمع الطبقي، تمثل نفسها، ولا يتصور أن تكون موظفة لخدمة غيرها، هي ذات وجود موضوعي (اقتصادي – سياسي...) لا إرادي ذاتي وأحرى مصطنع، من قبل غيرها مثل حالة "الجماعة الوظيفية".

في جميع المجتمعات التاريخية، نلاحظ، فضلا عن الوجود الموضوعي للطبقات، أن تمة جماعات خاصة (=جهوية، قبلية، دينية، مذهبية، طائفية، ثقافية ولغوية...) معزولة ومهمشة، أو موازية للمجتمع الوطني، لا تشتغل علاقات مكوناتها بمنطق وآليات صراعه. بل توظف غالبا، من قبل الطبقة السائدة فيه (المجتمع الوطني) وذلك لخدمة جملة أهداف ومقاصد نفعية، لا تقتصر على خدمة الحكام وحدهم، بل تعم بقية مكونات المجتمع الأخرى، بما فيها تلك المغلوبة على أمرها، والتي يقع إيهامها أنها على الأقل ليست منبوذة ولا مهمشة، بل وإنها قد تستفيد أحيانا هي أيضا، من بعض خدمات "الجماعة الوظيفية" المرذولة والمعزولة.. تلك.

تعتبر الجماعات اليهودية من أكثر أنماط هذا التجمع نموذجية في هذا المعنى، غير أنهم، ليسوا الأوحدين، هنالك نماذج أخرى تعتبر ربما أقل عزلة وتوظيفا، فمنبوذ والهند مثلا والغجر حيثما حلوا، والشيشان حتى اليوم وقبائل سويسرا في الماضي وفي الحاضر كذلك، وإن بصورة مقلوبة، والقبائل والجهات والمناطق التي ازدهر فيها الإرهاب الإسماعيلي (القرامطة والحشاشون) وقبلهم تلك التي أنتجت الخوارج (=الأزارقة خاصة)، وفي بعض الأطلس الصغير المغربي والريف بالشمال...إلخ شروط وحالات متباينة، غير أنها تشترك في شروط قابليتها للتوظيف. بل قد يصل الأمر درجة تأهيلها في صيغة إدارات منظمة عسكريا وسياسيا، غير أنها مع ذلك ذات مهام وحدود وظيفية ليس إلا. ومن ذلك مثلا حالات سويسرا الراهنة-وإسرائيل ولبنان، وأكثر إمارات الخليج ومشروع الجمهورية المسخ في صحرائنا الجنوبية...إلخ وذلك مقارنة إلى "المجتمع الدولي" في تلك الحالات (وهو غير الأمم المتحدة) في مقابل "المجتمع الوطني" في الحالات الأدنى المذكورة سابقا. وآخر نماذج ذلك التوظيف للهامش وللمهمشين، الدور التخريبي والمتوحش لـ"دولة" داعش بمختلف نسخها وأسمائها.

4/3-هذا النمط المخصوص من الاجتماع البشري الهامشي والموظف لأهداف لا تخصه بل تهم وتخدم غيره. لا يفسر نفسه إذن، بل يفسر بخارجه، بالذي يوظفه، تلبية لاحتياجاته ومطامحه، والقيام نيابة عنه، بما لا يستطيع هو نفسه القيام به، أي "المجتمع الوطني" أو الأهلي أو المدني اليوم. 

يقتضي الاجتماع الإنساني في شكل وطن ودولة، التوافق الصريح والضمني، على ميثاق ديني وأخلاقي وسياسي... بدونه يستحيل الاجتماع، ويحاسب المخل به من قبل الجميع قانونيا أو دينيا أو أخلاقيا... بالاستهجان والتعيير والعزل... (وهو الأمر الذي ينقصنا اليوم لتأويل الدستور وأحرى الالتزام به) 

غير أن جميع المجتمعات الطبقية تلك، وخاصة منها سادتها، يحتاجون في حياتهم ومن أجل نفاذ حكمهم، إلى اقتراف محرمات ومكروهات... ولكن مع حاجتهم الحيوية في نفس الوقت إلى الحفاظ على التماسك المجتمعي ووحدة الضمير الوطني، حل المعضلة، يتم غالبا بتكريس وضعية هامش ما مجتمعي، تزكى وتدعم قيادته الدينية أو التجارية أو العسكرية... ويتم تضخيم مصطنع ونفخ في خصوصياته، بحيث تصبح متعارضة مع قيم وهياكل المشترك الوطني، بل والإنساني نفسه، وتتصور الجماعة الوظيفية تلك، وكأنها هي التي اختارت وضعيتها "الهوياتية" و"خصوصيتها" الوهمية، وإذا نزع فرد أو أكثر منها، نحو الانسحاب والاندماج في الجماعة الوطنية (دينيا مثلا) فإن حكام هذا الأخيرة، يخبرون حلفاءهم، القائمين على قيادة وضبط الجماعة الوظيفية تلك، فتمارس عليه هذه الأخيرة من القمع والعزل، ما يضاعف من وضعيته السابقة ضمن جماعته المهمشة وظيفيا.

هكذا إذن، فالجماعة الوظيفية، حيث كانت في المجتمعات التاريخية، وأبرزها الحالات اليهودية في الملاحات، هي منتوج لغيرها، هي ضحية مزدوجة لسادتها المباشرين من جهة، وتحالفهم بل وتوحدهم مصلحيا مع حكام الدولة، من جهة ثانية، سواء أكانوا سادة مستعبدين في العصر القديم، أو إقطاعيين في العصر الوسيط أو رأسماليين كما هو حال عصرنا وراهننا.

إنه لا حصر للوظائف المرذولة تلك، والتي تخزي الضمير وتفكك الوحدة، ولكنها في نفس الوقت مطلوبة ومرغوبة من قبل عموم المجتمع الطبقي وخصوص سادته وحكامه، ولذلك يعمد إلى "تخصيص" مجموعة للقيام بها، ويصطنع لها عقيدة و"ثقافة" إيديولوجية، توهمها بأنها ورثتها، وأنها بإرادتها تحتفظ بها، بل وتتفانى في حمايتها والدفاع عنها، إلى حد الفخر والتضحية بله التلذذ ب"الاستشهاد" من أجلها.

لعل أبرز "الضرائر" المحرمة تلك، والمطلوبة في نفس الوقت، هي: الربا والاحتكار والمضاربة والغش... في التجارة، وهي قلب الاقتصاد في جميع المجتمعات، والتجسس والتزوير والمخدرات والقمار والعهارة (ويلحق بها في القديم والوسيط الموسيقى والغناء والرقص... الماجن) والألعاب الخطرة (السيرك مثلا) والسم والتسميم والاغتيال.. وفي الأقصى بالأمس، واليوم أيضا، الإرهاب، وفي القمة منه التوحش والهمجية، كما نلاحظ ذلك اليوم عيانا، في كل من فلسطين المحتلة وعموم الشام والعراق وبعض إفريقيا...

4/4-في نهاية التحليل، فهذه الظاهرة رغم ذلك، لا تخرج بحال، في خصوصيتها، عن القانون العام للتصنيف الطبقي للمجتمعات التاريخية، ذلك لأن القائمين عليها مباشرة كقيادة في الجماعة الوظيفية. هم دائما جزء لا يتجزأ من الطبقة السائدة والحاكمة، وإنما هو توزيع أدوار بينها، ذلك أنه في الحالة اليهودية مثلا، فإن سادتهم من تجار السلع وتجار الدين (وتجار الحرب والسلاح) هم جزء بنيوي من الرأسمالية المالية.. إن على صعيد الأوطان والدول، أو على الصعيد العالمي، كما هو واضح جلي في حالة "إسرائيل" مثلا.

4/5-أخيرا، فإنني لأستغرب بالمناسبة أن مقالة "الملاحظات..." تأتي في مراجعها على ذكر العالم المرحوم ع. الوهاب المسيري، وهو أمر محمود جدا، غير أن هذا الأخير، وخاصة في كتابه الهام "اليد الخفية" قد أتى على تفصيل أدق وأشمل لحالة اليهودية واليهود في العالم وفي التاريخ باعتبارهم "جماعة وظيفية"، وهذه لذلك هي مصدر "خصوصيتهم"، وليس أمرا آخر.

4/6-بقية قضايا النقاش، اعتبارها جزئية أو ثانوية من ذلك: 

أ-مسألة الغزاوي، الذي لم ينف المقال حقيقة عرقلته للهجرة اليهودية بل أكدها، وكذلك مسألة المساومة المالية أو العينية في تهجيرهم، بل اضاف أسماء أخرى، وهناك غيرها لم يكن من المناسب ذكرها...إلخ.

ب-أما أن "الهسكلاه" والأهمية المتميزة للفيلسوف اليهودي المتنور "مندلسون" فإنه أمر لا نقاش حوله وحول أهميته القصوى في مسألة الإصلاح الديني اليهودي، أنا فقط أضفت اعتبار الصهيونية "نوعا" من رهانات الإصلاح، وذلك عن طريق تنزيله وتصريفه اجتماعيا وسياسيا، غير أنه فشل كرهان، وذلك لفساد منطلقاته ومسارات توظيفه ومآله الاستعماري. وكما قال ماركس مرة أخرى، عن مثل هذه الحالات في التاريخ "إن "شعبا" يستعمر شعبا آخر، لا يمكن أن يكون هو نفسه، حرا". 

إن اليهودية المحرفة إيديولوجيا، وذلك من قبل إدارات دول الاستعباد في القديم (الرومان) والأقطاع الكنسي في الوسيط ما تزال تعتقل اليهود في حنين مرضي إلى إعادة إنتاج وتقليد لمن اضطهدوهم ووظفوهم في الماضي، أحبارهم وتجارهم وجنرالاتهم... اليوم يعيدون مجددا، إنتاج نفس "الجماعة الوظيفية"، وهذه المرة في خدمة سادة جدد هم الرأسمالية الإمبريالية، وفي المقدمة منها الأمريكية، الرهان "الصهيوني" اتضح أنه وهمي، فهم عاجزون عن إقامة دولة المواطنة وسيادة القانون والحريات والمؤسسات الديمقراطية (=دولتان، أو دولة واحد لمجتمعين)... كل ذلك عمليا لم يكن سوى تغليط وتضليل استراتيجي واستدراج لإقامة "دولة" العنصرية والاستعباد والاستبداد "اليهودية" وهو الأمر المستحيل قيامه في عصرنا الراهن.                           

Share this content:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share this content: