ع. الصمد بلكبير
يختتم السيد محمد أمزيان خاطرته في المساء (282/4/15) قائلا: "السياسة مهنة، ككل المهن" وهذه لعمري طامة في الممارسة، ومفسدة مفهومية. ومقتل العمل السياسي، ومؤسساته، وخاصة منها الحزبية ثم النقابية...
لقد طالما كافحت بشرية العصرين القديم والوسيط لأجل تكسير جدار احتكار الشأن العام لأقلية تستأثر بالثروة وسلطة الحكم، على حساب عبيد وأقنان رعايا، وذلك ببروز "الشعوب" ومجتمعاتها المدنية، وثوراتها التي أقامت الأوطان والمواطنة ومن تم الدولة المدنية الحديثة (الديمقراطية) بدلا من الدولة التقليدية (الإقطاعية) الدينية والعائلية والقبلية...
لا تعني المواطنة سوى الحق في المشاركة السياسية بجميع مستوياتها (تأسيسا دستوريا وتشريعا وتسييرا ومراقبة ومحاسبة...) وضمان ما به يتمكن المواطن من ذلك.
تمة خلط سائد بين النشاطين السياسي والحزبي. فالأول حق، بل وواجب أحيانا، يمارسه الجميع ضرورة وموضوعيا، في حين يبقى الثاني عملا تطوعيا يختاره البعض دون الآخرين، ولفترة أو فترات، تطول أو تقصر حسب كل حالة.
أما عندما يوظف حزب أو نقابة... مناضلا متفرغا ومأجورا للتسيير (مدير مقر- مفتش...) فهو بصفته تلك، موظف إداري لا "سياسي" يفترض فيه الحيدة والموضوعية كموظف حزبي بين تيارات تنظيمية. وله الحق طبعا في آرائه ومواقفه كمناضل، لا كمسؤول إداري مهني مأجور حزبيا أو نقابيا...
وكذلك هو الأمر بالنسبة لموظفي الإدارة (ترابية- أمنية- عسكرية- مالية- ديبلوماسية...) فهم بصفتهم تلك، لا يمارسون سياسة، بل ينفذونها فقط. غير أنهم كمواطنين خارج مواقعهم الإدارية تلك، لهم كامل الحق، وحسب القانون، في ممارستها، كمواطنين في المجتمع لا كموظفين في مواقع إدارية أو أمنية...
وتعويضات المستشار في مجلس أو غرفة والنواب والوزراء... ليست أجرا لأنها ليست وظائف مهنية، هي ممارسات عابرة ومؤقتة، يتطوع المتصدر لها بالزمن، وتوفر له الدولة وسائل ممارساته التطوعية تلك، بتعويضات مالية أو عينية. تسمح له بالتفرغ أو شبهه، وتحفظ له الكرامة والاستقلالية... ولا تزيد.
جميع القادة والزعماء الحزبيين (ولا أقول السياسيين) المحترمين، كانت لهم مهن يتعيشون مع أسرهم منها، ويعتبرون نضالهم لذلك، ممارسة تطوعية، لا مهنة أو تجارة، "المرض" الاحترافي ذاك، أصاب المجتمع من إدارة دولته المستبدة، والتي اشتغلت بقصد حتى "يستوي الماء والخشبة" وتصبح الأطراف جميعها، إدارة ومجتمعا، سواء في الفساد والإفساد.
تتحدث الصحافة عن "السياسة" بالمطلق، لا عن سياسات متناقضة متصارعة، فاسدة ومفسدة من جهة، وإصلاحية ديمقراطية من جهة مقابلة. وينتشر الحديث عن "السياسيين" بل وعن "طبقة أو نخبة سياسية" بل وعن شيء إسمه "المجتمع السياسي" في مقابل "المجتمع المدني" وكأن هذا الأخير لا يمارس السياسة (قطاعية، محلية، وطنية أو عالمية) والحال أنه (المجتمع) قسيم للإدارة ومشارك في بنية الدولة الديمقراطية، متكامل معها، بالملاحظة والمراقبة والنقد والاقتراح... بل والتسيير أحيانا أيضا (المجالس الاستشارية: ترابية ومهنية وغيرها).
خصوصية الأحزاب في المجتمع المدني، أنها وسط ووسيط بين المجتمع وإدارة دولته. هي أميل إلى الأول، عندما تكون في المعارضة، وإلى الثانية عندما تحكم.
يتم اغتيال السياسة كشأن عام، عندما تنجح الإدارات المستبدة في إبعاد الشعوب عن ممارستها من خلال إطاراتها الحزبية. ويتم ذلك بالقمع أو بالاختراق واصطناع زعماء "محترفين" وتجار سياسة (مثل تجار الدين)، خدام الاستبداد ومسوغيه، والمأجورين لخدمته، الاحتراف السياسي، سباحة خارج الشعب، موت للسياسة الإصلاحية وموت للحزبية الديمقراطية. المحترفون أولئك، هم من يصفهم شعب قدحا بـ"السياسيين"، وإلا فإنه لا تاريخ للبشرية المعاصرة بدون مناضلين حزبيين أو نقابيين أو ثقافيين، أو في الإدارة...إلخ.
Share this content: