ع. الصمد بلكبير
يستحيل أن يتم التواصل والاتصال في المجتمع، بلغة لا تنمو وتتسع في التداول والاستعمال، وذلك بوسائط متعددة. لعل من أهمها المجاز ومنه الاستعارة، ومن قبيل ذلك مثلا، الحديث عن "دمقرطة" المجتمع ومنها "الديمقراطية" الداخلية للأحزاب؟
لفظ الديمقراطية نفسه، أزيح عن معناه الأول والقديم، لافتقاد المجتمع الذي كان يوصف به. وأطلق لاحقا على نظام حديث، لتوفر عناصر شبه شكلية بين البنيتين. فهو لذلك أيضا نوع من المجاز، واللغة كلها أصوات رمزية ومجازات عقلية... وإلا، فهل يمكن الحديث عن "ديمقراطية" (بالمعنى الحديث) في اليونان القديمة في شروط انقسام مجتمعها إلى أسياد وعبيد (؟!)
الديمقراطية، نظرية وآلية لتنظيم السلط وضبط الصراع حول الحكم، بين مصالح فئات وطبقات مجتمع مدني وصناعي حديث قمة نتائجها، التداول على الحكم بدون عنف، أما توظيفها خارج إدارة الدولة، للمجتمع مثلا، فهو من قبيل الاستعارة التقريبية، لأجل الاقتباس والتمثل، لا التطابق، وإلا:
- فإدارة الدولة هي لجميع مواطنيها، عدا من يقصيهم القانون، في حين، أن أمر الأحزاب ليس كذلك، فكل حزب، هو إيديولوجيا وبرنامجيا... لطبقة أو لفئة داخل طبقة حصرا. فإذا انتمى إليه أحد من خارجها فهو ملزم باحترام هويته الطبقية وبرنامجه السياسي ومرجعيته الإيديولوجية.
- ولذلك، فإن لكل حزب قوانينه الخاصة وشروطه في العضوية مكتوبة أو عرفية. من ذلك مثلا: اللباس – عدم التدخين (الهند) أو إلزامية الصلاة وحتى الرباطات... وليس الأمر كذلك في المواطنة (=العضوية في الدولة).
- الديمقراطية شرط الوحدة، بل والوجود بالنسبة للدولة الحديثة، في حين تعتبر الإيديولوجيا هي ما يلحم العضوية في الحزب، ويضمن وحدته.
- يستطيع عضو الحزب لذلك، أن يغير حزبه، بل وأن لا ينتمي. في حين لا يمكنه التخلي عن المواطنة في دولة، ولادة أو اختيارا، إلا أن يكون خائنا وعميلا (=مرتدا) (؟!)
- لنفترض أن العضوية في الحزب، وأحرى تحمل المسؤوليات القيادية فيه، أضحت مفتوحة ومتساوية أمام الجميع، مثل حقوق المواطنة؛ فذلك قد يسمح لفئة أو طبقة متمولة، أن تغزوه بجحافل من موالين أو مأجورين، ويقلبوا طبيعته، وعندئذ ستنعدم التعددية الحزبية، والتي هي شرط من شروط أي بناء للدولة الديمقراطية. أو بالأقل، فهي ستنحرف وتفسد، كما حدث ويحدث في كثير من تجارب الانتقال المتعثرة وحتى المجهضة..
لا حق لطبقة في "اللعبة" الديمقراطية، أن تتدخل في الشؤون الداخلية لأحزاب طبقة منافسة، وذلك عدا ما قد تشترطه القوانين التأسيسية المتوافق عليها، وليس التشريعية المتواطأ عليها بالأغلبية. إذن فلكل حزب "ديمقراطيته" الملائمة لهويته (؟!)
- بالرغم من أن الديمقراطية شكل أساسا، قوانين وهياكل وعلاقات وإجراءات... تفترض، مرجعيات مضمونية (=فلسفة)، غير أنها لا تشترطها في بنية إدارات دولها. في المقابل، فإن تلك المرجعيات (الأخلاقية خاصة) هي المطلوبة أكثر، في علاقات بنيات الأحزاب السياسية والنقابات، حيث النوايا والمقاصد ...أهم في العلاقات.
في ماضي البشرية القديم والوسيط، أي ما قبل تأسيس الأوطان، ومن تم الحدود، كانت "أرض الله واسعة" فمن لم يعجبه نظام دولة، وعجز عن تغييره، وخاف على معتقده.. فعليه أن يهاجر، هكذا خاطب الله كليمه موسى "أو لم تكن أرض الله واسعة"؟!. وهكذا تصرفت البشرية القديمة دائما.
أما في المجتمع المدني الحديث، فإن للمواطن أن يتحزب (وهو المفروض) وأن يغير حزبه، أو حتى أن يؤسس حزبا، فما الحاجة إذن إلى مناكفة. "وكل حزب بما لديهم فرحون"؟ إلى حين الامتحان، فعندئذ يعز الحزب أو يهان، أو حتى يقصى.
هذه "البدعة" البراقة خطابا، الفاسدة مخبرا، هي سلعة مغشوشة متفرعة عن لافتة عولمية أخرى أضحت "تسمح"، بتدخل دول إمبريالية، في أوضاع مجتمعات ودول ضعيفة أو مستضعفة، وذلك باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية وانفتاح الأسواق ومحاربة "الفساد" (=القطاع العام وخدماته) ...إلخ.
استهداف إدارات الدول ذلك، يفترض ويشترط لاحقا، استهداف الأحزاب لاحقا، أليست هي، في المنظور الحديث للدولة، مشاريع حكومات (؟!).
لقد تمكن المعهدان الأمريكيان (الديمقراطي والجمهوري) مثلا، وعن طريق التدريب والتأطير والتكوين و"الدمقرطة" ... من اختراقها، بالتوجيه، وأحيانا، بالاحتضان والتمكين (جنوب إفريقيا، فلسطين، أوربا الشرقية، بلير وساركوزي) ونفس الأمر صنعته في ما ينعت في الصحافة بـ"المستقلة" ضدا على الحزبية منها، وعلى المناضلة، وحولت بذلك قضايا الأخبار والآراء إلى سوق وسلع ومقاولات، وذلك لتسويغ الغش ونشر الفوضى في المفاهيم وفي الأذهان وفي الوجدان. وهو الموضوع الرئيس الذي انشغلت به السفارة الأمريكية في المغرب في عهد تيتويلر، ونجحت فيه.
كان الملك المرحوم، يدعو في جميع جلساته مع الكتلة، إلى حاجتها للانفتاح، وذلك باسم التشبيب والتأنيث والتقنين، وكانت الداخلية توصيهم بدمج الأعيان لتوفير المقاعد التي يتحقق بها الانتقال (؟!)
- الملك المرحوم، لم يشبب ولم يؤنث بلاطه.(؟!)
- والأعيان هم الذين خذلوا اليوسفي في العام (2002) عندما انحرف الانتقال عن سكته. وتطلب الأمر موقفا تصحيحيا للمنهجية، فقالوا له "باع".
- أما التشبيب والتأنيث والتقنية المصطنعين، فكوارثهما الانتهازية والوصولية في الأحزاب وفي البرلمان... أشنع من أن تحتاج إلى إبراز.
يتعلق الأمر في جميع ذلك، بالأحزاب لا بالنقابات. فإذا كان التعدد الحزبي فضيلة وضرورة، فإن التعدد النقابي جريمة، غير أن وحدتها (=النقابة)، تقتضي دمقرطتها ضرورة. وهذه معركتها الحقيقية، ذلك لأنها ممكنة بل وواجبة. أما "إصلاح" الأحزاب من داخلها بواسطة "الديمقراطية الداخلية" فهي محض أسطورة لا أطروحة.
الديمقراطية الحزبية= النشرة الداخلية.
Share this content: